سرت... قنبلة موقوتة في طريق ليبيا الجديدة

 

شبكة النبأ: بعد مقتل الزعيم الليبي معمر القذافي في مسقط رأسه، يشتاط بنو عشيرته في القرية التي حولها القصف الى مدينة محقونة غضبا وخوفا، ويحذرون من أن دماء فاسدة ستسمم ليبيا لسنوات قادمة. ومن الصعب معرفة الى اي مدى قد يترجم الحديث عن الثأر الى أفعال لكن لا مجال لانكار الكراهية التي يضمرها اهالي سرت للثوار المنتصرين الذي أطاحوا بإبن عشيرتهم وهي كراهية، كما فاقم ذلك الاساءة التي يرى أهلي سرت انهم تعرضوا لها بعد القبض على القذافي، وما كانت عليه ملابسات مقتله من تمثيل بجثته قبل أن يدفن في مكان سري.

أكبر تحد للحكام الجدد

فقد قال الحاج أبو محمد أحد أفراد عشيرة الزعيم المخلوع متسائلا "هل ستنسى اذا قتل شخص ما ابنك ظلما.. لا لن تنسى. الناس هنا لن تنسى أبدا." وكان الحاج أبو محمد يقف في مكان في وادي الجرف وهو واد في الصحراء قريب من سرت حيث ولد القذافي ويقول سكان محليون انه مكان قبر والدة القذافي وثلاثة اخرين من أقاربه قام مقاتلون معادون للقذافي بنبشه وتدنيسه أثناء معركة سرت التي أنهت حربا دامت ثمانية أشهر. وقال "ستكون هناك عداوات دامية."

والناس في سرت يضمرون عداء خاصا للمقاتلين من مصراتة تلك المدينة الكبيرة التالية لسرت التي تبعد حوالي 250 كيلومترا الى الغرب وينحون عليهم باللائمة في تدنيس القبور ومعظم أعمال التدمير والقتل في سرت.. بما في ذلك مقتل القذافي نفسه. وهناك ثناء مُسهب لعائشة بنت نيران والدة القذافي مكتوب على الجدران خلف القبور. وبجوار الثناء كتب حديثا على الجدار عبارة "لجنة هدم الاصنام".

ويعتقد كثير من الليبيين خصوصا في مصراتة التي تضررت بشدة جراء القصف أثناء الحصار الذي فرضته عليها القوات الموالية للقذافي أن مقاتلي مصراتة يسوون الحساب مع شعب مصراتة لدفاعه عن القذافي وينتقمون لتدمير مدينتهم. وكانت قصص القتل والاغتصاب على أيدي قوات القذافي تروى خلف الابواب المغلقة وتؤجج نار الغضب. ويشعر الموالون للقذافي في سرت وفي مناطق صحراوية أخرى حولها بمرارة تجاه الثورة التي أدت الى نزوح الالاف من بيوتهم.

ولا يزال كثير من سكان سرت مؤيدين للقذافي بينما يحن اخرون لعهد أكثر رخاء وأمنا في عهد الرجل الذي حكمهم 42 عاما مستخدما ثروة ليبيا النفطية لشراء تأييد قطاعات معينة في المجتمع.  كما ان البعض يحتفظ بصور القذافي مدسوسة سرا بين أمتعتهم بينما يطلق كثيرون عليه اسم "الزعيم الشهيد". وكان القذافي يطلق على نفسه اسم الاخ القائد. وقالت فتاة صغيرة من سكان سرت تعيش الان مع عائلتها في مدرسة مهجورة في وادي الجرف وهي ترفع أربعة من أصابعها "لدينا فقط أربعة أشياء في حياتنا.. هل تفهمينني.."

ثم أخذت دفتر هذه المراسلة وقلما وكتبت فيه "الله. معمر. ليبيا. و... بس." كان هذا هو الشعار الذي يردده الليبيون في كل مكان في العهد السابق. وقالت الفتاة "عشنا في أمان مع معمر لم نفكر قط أن الحال سينتهي بنا للعيش في مدرسة." ومضت تقول "انظروا حولكم.. هل ترون أي مساعدات غذائية من أي منظمة أو أي مسؤول يزورنا.. لا أحد."

وأثار مشهد جثة القذافي البشع وهي معروضة في غرفة باردة في مصراتة أربعة أيام أيضا حنق أفراد عشيرته وأبناء سرت وكذلك القرار اللاحق بدفنه في مكان سري في الصحراء ورفض طلب أبناء عشيرته بتسلم جثمانه ودفنه طبقا للاعراف. اذ قال الحاج أبو محمد "ذهب شيوخ عشيرتنا الى طرابلس لتسلم جثمان معمر. لكن أهالي مصراتة رفضوا تسليمه. قالوا انه لن يدفن مع المسلمين... حفرنا بالفعل قبرا هنا لدفنه.. لكنهم رفضوا." وقال شخص اخر كان يقف على مقربة "يخافون منه حتى بعد موته. ربما يخافون أن تندلع انتفاضة أو شيء ما اذا عرف الناس مكان قبره."

ويخشى كثير من الليبيين من اندلاع حرب أهلية بين العشائر والمناطق اذا لم يقم المجلس الوطني الانتقالي بتخفيف حدة العداء الناجم عن الحرب والتعامل مع تركة الاسلحة التي تراكمت في شتى أنحاء البلاد. بحسب رويترز.

وقال عبد الله وهو شاب من عشيرة القذاذفة "ليبيا ثقافتها قبلية واذا لم يحققوا مصالحة بين العشائر فانها ستتحول الى حمام دم." وقال أبو نجيب وهو أيضا من سرت ويعيش الان في خيمة في الصحراء مع أفراد عشيرة الهماملة بعد تدمير بيوتهم "الامر لا يتعلق فقط بالسلاح.

"قد يكون عندي مدفع كبير ولكن اذا كنت راضيا فانني لن أؤذي أحدا، وأضاف وهو يشير باصبعه الى عنقه "ولكن اذا لم استرد حقوقي ولم أكن راضيا فيمكنني قتل ثلاثة أشخاص بسكين."

استياء متزايد

من جانب اخر، يكافح سكان مدينة سرت الليبية مسقط رأس معمر القذافي لتقبل الدمار الذي طال مدينتهم وهي قرية صيد ذهبت تطلعاتها في الماضي الى ان تصبح "عاصمة لافريقيا". وبعدما سيطر مقاتلو المجلس الوطني الانتقالي على قطاعات من ليبيا لجأ القذافي الى سرت التي كان قد أعدها لتكون مركزا دوليا وأقام فيها مركزا كبيرا للمؤتمرات. وسويت أجزاء كثيرة من سرت بالأرض خلال القتال بين قوات القذافي ومقاتلي الحكومة المؤقتة الحالية.

وقال ساكن ذكر ان اسمه ابو عبد الرحمن مشيرا الى جهاز تلفزيون عليه آثار اطلاق نار وأثاث محطم "لم نتوقع قط مثل هذا الدمار... هل هذا ما قالوا انه ثورة؟.. آثرنا الفرار على القتال ومع ذلك دمروا منازلنا." وأضاف "عاملونا كحيوانات لا تستحق الحماية."

وكثيرون في سرت مستاءون من مقاتلي الحكومة الليبية المؤقتة الذين يلقون عليهم باللائمة في الطريقة المهينة التي اعتقل بها القذافي وما يقولون انه دمار متعمد للمدينة. وقال ساكن آخر في سرت جلس في منزله المدمر الذي مازال علم ليبيا الاخضر القديم يرفرف عليه "عشنا مع القذافي 42 عاما ولم يهاجم منازلنا بجيشه. عاش معمر ومات كالرجال."

وأثار عرض جثة القذافي في وحدة تبريد بمدينة مصراتة مشاعر غضب في نفوس أفراد في قبيلته والعديد من سكان سرت. وقال الساكن الذي لم يذكر اسمه "لن ينسى الناس الاذلال الذي لحق به. لست من أفراد قبيلته لكنني أقول لك انني لن أنسى ما حدث له." وسلم مقاتلو مصراتة جثتي القذافي وابنه المعتصم بعد تحللهما وتم دفنهما في مكان سري بالصحراء. وكان المعتصم قد اعتقل وهو حي في سرت.

وبعد من دخول قوات المجلس الوطني الانتقالي الليبي سرت مازالت تبدو كمدينة أشباح. وفر معظم سكان المدينة وعددهم مئة ألف من القتال. وشوهد بعض المتطوعين وهم يكنسون الركام والزجاج المكسور في الشوارع التي وقفت فيها سيارات محترقة ومبان مدمرة.

وفي بعض المناطق أجبرت رائحة تعفن الجثث التي يغطيها الذباب العاملين في المجال الطبي على وضع كمامات. ووضعت أشلاء محترقة يتعذر تحديد ملامحها في أكياس بلاستيكية. وقال سكان وعاملون في المجال الطبي انه عثر على نحو 300 جثة ودفنت. ودفن السكان 25 جثة بينهم عشر جثث عثر عليها طافية في بركة للمياه وقد قيدت أيادي أصحابها.

ودعت منظمة هيومان رايتس ووتش ومقرها نيويورك المجلس الوطني الانتقالي الليبي الى التحقيق في مزاعم قتل 53 من قوات القذافي بشكل جماعي بعد العثور على جثثهم بالقرب من فندق مهجور في جزء من سرت كان مقاتلو المجلس يسيطرون عليه.

وتبرز الشعارات التي كتبها أفراد في قوات القذافي وقوات المجلس بالرذاذ على الجدران في سرت الانقسامات العميقة في المجتمع القبلي الليبي وخطر تفاقم هذه التوترات في بلد ينتشر فيه السلاح. وفي العديد من شوارع سرت كتبت عبارات مثل "مصراتة مدينة الصمود" فوق عبارات مثل "الله .. معمر .. ليبيا وبس" وهو هتاف كان يردده أنصار القذافي خلال الثمانية أشهر الأخيرة.

وهدأ مصطفى عبد الجليل رئيس المجلس الوطني الانتقالي من هذه المخاوف خلال كلمة ألقاها للاحتفال بتحرير ليبيا بعد 42 عاما من حكم الفرد الواحد وحث على المصالحة الوطنية واحترام القانون. لكن الانتقام هو الجو العام الان في سرت. وقال ساكن آخر في سرت وهو جالس فوق كومة من الركام أمام منزله ومشيرا الى صدره "هناك شيء يشتعل بداخلي.. أريد أن أحمل سلاحي وأذهب الى مصراتة." بحسب رويترز.

ويعتقد سكان سرت أن مقاتلي المجلس الوطني الانتقالي تعمدوا استخدام القوة المفرطة خلال المعارك مع قوات القذافي المختبئين في سرت لمعاقبة سكان المدينة على دعمهم للزعيم المخلوع.

وهتف ساكن غاضب في سرت قائلا "نعم مات معمر لكن ما قاله صحيح .. انهم جرذان.. عندما يكون التدمير بهذا الشكل فانهم جرذان... انهم ارهابيون وليسوا ثوارا." وقال ساكن يدعى عبد الحليم من منزله المحطم "انتهت سرت ولن تعود الى ما كانت عليه أبدا."

بين انقاض سرت

في سياق متصل، مازال المتطوعون يعثرون على عشرات الجثث في مسقط رأس معمر القذافي في سرت التي سقطت في ايدي قوات المجلس الانتقالي، بينها جثث لمدنيين ليبيين يعتقد انهم قتلوا في ضربة جوية نفذها حلف شمال الاطلسي.

وتم العثور على 26 مقبرة تم اعدادها على عجل وغطيت بطوب مفرغ في محطة لتنقية المياه في الحي رقم 2 حيث قاوم المقاتلون الموالون للقذافي حتى النهاية هجوم قوات المجلس الانتقالي بعد عدة اسابيع من القصف الكثيف. وفاحت رائحة الجثث المتحللة. وقد عثر على بعضها مدفونة بين الرمال دون عمق من سطح الارض ووجدت المقابر متفرقة بين الابنية المدمرة للمحطة، حسبما وصف مراسل لفرانس برس في الموقع.

وقال ابراهيم سليمان احد المتطوعين لانتشال الجثث في سرت ان الجثث عائدة لمقاتلين موالين للقذافي دفنهم رفاقهم على عجل مع اقتراب قوات المجلس الانتقالي من السيطرة على المدينة. وقالت هيئة الجبل الاخضر الخيرية انه تم العثور عند مفترق شارعي دبي والفاتح من سبتمبر بوسط المدينة على اكثر من خمسين جثة لمدنيين تحت انقاض بناية من عدة ادوار سوتها ضربة جوية للحلف الاطلسي بالارض. بحسب وكالة فرانس برس.

وقال احد افراد الهيئة ويدعى محمد مفتاح وبدت الدموع في عينيه "هناك اكثر من خمسين مدنيا تحت الانقاض، من نساء واطفال. انه امر بشع. لا يمكننا الوصول اليهم. نحتاج لجرافات".

واكد سكان في المنطقة ما تردد عن ضربة جوية احدثت حفرة ضخمة من النوع الذي لا يمكن ان يكون قد نجم عن الاسلحة التي كان يستخدمها مقاتلو القذافي او خصومهم من مقاتلي المجلس الانتقالي.

في الهواء الطلق

في السياق ذاته، تنتشر في منطقة سرت الاف الاطنان من الذخائر بين انقاض المدينة المهدمة التي كانت اخر مخبأ للزعيم الليبي معمر القذافي او في مخازن ضخمة خارجة عن اي مراقبة في الصحراء المجاورة. والخطر الآني الاول ناجم عن مخازن الذخائر الصغيرة التي خبأها انصار القذافي والاف القذائف والصواريخ التي لم تنفجر. وهو يهدد سكان سرت (360 كلم شرق طرابلس) حيث قتل الزعيم الليبي السابق. ويمكن مشاهدة قذائف من عيار مئة ملم لم تنفجر في وسط شارع الفاتح من سبتمبر فيما يعبر سكان بين الانقاض المحيطة بها.

وحذر غي مارو اختصاصي المتفجرات في الصليب الاحمر من "تلوث كثيف" بالذخائر غير المنفجرة" في سرت. وقال "كنت اتوقع الاسوأ غير ان العديد من الذخائر انفجرت، ورغم ذلك هناك الكثير من العمل الواجب انجازه". ويعطي الصليب الاحمر بشكل متكرر تعليمات للسكان بعدم لمس المتفجرات لكن مارو اوضح انه "سيكون هناك حتما ضحايا بين الذين سينقلون الذخائر".

وازاء هذه المخاطر، رصدت الحكومة الاميركية اربعين مليون دولار وارسلت عشرات الخبراء باشر بعضهم العمل في وسط المدينة. وعلى المدى البعيد، فان القواعد العسكرية المنتشرة حول سرت تهدد استقرار منطقة الساحل برمتها، مع بقاء كميات هائلة من الاسلحة بما فيها صواريخ من الجيل الجديد فائقة الاداء خارج اي مراقبة، ما يفسح لاستخدامها في العديد من الحروب الافريقية.

وقال بيتر بوكرت مدير عمليات الطوارئ في منظمة هيومن رايتس ووتش "منذ اشهر نحذر المجلس الوطني الانتقالي والحلف الاطلسي" من هذه المخاطر. واعرب مسؤولون في الامم المتحدة مؤخرا عن مخاوفهم من ان تكون بعض هذه الاسلحة وصلت الى ايدي متمردي دارفور، المنطقة المحاذية لليبيا، او عناصر تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الاسلامي.

وعثر مفتشون من هيومن رايتس ووتش في منشأة بضواحي سرت على "ما لا يقل عن 14 صندوقا فارغا كانت تحتوي في السابق على ما مجموعه 28 صاروخا من طراز اس ايه-24"، وهي صواريخ ارض جو روسية فائقة التطور قادرة على اسقاط طائرة مدنية في الجو، فضلا عن صواريخ ارض جو اس ايه-7 غير مستخدمة. وقال بوكيرت انه فيما كانت هيومن رايتس ووتش تتفقد الموقع "وصل مدنيون ومقاتلون معارضون للقذافي لنقل المزيد من الاسلحة" موضحا ان الاسلحة الآلية الخفيفة نقلت في وقت سابق على ما يبدو.

وعلى مسافة في الصحراء، يقبع مخزن اسلحة اكبر بكثير وسط الرمال على مسافة 120 كلم جنوب سرت، يقدر خبير هيومن رايتس ووتش محتواه ب"عشرات الاف الاطنان من الذخائر".

والمنشأة الواقعة في منطقة معزولة محاطة بكثبان ولم يشاهد فيها اي حارس، تضم حوالى 80 موقعا اسمنتيا محصنا تحتوي على ذخائر روسية وفرنسية بشكل اساسي. بحسب وكالة فرانس برس.

وبين الاسلحة التي تحويها قذائف مدفعية من جميع العيارات وذخائر للمدفعيات المضادة للطائرات وصواريخ حرارية او ذات رؤوس متفجرة من السمتكس وصواريخ مضادة للدبابات وقذائف غراد انشطارية وقنابل جوية ثقيلة من عيار 250 و500 و900 كلغ، وانابيب ضخمة تحتوي على الارجح على عناصر نظام من صواريخ اس300 الروسية الانشطارية البالغ مداها 120 كلم، وقطع تبديل لصواريخ ثقيلة وغيرها. وجرد هذه الاسلحة طويل جدا يكاد لا ينتهي. وقد احصى صحافي في واحد فقط من هذه المواقع المحصنة كان نصف فارغ ثمانية الاف قذيفة دبابات من عيار مئة ملم. وحول القاعدة المشرعة يمكن مشاهدة الاف صناديق الذخائر من جميع الانواع مبعثرة بين الرمال، وقد وزعها انصار القذافي بشكل متسرع على مساحة عشرات الهكتارات خشية ان يدمرها الحلف الاطلسي. غير ان هذه المخاوف لم تتحقق، اذ لا تظهر اي اثار قصف في اي من المواقع المحصنة في حين تعرض بعضها للنهب.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 24/تشرين الثاني/2011 - 27/ذو الحجة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م