في أينا العيب يا سُمار أفتونا؟

صالح الطائي

سنة الحياة أن تتقدم الأمم والشعوب تبعا لتغير العصور والمفاهيم والقيم. وتتغير المدن ونمط الحياة المجتمعية تبعا لتنامي حراك التمدن والتحضر في تلك البلدان وما جاورها، وكمحصلة واستنتاج يتغير السلوك وتتغير الثقافات والتعايش والمعاملات فتختفي المنغصات وتكثر السعادات، ولاسيما منها البلدان والشعوب التي تملك إرثا تاريخيا يمتد إلى أعمق نقاط التاريخ وصولا إلى جذور الأرخنة وبداية التاريخ كما هو العراق مثلا، هذا البلد الذي يزهو كطاووس للحضارة البشرية منذ أن وطأت قدم الآدمي الأول أطراف أديم أرضه، هذا الإقليم الذي قال المقدسي (*) في وصفه: "هذا إقليم الظرفاء، ومنبع العلماء. لطيف الماء، عجيب الهواء، ومختار الخلفاء. أخرج أبا حنيفة فقيه الفقهاء، وسفيان سيد القراء. ومنه كان أبو عبيدة والفراء، وأبو عمرو صاحب المقراء. وحمزة والكسائي وكل فقيه ومقريء وأديب، وسري وحكيم وداه وزاهد ونجيب، وظريف ولبيب. به مولد ابراهيم الخليل، وإليه رحل كل صحابي جليل. أليس به البصرة التي قوبلت بالدنيا، وبغداد الممدوحة في الورى، والكوفة الجليلة وسامرا، ونهره من الجنة بلا مرا. وتمور البصرة فلا تنسى، ومفاخره كثيرة لا تحصى. وبحر الصين يمس طرفه الأقصى، والبادية إلى جانبه كما ترى. والفرات بقربه من حيث جرى"

وإقليم بمثل هذه المواصفات جامعا لكل هذه الصفات يصبح قبلة للأمنيات ومنبعا للطرب والمرح والفكاهة ورغد العيش والبذخ والترف والمسرات، فلماذا لا يجد من يبحث في تاريخ بلدنا لها مكانا، ولا يكاد يؤرخن لها زمانا؟ لماذا يجد الضد والتضاد يعبثان بأهل هذه البلاد؟ هل هي إرادة الله سبحانه الذي أراد لأرضنا أن تكون بهذا الشكل المميز، ثم أراد أن يحرم أهلها من الانتفاع بالخيرات والهبات، ونحن نؤمن أن الله أعدل من أن يظلم عبدا، وإنْ كان العبد فاسقا فاجرا، وأعدل من أن يظلم أرضا من صنع يده؟

 أم أن العراقيين يختلفون عن غيرهم من البشر كما قال المرحوم علي الوردي، ولذا لا يستمرئون رغد العيش وأنس الطيش ويبحثون عن المشاكل والقلاقل، وما العراقيين إلا بشر مثل الآخرين فيهم الطيب وفيهم الخبيث، والله سبحانه لا يؤاخذ البريء بذنب المجرم، والعقلاء يرون انه لا يصح إلا الصحيح؟

أم أن الآخرين هم الذين يريدون للعراق أن لا يمتع أبناؤه بخيراته فيتصنعون الفتن والمكاره ويلقون بها في قلوبهم حسدا وبغضا، ولأن الخبث يوغر القلوب بالحقد والكراهية ترى العراقيين مشتتين وغير ملتفتين إلى مثل هذه المؤامرات؟

كان العراق عاصمة لحضارة البشر الأولى دهورا، ثم أصبح في زمن حكومة الإمام علي بن أبي طالب وابنه الإمام الحسن عليهما السلام عاصمة العالم الإسلامي سنينا،

وأصبح في زمن العباسيين عاصمة العالم، والمفروض بالعاصمة أن تتفرد عن باقي الأقاليم بخصوصية كونها مقر الحاكميات بما يستوجب أن تكون الأكثر تحضرا وتمدنا ورغدا ورفاها، ولكنك لا تجد لهذا التمايز أثرا، ولا تعرف لفقدانه سببا، ولا تقرأ عنه خبرا، وهو ما دفع المقدسي لأن يقول في ختام وصفه لإقليم العراق: "غير أنه بيت الفتن والغلاء. وهو في كل يوم إلى وراء، والجور والضرائب في جهد وبلاء. مع ثمار قليلة، وفواحش كثيرة، ومؤن ثقيلة. وهذا شكله ومثاله والله أعلم وأحكم."

وفي الروايات: أن الاسكندر حينما غزا العراق وقتل حاكمة الفارسي صباح يوم المعركة جاءه وجهاء القوم ظهرا لتهنئته بهذا النصر وشكره على تخليصهم من الطغاة المحتلين، فغضب عليهم لقلة وفائهم لأولياء نعمتهم وأمر جنده بقتل كل من تصل إليه أيديهم من العراقيين، فمنعته أمه التي كانت ترافقه في غزواته من فعل ذلك، وقالت له: "إن العيب ليس فيهم وإنما في الأرض التي يسكنون، والماء الذي يشربون، والهواء الذي يتنفسون" فتركهم ورحل عنهم مسرعا!

أين يكمن العيب يا ترى؟ فينا، أم في عقائجنا، أم في أرضنا، أم في قياداتنا، أم في الحاسدين المحيطين بنا، أم في الأعداء المتكالبين على خيراتنا، أم أننا مبرأون من العيب، والعيب فاشي في غيرنا ولذا يرونا نختلف عنهم فيظنون أن الاختلاف فينا؟

ففي أينا العيب يا سمار أفتونا؟

..........................................

الهامش

(*) المقدسي؛ الرحالة العربي خالد الذكر شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر البناء المقدسي البشاري, ولد في القدس الشريف عام 336هـ/ 947م, سمي بـ(الواوي) لكثرة ترحاله نسبة إلى (ابن آوى) المشهور بكثرة التنقل والترحال، كان أحد أهم الرحالة والجغرافيين في عصره، مارس التجارة وتجشم أسفارا هيأت له المعرفة بغوامض أحوال البلاد والأمصار، ثم انقطع إلى تتبع البلدان والمدن والقرى فطاف أكثر بلاد الإسلام، وصنف كتابه "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم" وتوفي عام 380 هـ/ 990 م.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 10/كانون الأول/2011 - 14/محرم الحرام/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2011م