
شبكة النبأ: كانت تونس صاحبة التغيير
العربي الكبير الذي اسقط رموز الفساد وهز عروش الطغاة واسمع العالم صوت
الفقراء والمستضعفين وفي مقدمتهم صوت بائع الخضروات الذي تحول -فيما
بعد- إلى رمز للربيع العربي الذي شمل المنطقة بأسره، ومع هذه المميزات
التي حظيت بها تونس والتي عانت كثيراً جراء حكم بن علي وأعوانه، تطلع
الجميع نحو مسار التغيير السياسي والاقتصادي بايجابية، خصوصاً وان
عملية التغيير فيها مرت بسلاسة أكثر من مثيلاتها العربية، كما أجريت
فيها عملية الانتخابات التي تمخضت عن تولي الإسلاميين للسلطة.
لكن التونسيون الذي عاشوا لحظة الانتصار على ظلم رئيسهم السابق،
يشعرون اليوم بمرارة الوعود المؤجلة ويعانون من بطء التنفيذ، بعد أن
بقيت معظم المطالب التي قامت من اجلها الثورة تراوح في مكانه، بينما
اشتكى البعض الأخر من تردي الأوضاع المعيشية وانحدار مستوى الاقتصاد
وارتفاع مستوى البطالة إلى معدلات غير مسبوقة.
ثمار ثورتهم
فقد ضاق رضا بن صالحة ذرعا من انتظار أن تترجم الثورة التونسية الى
حياة أفضل في بلدته، فقد أمضى مع مجموعة من أصدقائه وجيرانه أسابيع
معتصمين أمام محطة لمعالجة الغاز والنفط تابعة لاكبر شركة في تازركة من
أجل الضغط على أصحابها لتوفير المزيد من الوظائف لسكان البلدة واستثمار
مزيد من الاموال في المجتمع المحلي، فقد كانوا يأملون بعد الاطاحة
بالرئيس زين العابدين بن علي في يناير كانون الثاني في بعض الارتياح من
الفقر وعدم تكافؤ الفرص، لكن هذا لم يحدث، ويشتعل غضب الناس في تازركة
الواقعة على بعد 90 كيلومترا جنوب شرقي العاصمة، وقال بن صالحة "لا
نطلب سوى حقوقنا" وكان يتحدث من أمام المحطة التي أوقف العمل فيها هو
وعشرات أخرون في أواخر الشهر الماضي بمنعهم الشاحنات من مغادرة المحطة
وهي تحمل أسطوانات غاز الطهي، وتمثل تازركة تحذيرا للسلطات في تونس في
مرحلة ما بعد الثورة مما قد يحدث للبلاد في حال لم تقترن الحريات
الجديدة التي حققتها الثورة مع رفع مستويات معيشة الناس العاديين،
وبسرعة، ويقول دبلوماسي غربي في العاصمة تونس "لماذا يدعم السكان
الديمقراطية ما لم يحصلوا على أي شيء، ما لم يحصلوا على عمل"، واندلعت
الشرارة الاولى للثورة التونسية عندما أشعل بائع خضروات النار في نفسه
احتجاجا على قمع السلطات لتتفجر احتجاجات ضخمة أجبرت بن علي على الهرب،
وألهم نجاح الثورة التونسية انتفاضات في مصر وليبيا واليمن وسوريا غيرت
المشهد السياسي في منطقة الشرق الاوسط. بحسب رويترز.
وحظيت الدولة الواقعة في شمال أفريقيا باشادة جديدة باعتبارها منارة
في المنطقة عندما أجرت أول انتخابات ديمقراطية في تاريخها وسلمت السلطة
لحكومة اسلامية معتدلة، لكن وراء تقدم تونس صوب الديمقراطية تكمن حقيقة
مزعجة هي أنه بعد مرور عشرة أشهر على الثورة تدهورت مستويات معيشة
المواطن التونسي العادي على نحو أكبر، وتتفهم الحكومة الجديدة -التي
تدرك أن الثورة تفجرت ضد ارتفاع البطالة والفقر كما تفجرت ضد القمع-
الحاجة الى رفع مستويات المعيشة، لكن التباطؤ الاقتصاد الحاد بعد رحيل
بن علي يكبل يديه، وألغى سائحون أجانب -هم أكبر مصدر للعائدات لتونس-
حجوزات وجمد بعض المستثمرين الاجانب مشروعاتهم، وتضرر النمو بشكل أكبر
جراء الصراع في ليبيا أكبر شريك تجاري لتونس في المنطقة، وتشير
التوقعات الى تراجع نمو الناتج المحلي الاجمالي من ثلاثة في المئة في
العام الاخير من حكم بن علي الى نحو 0.2 بالمئة هذا العام بالرغم من أن
مسؤولين يتوقعون ارتفاع النمو الى 4.5 بالمئة في 2012، ووفقا لتوقعات
البنك المركزي سيرتفع معدل البطالة الذي بلغ 13 بالمئة في نهاية 2010
الى 14.5 بالمئة هذا العام، ومعدل البطالة بين الشباب أعلى كثير، وحذر
محافظ البنك المركزي التونسي مصطفى كامل نبيل من عواقب الفشل
الاقتصادي، وكتب في تقريره السنوي أن العملية الديمقراطية التي يتطلع
اليها التونسيون لن تنجح الا اذا كانت الظروف الاقتصادية والاجتماعية
مواتية.
وتازركة واحدة من حكايات الامال المحطمة والفقر المدقع، وتقع البلدة
على مسافة قصيرة بالسيارة من الحمامات ذلك المنتجع الفاخر الذي يقيم
فيه السياح الالمان والفرنسيون في شواطيء خاصة تحيط بها شجيرات
البوجنفيلية المورقة، وقبل الثورة كان ابن شقيق بن علي يمتلك فيلا هناك
بها حوض للسباحة وحديقة تزينها أحجار الكوارتز، وفي الطريق الى تازركة
يتوارى هذا المشهد، فالقرى المتناثرة على الطريق ما هي الى مجموعة
متداعية من الاكواخ البدائية تتناثر أكوام القمامة فيما بينه، وخارج
البلدة ينحني مزارع عجوز وزوجته في حقل يزرعان الجزر، وهناك عدد قليل
من السيارات، ويستخدم الشبان الدراجات في تنقلاتهم بينما يستعين
المزارعون بعربات تجرها الخيول لنقل منتجاتهم، ومنذ ثلاث سنوات شيدت
المحطة بجوار البحر، وهي مملوكة لشركة ايني النفطية الايطالية والمؤسسة
التونسية للانشطة البترولية المملوكة للدولة وتعالج المحطة انتاج النفط
والغاز من حقلي بركة ومعمورة الواقعين في البحر المتوسط، وساور الامل
السكان في تازركة في أن تجلب لهم المحطة الوظائف والمال، لكن سرعان ما
أصابتهم خيبة الامل، وأبلغ أشخاص شاركوا في الاعتصام ان 20 فقط من
أبناء المنطقة يعملون في المحطة في وظائف لا تتطلب مهارات مثل حراس
الامن، وكان هناك حديث عن أن الشركة المالكة للمحطة تسهم في تحسين
البنية التحتية بالبلدة مثل شق طرق جديدة وهو ما أكد المحتجون انه لم
يحدث على الاطلاق، ولم يثر أهالي البلدة المساءلة فالوقت لم يكن مناسب،
فقد كانت الدولة البوليسية التي يحكمها بن علي تطارد أي منشق وفي كل
الاحوال كان الناس يتوقعون أن تتجاهلهم السلطات، لكن الثورة غيرت كل
هذا.
تغير رئيس البلدية ومع تجدد الامل في مساندة السلطات الجديدة لهم
حاول سكان تازركة مرة أخرى أن يحصلوا على ما يعتبرونه حقهم، فوضعوا
قائمة بمطالبهم لتسليمها الى المحطة هي تقديم منحة قدرها ثلاثة مليارات
دينار تونسي (مليونا دولار) سنويا الى مكتب رئيس البلدية وتعيين 100
ألف من سكان البلدة وتقديم 120 ألف دولار للجمعيات الشبابية المحلية
و2000 دولار لكل عائلة من العائلات الفقيرة في البلدة وعددها ثلاثة
الاف، وحاول رئيس البلدية الجديد التدخل، وعقدت اجتماعات واجتمع مسؤولو
مكتب المحافظ بل ومسؤولون من الشرطة والجيش مع المحتجين، ولكن عندما لم
يظهر المال قرر السكان أن يتخذوا موقفا متشدد، فأقاموا المتاريس أمام
كافة مداخل المحطة لتعطيل العمل ونظموا نوبات حراسة على مدار الساعة،
وانتهى الحصار في وقت سابق وبعد أن أجرت الحكومة محادثات مع ممثلين
لشركة ايني والمؤسسة التونسية للانشطة البترولية، وقالت وزارة الصناعة
في بيان ان حلول النزاع لا تزال قيد البحث، وليس في وسع سكان البلدة
سوى الانتظار على الاقل في الوقت الحالي، وقال عبد اللطيف الاسعد (23
عاما) الذي غادر تازركة بحثا عن عمل في باريس وعاد في عطلة "ليس هناك
سوى شيء واحد في هذه البلدة، هذه (المحطة)"،هناك الكثير من العاطلين في
تازركة، هناك فقط مكتب البريد ومركز الشرطة، وهذا كل شيء"، وقال مسؤول
تنفيذي لايني في تونس انه غير مخول بالحديث عن النزاع.
ولم يرد مقر الشركة في ايطاليا على طلب من أجل الحصول على التعقيب،
ويمكن أن تنطبق قصة تازركة على أي واحدة من مئات البلدات التونسية التي
تشبهه، وحصلت الحكومة المؤقتة على حزمة مساعدات كبيرة من الاتحاد
الاوروبي ومجموعة الثماني بغية درء أزمة اقتصادية وشيكة، وشجع الائتلاف
الذي يقوده الاسلاميون الذي سيتولى السلطة قريبا المستثمرين بتعهده
بانتهاج سياسيات ليبرالية صديقة للسوق، لكن من المستبعد أن تتمكن
الحكومة من تحسين الامور بسرعة كافية لتفادي الاحتجاجات لاسيما في
المحافظات الفقيرة البعيدة عن المراكز السياحية الساحلية، ومن المرجح
أن تستأنف النقابات العمالية التي كانت احدى القوى الرئيسية المحركة
للثورة الاضرابات والاعتصامات التي علقتها قبل انتخابات الجمعية
التأسيسة، ومن الممكن أيضا أن يقوم الشبان العاطلون بأعمال شغب كما
فعلوا عدة مرات هذا العام، وقال جان بابتيست جالوبين من مؤسسة كونترول
ريسكس الاستشارية "تسببت احتجاجات جمعت بين شبان محرومين، ونشطاء (النقابات)
في اسقاط حكومتين بالفعل منذ الاطاحة ببن علي"، على الحكومة الجديدة أن
تأخذ ذلك في الاعتبار".
آلاف العلمانيين يتظاهرون
الى ذلك تظاهر آلاف العلمانيين في تونس أمام مقر المجلس التأسيسي
احتجاجا على اعتصام مجموعات من السلفيين في كلية بعد رفض قبول طالبة
منقبة في تصعيد لمواجهة بين الاسلاميين والعلمانيين، ومنذ الاطاحة
بالرئيس السابق زين العابدين بن علي في 14 يناير كانون الماضي تشهد
تونس توترا بين العلمانيين والاسلاميين الذين زاد نفوذهم، ومثل تظاهر
نحو ثلاثة آلاف من العلمانيين أقوى رد فعل على احتجاجات لاسلاميين في
جامعة قرب تونس طالبوا بفصل الاناث عن الذكور والسماح للمنقبات بحق
الدراسة مما تسبب في توقف الدراسة لليوم الرابع على التوالي، ووقعت
مؤخراً اشتباكات بين طلبة إسلاميين وعلمانيين بعد احتجاج عشرات
السلفيين في كلية بالعاصمة تونس للمطالبة بحق المنقبات في خوض
الامتحانات، ورفع المتظاهرون لافتات كتب عليها "الجامعة حرة حرة
والنقاب على بره" و"كل المصائب مصدرها النهضة" و"لا للارهاب الفكري"،
وقال استاذ جامعي يدعى سهيل الشملي من بين المتظاهرين "أنا هنا لاني
خائف على مستقبل ابنائي وبناتي، اذا رضخنا لمطالب مثل فرض النقاب
والفصل بين الاناث والذكور سننتهي الى مجتمع متشدد ونخسر كل شيء، يجب
ان نتصدى لهذا التيار". بحسب رويترز.
وشهدت كل الكليات في تونس إضرابا احتجاجا على الاعتداء على الحرم
الجامعي من قبل سلفيين، وطوق مئات من قوات الشرطة المحتجين خشية وقوع
اشتباكات مع اسلاميين، ونصب محتجون خياما هناك للضغط على المجلس
التأسيسي للمطالبة بالحد من هيمنة حركة النهضة الاسلامية التي فازت في
انتخابات تونس في اكتوبر تشرين الاول الماضي وتوزيع السلطات بشكل عادل
بين رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية، وفي كلية الاداب بمنوبة واصل مئات
السلفيين اعتصامهم وسط وجود أمني أمام الكلية، وقالت وزارة الداخلية
انها لن تتدخل الا حين تطلب منها ادارة الكلية ذلك، وقال شاب ذو لحية
كثيفة يدعى انور العوني امام الكلية "نحن نريد أن تتم معاملتنا باحترام
وان يتم تمكيننا من مسجد وحق الجميع في الدراسة، ألسنا في بلد اسلامي،
لن نفرط في حقنا هذه المرة مهما كلفنا ذلك"، وأدانت كل الاحزاب تقريبا
بما فيها النهضة الاعتداء على الحرم الجامعي، وسعى أعضاء بالمجلس
التأسيسي لانهاء الازمة لكن عميد الكلية قال انه يفضل ان يتم حل
المشكلة بعيدا عن التسييس، ومنذ فوز حركة النهضة الاسلامية في انتخابات
تونس عبرت الطبقة العلمانية عن مخاوفها من ان قيمها اصبحت مهددة رغم ان
النهضة تعهدت بالحفاظ على كل الحريات الفردية ومن بينها عدم فرض الحجاب.
التعذيب
فيما ندد ناشطو حقوق الانسان منذ سنوات بالتعذيب الذي كان منهجيا في
تونس على حد قولهم في عهد الرئيس السابق زين العابدين بن علي، وتقول
جمعية مكافحة التعذيب التي تراسها المحامية راضية النصراوي ان الاف
المعتقلين السياسيين عذبوا حتى مات بعضهم في عهد بن علي واختفى البعض
الاخر، وبعد فرار بن علي الذي اطاحت به انتفاضة شعبية في 14 كانون
الثاني/يناير روى معتقلون سياسين الممارسات التي تعرضوا لها في سجون
النظام، كالضرب وحمام الماء البارد والحرمان من النعاس والشتم ووضع "الدجاج
المشوي" اي تكبيل الجسد في كتلة طيلة ساعات، وبعد سقوط النظام صادقت
السلطات الانتقالية في الاول من شباط/فبراير على انضمام تونس الى
المعاهدة الدولية ضد التعذيب وثلاثة بروتوكولات دولية اخرى حول حقوق
الانسان، لكن جمعية مكافحة التعذيب اكدت بعد بعضة اشهر ان الممارسات
القديمة متواصلة، واعرب الاتحاد الدولي لحقوق الانسان في تقرير صدر في
تموز/يوليو عن "الخطر الذي يمثله تكرار، حتى وان كان في درجة اقل،
ممارسات النظام البائد وجرائم الماضي"، واعربت المفوضية العليا لحقوق
الانسان في الامم المتحدة نافي بيلاي التي فتحت في تونس في تموز/يوليو
اول مكتب بشمال افريقيا، عن "القلق والحزن" من تلك الادعاءات، وتحدثت
وزارة الداخلية التونسية حينها عن "فلول النظام السابق" وقالت ان
العقليات والتصرفات لا يمكن ان تتغير بين عشية وضحاه، وقال ممثل وزارة
الداخلية في مقال نشر مطلع ايلول/سبتمبر على مدونة "توا في تونس" "لا
بد من التمييز بين التعذيب والافراط في العنف، ان ما نعيشه اليوم لا
علاقة له مع التعذيب بمفهوم الكلمة المعهود". بحسب فرانس برس.
سجن صهر بن علي
في سياق متصل قالت وكالة الانباء الرسمية في تونس ان محكمة قضت
بالسجن غيابيا لمدة 15 سنة على بلحسن الطرابلسي صهر الرئيس التونسي
السابق زين العابدين بن علي الذي فر من البلاد في 14 يناير كانون
الثاني الماضي بعد احتجاجات شعبية، واضافت الوكالة ان بلحسن الطرابلسي
وهو اخو ليلى الطرابلسي زوجة بن علي ادين في قضايا جمركية تتعلق بتصدير
اموال بالعملة الاجنبية وبالدينار التونسي وتهريب كميات من الذهب دون
اذن من البنك المركزي، ويخول هذا الحكم لتونس مطالبة الحكومة الكندية
بتسليمها بلحسن الطرابلسي او تتبعه قضائيا في كندا والمطالبة بتجميد
ارصدته بالخارج.وكان بلحسن الطرابلسي غادر تونس برفقة افراد عائلته في
14 يناير على متن اليخت الذي يمتلكه حاملا معه كميات كبيرة من
المنقولات النفيسة والاموال بالعملة التونسية والاجنبية باتجاه ايطاليا
قبل ان يتحول الى كند، وفر بن علي وزوجته في يناير بينما القي القبض
على اغلب افراد عائلته في المطار اثناء استعدادهم للهروب. بحسب رويترز.
التونسيون يستعيدون آثار قرطاج
من جهة اخرى حقق الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي حلما
كان يُراود الطليان منذ ثلاثة آلاف سنة ويتمثل بإزالة ما تبقى من معالم
مدينة قرطاج، غريمة روما التي نافستها على زعامة العالم القديم في حروب
استمرت على مدى سنوات في أنحاء مختلفة من البحر المتوسط، وبدأ
التونسيون يستعيدون تدريجا منطقة أثرية شاسعة في أطراف ضاحية قرطاج
بعدما داهمتها البناءات في أعقاب إلغاء تصنيفها ضمن التراث الحضاري في
عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، وكانت مدينة قرطاج، عاصمة
تونس القديمة التي أنشأتها أليسار الآتية من مدينة صور في 814 قبل
الميلاد، صارت دولة قوية في المتوسط وخاضت حروبا مريرة مع روما للسيطرة
على صقلية، وتوسعت المدينة التي أقيم فيها نظام ديمقراطي وامتدت
معالمها على ربوة بيرصة المطلة على ميناء كبير كان يحمي أسطولا عتيدا
قبل أن يُدمرها الرومان في أعقاب معركة جامة سنة 143 قبل الميلاد.
وحافظ التونسيون على ما تبقى من معالم المدينة التاريخية واستصدروا
من منظمة "يونسكو" في السنة 1979 تصنيفا أدرج الأراضي المحيطة بها ضمن
التراث العالمي لأنها تحوي آثارا لم تُستكشف بعدُ، وتم تحديد المنطقة
المعنية بشكل دقيق في سنة 1985، مع استكمال فرق من الباحثين المحليين
والأجانب مهمات انطلقت منذ بواكير القرن الماضي للتنقيب عن المعالم
المدفونة في مواقع مختلفة منتشرة في محيط القصر الرئاسي الحالي، إلا أن
الرئيس السابق زين العابدين بن علي، الذي يُقال إنه كان يستهين
بالثقافة ويكره التأريخ والحضارة، استجاب لرغبة أصهاره بتحويل الحديقة
الأثرية في ضاحية قرطاج إلى مشروع عقاري، وفوجئ التونسيون في السنة
2007 بقرار منشور في الجريدة الرسمية مفاده أن رئيس الدولة وقع على
مرسوم بإلغاء تصنيف الحديقة الأثرية الواقعة في قرطاج ضمن لائحة التراث
العالمي بناء على اقتراح من وزيري الثقافة والتجهيز، وكان القرار
مرفوقا بخريطة أشارت باللون الأحمر إلى المنطقة المُصنفة تراثية والتي
باتت مخصصة لبناء عقارات، وتُقدر مساحتها بأكثر من خمسة هكتار، أي أكثر
من خمسين ألف متر مربع، وأفادت تحقيقات حديثة أن بلحسن الطرابلسي شقيق
زوجة بن علي، الهارب حاليا في كندا، هو الذي حصل على تلك الأراضي
الشاسعة وباعها في دوره إلى أحد المقاولين لتقسيمها إلى قطع ومعاودة
بيعها لمالكين من القطاع الخاص بعد تهيئتها.
وبالنظر إلى أن كثيرا من المعجبين ببهاء المنطقة، الواقعة بين ثلاث
مدن جميلة هي قرطاج وسيدي بوسعيد والمرسى، سارعوا إلى شراء مقاسم على
رغم الأسعار الباهظة التي بيعت بها، وباشروا بناء بيوت فوقها، فقد
أضحوا اليوم في ورطة بعدما أبطلت الحكومة الموقتة الحالية مرسوم بن
علي، اعتبارا من آذار (مارس) الماضي، وعاودت تصنيف المنطقة ضمن التراث
الحضاري الإنساني، وأفاد مصدر في بلدية قرطاج التي يرأسها وزير الثقافة
عز الدين باش شاوش، وهو مدير سابق للمعهد الوطني للتراث، أن ما لا يقل
عن سبعة عشر سورا أنشأها مالكون لتسييج مقاسمهم تم هدمها أخير، وأوضح
أن الأساسات التي وُضعت في مقاسم أخرى تعرضت للتدمير على أيدي موظفي
البلدية لأنها أقيمت فوق أراضي أثرية، غير أن المالكين الذين أنفقوا
أموالا طائلة لاقتناء المقاسم شكوا من أن القرار الجديد سيُضيع حقوقهم،
ووعدت السلطات بإيجاد حلول تُعوضهم بعض ما خسروه، إلا أنها متشددة في
استعادة الأراضي التي تدخل ضمن المنطقة المصنفة عالميا، وخاصة الملاصقة
منها للخزانات الرومانية في موقع المعلقة، وهي خزانات ضخمة كانت تنقل
مياه الشرب من جبال زغوان إلى سكان قرطاج في العهد القديم، وتعكف لجنة
خاصة شكلتها الحكومة الموقتة على دراسة الحالات الفردية من أجل إيجاد
حلول عملية لها. |