مكتبة الإسكندرية وثورة المعرفة

د. خالد عزب

في عالم أصبحت فيه المعرفة سلعة إستراتيجية لا تقل أهمية –إن لم تكن تزيد- عن تلك السلع الأخرى التي تقاس بها قوة الأمم ودليلاً على وجودها على الساحة العالمية، ولا يكون من قبيل المبالغة أن نقول إن تلك اللحظة التي تخلَّى العرب فيها عن إنتاج معرفة علمية بمجمل أوضاعهم هي نفسها اللحظة التي تدنت فيها مكانتهم بين الأمم، وكانوا فيها مطمعًا لكافة أنواع الاستعمار التي يأتي في مقدمتها وأخطرها الاستعمار الثقافي والحضاري.

وفي عصر يشهد فيه العالم ما يمكن أن نطلق عليه ثورة المعرفة في كافة التخصصات لاسيما تلك التي تخص العلوم التجريبية الحديثة التي أصبح العالم يعتمد فيها على ما تنتجه الحضارة الغربية -ومَن دار في فلكها- من منجزات جعلت العالم يقف مذهولا من هذا التدافع المحموم على التكنولوجيا الحديثة التي يبدو بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير في مصر أن لها عظيم الأثر في إعادة تشكيل الخريطة السياسية للمجتمعات كلها دون استثناء في الحاضر والمستقبل، فهذا العالم يتطور بشكل كبير وفي اندفاع لم نر له مثيلا في العصور السابقة، حتى أصبحت المعلومات تتدفق فيه من غرب الأرض وشرقها في سرعة رهيبة جعلت العالم يعيش حروبًا أخرى غير تلك التي عاشتها البشرية في التاريخ القديم، حروبًا لم تعد أسلحتها القنابل والصواريخ كما كانت من قبل، لكن سلاحها الأكيد هو سلاح المعرفة، ولهذا لا يكون من قبيل المبالغة أن نطلق عليها "حروب المعلوماتية".

ومن هنا تأتي أهمية وخطورة الدور الذي لعبته وتلعبه مكتبة الإسكندرية منذ افتتاحها في بدايات القرن الحادي والعشرين حتى هذه اللحظات الحرجة من تاريخنا المعاصر، إن مكتبة الإسكندرية لا يصح التعامل معها بوصفها خزانة للكتب كما كانت المكتبات قديمًا، وإنما هي مشروع ثقافي متكامل يتعامل مع الثقافة بوصفها بنية أساسية تتصل بالعصب الحساس في كيان الأمة المصرية، وهي تتصرف من منطلق الدور التاريخي الذي لعبته وتلعبه مصر في محيطها الجغرافي والتاريخي.

ومن هذا المنطلق فإن المكتبة في ظل تزايد الحقول المعرفية وتنوع المصادر الثقافية واختلافها البين، فقد حرصت على تنمية مقتنياتها من المصادر التقليدية كالكتب والرسائل العلمية والدوريات والمخطوطات وغيرها من الأوعية المعرفية القديمة، إضافة إلى المستجدات الحديثة التي نتجت عن التطور التكنولوجي الهائل في العصر الحديث مثل الموارد الإلكترونية التي أصبحت على درجة كبيرة من الأهمية بالنسبة للباحثين والمتخصصين، وخاصة في مجال العلوم الطبيعية الحديثة، وكانت تنطلق في هذا من خلال كونها مكتبة عامة لا تخص الباحثين المصريين فقط، وإنما تمارس هذا الدور في إطار العالم العربي ومنطقة البحر المتوسط وإفريقيا، وتقوم المكتبة باستقبال الباحثين من شتى أنحاء العالم.

تقوم المكتبة بتنمية مقتنياتها من أوعية المعلومات العامة والمتخصصة وفقًا لسياسة تنمية المقتنيات، والتي تُحدِّد كيفية اختيار أوعية المعلومات التي تقوم المكتبة باقتنائها، وأولويات الاقتناء، ومستويات تغطية كل موضوع بما يتناسب واحتياجات الجمهور، وكيفية تكوين وتحديث المجموعات، وذلك لجميع أنواع وأشكال أوعية المعلومات مطبوعةً كانت أم إلكترونية، من كتب ومراجع ودوريات علمية ومواد سمعية بصرية ووسائط متعددة وقواعد بيانات ... إلخ

وقد تم وضع هذه السياسة لتفي بمتطلبات مكتبة الإسكندرية كمكتبة مصرية ذات طابع عالمي تقوم بخدمة جمهورها وفقًا لأحدث تقنيات القرن الحادي والعشرين، وروعي فيها الاسترشاد بالدراسات السابقة التي أعدها خصيصًا للمكتبة، منذ المراحل الأولى لمشروع إحياء مكتبة الإسكندرية القديمة، عدد من الخبراء المصريين والدوليين المتخصصون في مجال علوم المكتبات والمعلومات. ومن أهم هذه الدراسات تلك التي قام بها الأستاذ الدكتور محمد أمان عميد مدرسة علوم المعلومات والمكتبات بجامعة ويسكونسن فى ميلووكى بتكليف من منظمة اليونسكو في تسعينيات القرن العشرين إبَّان اضطلاع منظمة اليونسكو بالإشراف على مشروع إحياء مكتبة الإسكندرية القديمة، وما أعقب ذلك من تحديث لهذه الدراسة من جانب مستشاري مشروع إحياء مكتبة الإسكندرية القديمة وخاصة من المتخصصين فى مجال تنمية المقتنيات من المكتبة البريطانية واستشاريين فرنسيين ونرويجيين، ومن الولايات المتحدة الأمريكية.

وتتعدد أوعية المعلومات التي تقتنيها المكتبة ما بين كتب ومراجع ودوريات علمية، وخرائط، ووسائط متعددة، ورسائل جامعية، وقواعد بيانات، ومخطوطات، وكتب نادرة، وغيرها. وتعتمد المكتبة على الشراء كمصدر أساسي من مصادر الاقتناء، والذي يتم عن طريق الناشرين والمُوَرِّدين المصريين والعرب والأجانب. تحصل مكتبة الإسكندرية على ميزانية التزويد من وزارة المالية، وهي ميزانية مستقلة مخصصة لشراء موارد المكتبة من أوعية المعلومات. هذا وقد بلغ إجمالي مقتنيات المكتبة حتى الآن مليون وأربعمائة وخمسين ألف وعاء تقريبًا.

كما تتلقى المكتبة العديد من الإهداءات من أفراد ومؤسسات وحكومات (محليًا وعالميًا)، من بينها -وأحدثها- الإهداء الذي تقدمت به الحكومة الفرنسية للمكتبة والذي يتمثل في حوالي 500 ألف كتاب باللغة الفرنسية، كدليل على عمق العلاقات الثقافية المصرية الفرنسية.

كما تحصل المكتبة من خلال الإيداع على المطبوعات الرسمية للعديد من المؤسسات الدولية كالأمم المتحدة وعدد من منظماتها، والبنك الدولي، وجامعة الدول العربية وعدد من منظماتها، والاتحاد الأوروبي، وأيضاً العديد من المؤسسات الحكومية المصرية كمركز معلومات مجلس الوزراء المصري، والجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.

وإلى جانب المواد المطبوعة، تُولي مكتبة الإسكندرية اهتمامًا خاصًا بإتاحة مجموعة كبيرة ومتنوعة من الموارد الإلكترونية، والتي تفيد بالدرجة الأولى الباحثين للوصول إلى أحدث الدراسات العلمية؛ إثراءً لحركة البحث العملي. وفي هذا الصدد، تقدم المكتبة للباحثين حوالي 60 ألف دورية و90 ألف كتاب، من خلال اشتراكات المكتبة في 41 قاعدة بيانات متخصصة، والتي تضم مجموعات ثرية ومتنوعة من المقالات العلمية، وفصول الكتب، والأبحاث المقدمة في المؤتمرات، والرسائل الجامعية، والبيانات الإحصائية، وتتنوع قواعد البيانات ما بين إتاحة النصوص الكاملة أو المستخلصات أو البيانات الببليوجرافية لهذه المواد.

ومن الجير بالذكر أن مكتبة الإسكندرية تقدم جميع خدماتها بدون مقابل لجمهورها من عامة القراء والباحثين من مختلف الأعمار، بما في ذلك الدورات التدريبية والإرشادية الموجهة للجمهور وخدمات البحث في قواعد البيانات والحصول على كافة أنواع النتائج بما فيها من نصوص كاملة للمقالات العلمية وفصول الكتب الإلكترونية بالمجان. وتقتصر الخدمات المدفوعة بالمكتبة فقط على خدمات العضوية وتذكرة الدخول اليومية، وخدمات التصوير والطباعة.

لقد خطت مكتبة الإسكندرية الجديدة رغم حداثة عهدها خطوات عملاقة ليس فقط في سبيل توفير خدمات المعلومات والخدمات المكتبية المتميزة، بل أيضًا في التعاون الوثيق والشراكات مع أكبر المكتبات والمؤسسات المعنية بالمكتبات في العالم من خلال مشروعات رقمية كبرى ومشروعات لتطوير أدوات عمل لأخصائيي المكتبات والمعلومات في العالم، مثل تعاونها مع مكتبة الكونجرس واليونسكو في مشروع رقمي عملاق لأكبر مكتبة رقمية عالمية. كما أطلقت منذ ثلاثة أعوام مشروع مرصد المعرفة العربي والذي يهدف لتطوير وتوحيد الممارسات المكتبة لأخصائيي المعلومات والمكتبات في العالم العربي عن طريق توفير أدوات فهرسة وتصنيف شاملة وعميقة التغطية ومواكبة لأحدث الممارسات الدولية، ومتوافقة مع أهم المعايير العالمية، وبالاستعانة بأساتذة ومؤسسي علم المكتبات الكبار في مصر، لاعبةً بذلك دورًا جوهريًا فى علم المكتبات العربى، هذا وسيتم إطلاق باكورة إنتاج هذا المشروع بنهاية هذا العام. وهنا لا يسعنا إلا الإشادة الواجبة بدور أساتذة علم المكتبات المصريين الكبار الذين اضطلعوا مشكورين بهذا العبء بشكل فردي على مدار الأربعين عامًا الماضية.

وتقوم مكتبة الإسكندرية أيضا بتقديم التدريب العملي بالمكتبة لطلبة أقسام علوم المكتبات بمختلف الجامعات المصرية، لتوفير التكامل بين الدراسة النظرية والتطبيق العملي في هذا التخصص، كما تقوم بتنظيم زيارات مهنية بالمكتبة لأخصائيي المكتبات العاملين بمؤسسات أخرى، وبتدريب أخصائيي المكتبات العاملين بمؤسسات أخرى، فقامت المكتبة على سبيل المثال تدريب اثنين من أخصائيي المكتبات المصريين بالمعهد الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة على الخدمات المرجعية لمدة شهر، وتدريب مجموعة من أخصائيي المكتبات بدولة البحرين الشقيقة لمدة عشرة أيام.

ونظرًا لما تتمتع به المكتبة من مكانةٍ مرموقة على مستوى العالم، فقد تم اختيارها من بين العديد من المكتبات المتنافسة لتصبح المركز الممثل للاتحاد الدولي لجمعيات ومؤسسات المكتبات (الإفلا) في الدول العربية وذلك في أغسطس 2007 في مؤتمر الإفلا السنوي في دربن بجنوب أفريقيا.

الاتحاد الدولي لجمعيات ومؤسسات المكتبات (الإفلا) هو الكيان الرائد والصوت المهني الدولي في مجال المكتبات وخدمات المعلومات منذ عام 1927. تصدر من خلاله أهم الإرشادات والمعايير المهنية العالمية، ويُمَكِن إخصائي المكتبات والخبراء والمتخصصين في مجال المكتبات والمعلومات من التواصل الدائم من خلال شبكة الإفلا الدولية.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 15/كانون الأول/2011 - 19/محرم الحرام/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2011م