العراق وخفايا الصندوق الأمريكي

صباح الطالقاني

 

شبكة النبأ: بعد قيادتها لقوات بلغت أكثر من (170,000) جندي ضمن محور تحالف دولي، وخسارتها لـ(4450 قتيل) و (32,470 جريح) وصرّفها لأكثر من (تريليون دولار) بمقابل إسقاط النظام الدكتاتوري السابق. تترُك الولايات المتحدة العراق بلدا حديث العهد بالديمقراطية تتقاذفه رياح التغيير وأمواج التدخلات الإقليمية التي جعلت منه ساحة مفتوحة لتصفية الصراعات، فضلا عن العديد من المشاكل الداخلية الأمنية والقومية والمذهبية الكفيلة بتفجير الوضع في أي وقت.

وليس الأمر مقتصرا على ذلك إنما هناك ملفات أخرى تمثل تحديا كبيرا كالمناطق المتنازع عليها مع الأكراد والحدود الإدارية بين المحافظات ومطالب تشكيل الأقاليم وفق مبدأ قومي أو مذهبي ومكافحة الفساد وتخفيف الفقر وتوفير الخدمات والقضاء على البطالة وغيرها.

وإذا ما أمعنّا النظر إلى كل ما تقدَّم من صعوبات ومخاطر فسنجدها أقل خطرا من حالة فقدان الثقة بين الكتل السياسية العراقية، والتي لازالت كلها تضمر الضغينة لبعضها البعض حتى بعد مضي تسع سنوات على اشتراكها في بناء العراق الجديد. وتحاول أيضا الحصول على مكتسبات إضافية بغض النظر عن استحقاقها أو ثقلها السياسي والجماهيري.

إن حالة فقدان الثقة يمكن اعتبارها التحدي الأكبر مثلما يمكن اعتبارها مفتاح حل جميع الأزمات إذا ما تم تجاوزها بالاتجاه الصحيح، فالأمر يبدو حاليا وكأنه حرب باردة تتمثل في تربص الأطراف السياسية لبعضها البعض دون انتباه لتردي الخدمات وزيادة الفقر وضعف الأمن واضطراب النظام السياسي.

صحيح أن عراق اليوم يمثل واحة للديمقراطية الناشئة في المنطقة من ناحية توفر حرية الرأي والإعلام ووجود الحريات المدنية والدينية للجميع والتداول السلمي للسلطة ضمن إطار دستوري، إلا أن التحدي يكمن في واقع الاضطرابات التي تقوض الانجازات في هذا الطريق حيث هناك عشرات الفصائل المسلحة المتشددة تتوزع على اختلاف شرائح المجتمع، منها ما يحارب العملية السياسية ومنها ما يستهدف المعتدلين وآخر يعرقل مسيرة التحول إلى الدولة المدنية ورابع يحارب النظام السياسي الجديد وخامس يحاول فرض رؤيته الأيدلوجية أو الفكرية...

مع كل هذه التحديات يبدو أن مشروع الديمقراطية وبناء الدولة المدنية في العراق ناقص الأهلية إلا أن القناعة بالتداول السلمي للسلطة من قبل الجهات السياسية وإدراكها بضرورة التمسك بالدستور مع ثغراته العديدة يدعو للاطمئنان والتفاؤل بالمستقبل خاصة وأن الدول الإقليمية لاهية في تشكيل النظام السياسي الجديد للمنطقة بعد موجة ما يسمى بالربيع العربي، فيما يكون العراق قد تجاوز مرحلة المخاض هذه نحو بناء دولة المؤسسات رغم كل السلبيات الناتجة من نظام المحاصصة.

لكن الدول الإقليمية ترتّب أولوياتها وتضع تكبيل العراق في مقدمة تلك الأولويات فها هي السعودية ورغم إدراكها بأنها ليست محصنة هي أو غيرها من رياح الربيع العربي تستمر في محاربة النظام السياسي الديمقراطي الجديد، وتمتنع عن فتح سفارتها في العراق وتقاطعه اقتصاديا ويقتصر إعلامها على نقل كل ما هو سلبي، ولازال فيها العديد من شيوخ التطرف والتشدد يعبئون عقول الشباب بأفكار التطرف والإرهاب وتحويلهم إلى قنابل بشرية تتفجر في أسواق العراق وأماكنه العامة، ومن ناحية أخرى تحاول إيران جاهدة ملء الفراغ الممكن في العراق بموازاة انسحاب القوات الأمريكية الكامل منه، فيما تستمر عقدة الكويت التي لا تلبث أن تطفو بين حين وآخر عبر تصرفات وتصريحات ودعوات لعدم إخراج العراق من قيود البند السابع بحجة الديون وتثبيت الحدود وغيرها.

إن خفِيّ الأثر من التدخلات الإقليمية يأتي من الجيران السعوديين، و(الوليدة الخليجية الجديدة لأمريكا) الضئيلة بحجمها الكبيرة بإمكاناتها، حيث أن آلة الإعلام العالمي التي تهيمن عليها إمبراطورية اليهودي مردوخ وبالاشتراك مع آلة الإعلام العربي الرئيسية الموجهة من قبل الأمير السعودي الوليد بن طلال وشبكة الجزيرة القطرية، تصب جهدها في سبيل إظهار النظام السياسي العراقي الجديد بالصورة السيئة بل أن حكوماتها تعمل خلف الكواليس جاهدة لإسقاطه أو تدميره داخلياً، وتضع إيران بصورة المتدخل السافر في الشؤون العراقية، لكن هذا التوجه تتكسر موجاته عند أعتاب حقائق يعلمها العراقيون والأمريكيون، هذه الحقائق تفيد بأن إيران فشلت في التأثير الجوهري على النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي العراقي بدليل أنها أولاً، لم تستطع توجيه النظام السياسي العراقي توجيها أيدلوجيّاً بحيث يصبح كما هو الأمر في إيران نظاماً سياسياً بإطار ديني بحت، لأسباب تتعلق بنظر المرجعية الدينية في العراق لعلاقة الدين بالسياسة واختلافها في ذلك مع المرجعية الدينية في إيران.

وثانياً، عدم وجود أرضية تأييد جماهيرية للنظام أو الحكومة الإيرانية لدى مختلف شرائح الشعب العراقي بما فيها الأوساط الشيعية، فرغم تأييد أغلبية العراقيين للكتل السياسية ذات العلاقات القوية مع إيران إلا أن العراقيين يميزون بين تأييدهم لممثليهم وبين تقرّبهم من إيران.

أضف إلى ذلك نجاح الولايات المتحدة في كسب ثقة العراقيين من خلال التزامها بالانسحاب الكامل وعقدها لمعاهدة صداقة وتعاون طويلة الأمد تتعلق بمختلف القطاعات ومنها التجهيزات العسكرية والأسلحة والتدريب فيما لم تستطع إيران حتى الآن من إبرام معاهدة واحدة ذات قيمة إستراتيجية وعلى كافة الأصعدة، مع أنها من أوائل المعترفين بالنظام السياسي الجديد والحكومة العراقية المنتخبة، ورغم العلاقات الاستثنائية التي تربطها مع الكتلة السياسية الأكبر في البرلمان والحكومة العراقية.

أما الأوضاع المضطربة في سوريا فهي الأخرى بانتظار مخاض التغيير، وإن جاء متعسرا فإن تداعيات ذلك التعسر ستطال العراق شئنا أم أبينا، مع أن الاضطرابات تبعد شبح التدخل السوري السلبي المستمر منذ عام 2003 وتقلب المعادلة بالعكس تماما، أي أن موجات الهجرة الجهادية كما يسميها تنظيم القاعدة سوف ترجع لسوريا لمقارعة نظامها الذي طالما فتح الطريق أمام دخول هذه القوى الإرهابية إلى العراق على مدى ثماني سنوات خلَت.

إن التحدي الآخر الذي يحدق بمستقبل العراق هو ارتباط جهات سياسية لها حصة كبيرة في الدولة بجهات وأجندات خارجية وهذه الجهات تعمل على مسارين الأول هو محاولة إفشال النظام السياسي الذي يتحكم بالسلطة الآن بكل الطرق والوسائل المتاحة، والثاني السعي لتقويض سيطرة السلطة المركزية دون مقدمات دستورية ومقومات وبُنى تتيح زيادة سلطة الحكومات المحلية، فنرى أن هذه الجهات تطالب فورا بتطبيق مادة الأقاليم في حين أن أغلب المحافظات تردُّ فائضا من الميزانية كل عام لم تستطع صرفه في موارد البناء والإعمار والاستثمار! الكل يقر بشرعية الأقاليم لكن الكتلة الأكبر في البرلمان والحكومة ومعها عدد كبير من أعضاء الكتل السياسية الأخرى ترى ضرورة التروي والانتظار لحين استكمال قدرات الحكومات المحلية على القيام بمهامها بصورة وافية. خاصة وأن العديد من التشريعات التي تنظّم العلاقة ما بين المركز والأقاليم لم تقر حتى الآن، وهذا هو السبب الأكبر في استمرار المشاكل مع إقليم كردستان منذ التغيير، فكيف الأمر إذا أُضيفت أقاليم جديدة.

رئيس الجمهورية العراقي لا يخفي حماسته بشأن خروج القوات الأمريكية لكنه في ذات الوقت قلق من قصور آليات حماية أجواء ومياه وحدود البلاد في ظل نقص التسلح وعدم وجود آليات وأسلحة ومعدات يستطيع العراق من خلالها حماية أرضه وسمائه ومياهه. في حين أن رئيس الوزراء كان ولا يزال يصر على أن المتوفر من إمكانيات قادر على حماية البلد، ولعله ينطلق بهذا الاتجاه من ثقته بما متوفر من قدرات لحماية الداخل، وإمكانية الاستفادة من المعاهدة الإستراتيجية مع أمريكا التي تقضي بقيام الولايات المتحدة بحماية العراق من أي تهديد خارجي إذا ما طلب منها ذلك.

إن انسحاب القوات الأمريكية الكلي من العراق يمكن أن يكون كما العفريت الذي يجلس فوق باب صندوق الشرور وينظِّم ما يخرج منه متى وحين يشاء، فإذا ما رحلَ العفريت ستكون بداية فوران صندوق الشرور هذا وتَوالي خروج البلاء والمصائب منه. ولعل ذلك ضروري لمواجهة المصير بدلاً من الهروب إلى أمام.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 9/كانون الأول/2011 - 14/محرم الحرام/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2011م