خواطر فلسفية عن الانتخابات

زهير الخويلدي

تزدان القوانين وتكتسب قيمتها مع صلاح المبدأ. ذلك أنه ما أن تفسد مبادئ الحكومة حتى تصبح أفضل القوانين أسواها. وحينما تصلح تلك المبادئ يصبح لأسوأ القوانين فاعلية القوانين الأفضل. ان قوة المبدأ هي التي تؤدي الى كل شيء

 

من نافل القول أن يقبل المترشح السياسي المستقل نتائج انتخابات المجلس التأسيسي خاصة وأنه ينتمي الى مجتمع ثائر مازال في خطواته الأولى نحو النماء السياسي والتشبع بالتعددية والتنوع والاختلاف ويلزمه الكثير من الوقت والمحطات حتى يتعود بالممارسة الديمقراطية والتداول السلمي على المناصب.

من البديهي أيضا أن يهنئ الفائزين ويشكر المتعثرين وينوه بمجهودات المنظمين خصوصا وأنه يناضل من أجل احترام ارادة الشعب وفي سبيل تمتعه بحريته وسيادته وكرامته ويحرص على المشاركة الفعلية في المنعطف التاريخي الذي يمر به بلده بعد ثورة 14 جانفي ويسعى الى القطع من تقاليد الماضي الشمولي والى غرس شجرة الديمقراطية وحقوق الانسان وقيم المواطنة في حضارة إقرأ وأمة الضاد.

 لكن من تقرأ هذه الانتخابات؟ وماهي الدروس الفلسفية المستفادة؟ وأي مستقبل للتجربة الديمقراطية في تونس؟

ان أسباب فوز بعض الأحزاب والقائمات هي امتلاكها لآلة انتخابية رهيبة وتغلغلها بين الناس واتصالها المباشر بالقاعدة الجماهيرية عن طريق الملصقات والمطويات ومنابر الحوار والاجتماعات والمقابلات الفردية وقدرتها على استثمار آليات الاشهار والدعاية وتركيزها على اثارة عواطف العموم وميولاتهم.

كما تمتلك هذه الأحزاب الفائزة المال والرجال والرصيد النضالي أحيانا والبرنامج التفصيلي حينا آخر ولكنها راهنت على نظافة اليد والطهارة الثورية واستعطاف الناخب من جهة العامل الديني والانتماء الوطني والشعور القومي واختارت الطرق السهلة في التعامل والحوار وركزت على تلبية الانتظارات وارضاء التوقعات وقدمت جملة من الوعود وطمأنة الرأي العام وكسب ود وثقة المواطنين وقللت من بواعث الخوف ومن مهاجمة المنافسين ووظفت الذاكرة السياسية وما سجله المخيال الشعبي من ملاحقات وتعذيب وطرد وعقاب جماعي من طرف النظام البائد لمناضليها وركزت على التوبة وصحوة الضمير.

أما أسباب التعثر بالنسبة الى غالبية المشاركين من جميع مكونات وتيارات الطيف السياسي فهي راجعة الى ندرة التمويل ورداءة التنظيم وعوائق طبيعية وخلافات هيكلية وصعوبات تاريخية ناتجة عن تشتت بعض العائلات وخاصة القومية واليسارية والليبرالية وتفرقهم الى عدة ملل ونحل دون مبرر وصراع على الزعامة والقيادة والبروز والظهور والترأس والمزايدة الثورية والتفاخر بالطليعية والانتماء الى الصفوة، ويرجع التعثر كذلك الى نخبوية البعض الآخر وابتعادهم عن الواقع الاجتماعي وتركيزهم على الجهات المتمدنة والساحلية.

علاوة على غموض العبارة وصعوبة الخطاب وفقدانهم للتجربة السياسية الانتخابية وعجزهم عن استمالة السامعين وضعف الفاعلية التأثيرية لديهم وغياب الرموز المناضلة عن الشارع الانتخابي وتركيزهم على الواقعية والحقيقة الباردة وابتعادهم عن اطلاق الوعود واجترارهم لنفس الموال الايديولوجي المتآكلة وتبشيرهم بالمشروع الطوباوي الحالم الذي اثبتت الأيام غلطه وفشله.

ان الصدق في القول والاخلاص في العمل والانتصار الى الحق ومحاربة الظلم ومقارعة الباطل والتشهير بالفساد والعلم النافع والفعل الصالح وارضاء الناس واحترام المقدسات والقرب من الطبقات المضطهدة والاحساس بمعاناتهم والشعور بمشاكلهم والتعبير عنها دون توظيف أداتي والالتزام بالقضايا العويصة والشجاعة في الرأي والشهادة على العصر هو مفتاح النجاح في أية تجربة سياسية يقتحمها الانسان.

أما الدروس المستفادة فهي:

- ترجمة الوعود الانتخابية الى أفعال ملموسة والاسراع بمعالجة الأزمات الهيكلية التي تمنع الناس من تدبير حياتهم على النحو المطلوب وخاصة الغذاء والصحة والشغل والتعليم والسكن والنقل.

- ان القوى المنتفضة غير الممثلة ملزمة بأن تخرج من صمتها وتفتك لها موقعا وتعمل على استكمال مسار الثورة من أجل تحقيق أهدافها والمبادئ التي قامت من أجلها وناضل الثوار بغية تحقيقها على أرض الواقع وذلك بتقوية دوائر النقد والمراقبة والمحاسبة.

- أهمية الاتصال بالناس وفهم العقل الجمهوري الذي يحركهم والتحلي بالقيم الأخلاقية والروحية والتربوية والتواضع والايثار والنضال الميداني والتضحية في سبيل الخير العام ووضع الذات في خدمة الآخرين.

- أولوية الوحدة والانصهار والتكاتف والعمل الجبهوي والتحالف المبدئي والاعتصام بقيم الحق والخير والعدل والمساواة وتجاوز الخلافات والتنازل عن الرغبات الأنانية والمصالح الشخصية.

- التوجه نحو المستقبل ووضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار والمشاركة من جميع الأطراف في بناء دولة مدنية عصرية وارساء تقاليد تشاورية تفاوضية تفعل التعددية وتصنع التوافق والتفاهم والتعايش.

- لزومية العود على بدء في كل شيء والقطع مع الماضي الشمولي والقيام بنقد جذري للذات ومراجعة راديكالية للرؤى والمناهج والتصورات وبناء راي عام معارض ومضاد يمثل دعامة للحكم الرشيد.

ان التجربة الديمقراطية الفتية في تونس تواجه العديد من المخاطر والتحديات مثل الارتداد والالتفاف ولذلك يجب تقوية التيار الديمقراطي والمحافظة على استقلالية المؤسسات المحدثة وتطويرها وتحسين نسبة مشاركة الناخبين وتجاوز بعض النقائص والسلبيات التي تمت ملاحظتها والتقليل من التجاوزات والمخالفات التي وقعت في المستقبل والتحلي بالروح المدنية والارتقاء بالمستوى الحضاري للفاعلين والمشاركين وايلاء مسألة التداول السلمي للسلطة والتمييز بين السلطات والتوازن بينها ومراقبة كل واحدة للأخرى الأهمية الكبيرة.

 أليس من الأجدى بالنسبة الى بعض القوى والمجموعات والكيانات المتعثرة التوجه منذ الآن نحو بناء الذات السياسية واعداد الكيان الحزبي للاستحقاقات الانتخابية القادمة في سبيل تنشيط الفضاء المواطني والمساهمة البناءة في دمقرطة البلاد؟ وأليس من المطلوب للحكام الجدد أن يتحلوا بالحلم والنزاهة والتواضع والصبر على الرأي المعارض وأن يتحملوا الاختلاف وأن يتركوا مصالحهم الحزبية الضيقة والتكالب على المناصب جانبا ويكونوا على قدر المسؤولية وينجزوا ما وعدوا به ويلتزموا بما أنتخبهم الشعب من أجله؟ فمتى نرى الوطن يجتاز المرحلة الانتقالية بسلام ويتقدم نحو المستقبل بخطوات واثقة؟

* كاتب فلسفي

....................

المرجع:

Montesquieu, de l’esprit des lois 1, éditions Cérès, Tunis, 1994

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 22/تشرين الثاني/2011 - 25/ذو الحجة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م