من خلال نشر إحصائيات النشاط السنوي للسلطة القضائية (المجلس الأعلى
للقضاء) لعام 2010، ومنها أن المحاكم العراقية قررت غلق(48689) قضية
بسبب عدم كفاية الأدلة، و36099 قضية بسبب عدم وجود جريمة، و46929 قضية
بسبب مجهولية الفاعل، كما أغلقت 95578 قضية بسبب وقوع الحادث قضاءً
وقدراً، و56674 قضية بعد حدوث صلح بين الأطراف المتنازعة، وصرّح الناطق
باسم المجلس القاضي عبد الستار بيرقدار لـ «الحياة»: «إن وجود أعداد
كبيرة من القضايا التي أغلقت لعدم وجود جريمة، وإن أغلب هذه القضايا
دعاوى كيدية تنتهي بعدم وجود جريمة وعدم صحة الإخبار»، وزاد أن «معظم
القضايا حالياً كيدية، وبعد التحقق منها يعاقب المدعي بالسجن لمدة عشر
سنوات».
وللقارئ أن يُقدر حجم الجهد القضائي عن الدعاوى الكيدية الذي
يتحمله القضاء، وفي تقديري انها كارثة تحتاج الى وقفه وطنية، حيث إنَّ
ماتسمى بـ «الكيديات» التي يراد منها النيل من بعض الأشخاص، تضع
المجتمع أمام محك حقيقي لمستوى تقدير الحرية داخله، ومدى قوة المؤسسات،
فعدد الشكاوى المحالة على مجلس القضاء الأعلى كما مشار إليها أعلاه،
بهذا الشأن تدق ناقوس الخطر.
خاصة أنه في حالات معينة تستعمل «الكيديات» لتصفية الحسابات أو
الانتقام، الغاية من وجودها لتصبح وسيلة ضغط من المخبر أو محاولة
للانتقام، وهو ما يفسر بكثرة تلك الشكاوى التي تكون الغاية منها خلق
نوع من البلبلة أو الإضرار بشخص معين، ولاشك أن المتضرر الأول من تلفيق
هذه الخصومات التافهة هو القضاء، لأنها تهدر وقت قضاة المحاكم وتستنزف
طاقتهم وقدراتهم في ما لايخدم تحقيق العدالة.
كما أنَّ هذه الظاهرة تسهم في تراكم الملفات أمام المحاكم، مما
يؤثر سلباً على سير العدالة في قضايا أخرى أكثر أهميه وتصبح (العدالة
مفقودة)، ولتجاوز هذه الإشكالية التي تهدر وقت العدالة، يستدعي الأمر
الوقوف بجديه لتبني سياسة ترشيد التوقيف، ويتطلب التريث من قبل قاضي
التحقيق باستعمال حقه بالتوقيف في مثل هذه الحالات، وعموما يبدو أن
ظاهرة التقاضي بسوء نية ساهمت في اكتظاظ المؤسسات الإصلاحية، بالنظر
إلى أن فئة لا يستهان بها من الموقوفين على ذمة التحقيق أو المدانين
توبعوا بدعاوى كيديه أخرى أو بشكاوى كيدية من طرف خصومهم، واعتقلوا
وحوكموا...
ويرى المتتبعون أن وجود هذا النوع من الكيديات داخل المجتمع هو
تقزيم وتشويه وسوء إستخدام لهامش الحرية داخله، فثقافة الخوف أضحت
السمة الغالبة على جميع التصرفات، كما أن تلك الثقافة تولدت عنها
الرغبة في الانتقام، خاصة أمام بعض الحالات التي ينتصر فيها
(اللاقانون) أو (الفلتان) على القانون وكما بالمثل القائل (افتَرَّت
على المشتكي)، ومنذ وقت قريب انتبه المشرع العراقي إلى خطورة مثل
الأفعال، فشدد العقوبات للحد من الظاهرة. حيث تم تعديل المادة (243) من
قانون العقوبات رقم (111) لسنة 1969 لتقرأ كالآتي: (كل من أخبر كذبا
إحدى السلطات القضائية أو الإدارية عن جريمة يعلم أنها لم تقع أو أخبر
إحدى السلطات المذكورة بسوء نية بارتكاب شخص جريمة مع علمه بكذب أخباره
أو أختلق أدلة مادية على ارتكاب شخص ما جريمة خلاف الواقع أو تسبب
باتخاذ إجراءات قانونية ضد شخص يعلم براءته وكل من أخبر السلطات
المُختصة بأمور يعلم أنها كاذبة عن جريمة وقعت : يُعاقب بالحد الأقصى
لعقوبة الجريمة التي أتهم بها المُخبر عنه إذا ثبت كذب أخباره وفي كل
الأحوال أن لا تزيد العقوبة بالسجن عشر سنوات)...
ويمكننا تعريف "أزمة العدالة الجزائية" بأنها الاختناق القضائي،
وتكدس القضايا، وكلها مترادفات لمعنى واحد يعني عجز القضاء الجزائي عن
معالجة الكم الهائل من الملفات وتكدسها في أروقة المحاكم والنيابات.
ولا شك أن لهذه الظاهرة سواء في العراق أو في الدول المختلفة أسبابها
ونتائجها الخطيرة على تحقيق العدالة الجزائية وعلى المنظومة القيمية
للمجتمع، مما يستدعى مواجهتها بكل السبل الممكنة... ويمكننا أن نعرّف
"المنظومة القيمية" بأنها "مجموعة القواعد والمبادئ والأعراف التي تحكم
السلوك بين مكونات المجتمع، وتكون بمثابة المعيار الرئيسي في صياغة
وتوجيه التصرفات العامة على نحو يخدم تقدم المجتمع على جميع الأصعدة
السياسية والاقتصادية والاجتماعية"، وبعبارة أخرى إنها تعني التمسك
بالقيم الأخلاقية الضابطة لحركة الأفراد والمجتمع الفضيلة والصدق
والإخلاص والأمانة والنقاء والطهارة والعدالة والشفافية.
من خلال العرض المتقدم نخلص بأننا أزاء (أزمة قيم) و(أزمة عدالة)
تتطلبان وقفة جدية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه والتصدي لمواجهه هذا الفساد
الأخلاقي. ان تضخم الدعاوى الكيدية مؤشر خطير على المجتمع والدولة في
آن واحد ويتطلب وقفة وطنية لتعرية مروّجي هذه الدعاوى باعتبارها من
اكبر التهديدات التي تواجه القضاء والمجتمع العراقي.
* خبير بالشؤون الأمنية |