الحوزة العلمية والمجتمع

وتعزيز أواصر الثقة

محمد علي جواد تقي

في أوساط الحوزة العلمية أو بالاحرى؛ مدارس العلوم الدينية، يُعد الخريج منها بصفة مدرس او مجتهد او خطيب وحتى مرجع تقليد، ذو أهمية كبيرة في حفظ تراث الدين وتكريس القيم والمبادئ السماوية التي جاء بها النبي الأكرم وعززها الأئمة المعصومون من بعده صلوات الله عليهم.

هذه الرؤية لا يختلف عليها المجتمع بكل شرائحه واطيافه، لاسيما ونحن في أجواء المجتمع الاسلامي الذي يحمل في كل الاحوال، هوية الدين والتزاماته، بل واكثر من هذا، فهو بالحقيقة يبحث اليوم اكثر من أي وقت آخر عن هذا الدور المؤثر لعلماء الدين، وهم يتحدثون عن أن الاسلام عبارة عن نظام متكامل للحياة، يحمل بين يديه حلولاً لكل المشاكل والازمات التي يواجهها الانسان.

وقبل ان نقف على نقطة الالتقاء بين المجتمع وعلماء الدين، حريّ بنا تبيين حقيقة ربما تصلح مقدمة لموضوعنا.

هنالك تصور شائع واعتقاد معشعش في الاذهان، بان كل ما يتحدث به عالم الدين، بأي صفة كان، يتعلق فقط وفقط، بالامور المعنوية والروحانية، وتنقل الانسان المستمع او المطالع للكتب الدينية الى عالم ما بعد الحياة الدنيا، من الموت والبرزخ والقيامة وغير ذلك، في حين هو يعيش في حيرة من أمره في وقته الراهن، كيف يوازن بين مردود مالي محدود وضئيل من عمله، وبين توفير لقمة الخبز والكسوة والمسكن المناسب والعلاج وغيرها كثير....؟ أوردنا هذا على سبيل المثال لا الحصر، لأن مشاكل وأزمات الانسان او الانسانية جمعاء تزداد وتتعقد يوماً بعد آخر. ونادراً ما يسمع أحد أن حلولاً ما لمشكلة اجتماعية او اقتصادية صدرت من حوزة علمية او من لدن عالم دين، بحيث يسجل هذا العالم شهادة ابتكار أمام الله وامام الانسانية، لحل معضلة اجتماعية او مشكلة اقتصادية قضّت مضاجع الناس ونغّصت عليهم معيشتهم.

بينما اذا راجعنا سيرة المعصومين الاربعة عشر صلوات الله عليم، نجد انهم أولوا هذا الجانب اهمية كبيرة، في احاديثهم ومواقفهم، وهذا أمير المؤمنين في حديثه الشهير: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا). ان الانسان المبتلى بالفهم السطحي، ربما ينكر على الامام هذا الحديث، لانه يتعارض مع نهج الامام عليه السلام في الزهد والتخلّي عن الماديات، لكن حسبه الكم الهائل من الاحاديث المتواترة عن أئمتنا الاطهار وهي تتحدث عن عوامل تماسك الأسرة والحياة الزوجية والتعامل التجاري والعلاقة بين البائع والمشتري والحاكم والمحكوم. ثم هنالك الحديث الشريف: (الدنيا مزرعة الآخرة)، بمعنى ان الذي يحقق السعادة الحقيقية في هذه الدنيا، يكسب السعادة في الآخرة، وهذا مما يقدمه لنا الدين الاسلامي حقاً.

نعم؛ من مبادئنا التي نعتز بها، أن السلوك الحسن والاخلاق الفاضلة والتكافل والتعاون وغيرها من القيم الاخلاقية السامية، كفيلة بأن تغير حياة الناس نحو الافضل، بل وتجعلهم يعيشون السعادة والسرور. إذ ينخفض مستوى الفقر والظلم والتجاوزات الى أدنى حد له. لكن هذه ايضاً حلول إن جاز لنا التعبير عنها بانها تشجيعية، وإلا ما الذي يمنع البائع من الغش والتطفيف – مثلاً- ما دامت الاموال بين يديه مبذولة ومتاحة، هو وسائر الباعة او التجار في الاسواق؟! وما الذي يحول دون تحرك قلم المسؤول والمدير خلف الطاولة ذات الصلاحيات الواسعة، باتجاه الاختلاس والمحاباة والتجاوز على حقوق الاخرين؟!

بعد هذه المقدمة، نحن نبحث عن مكانة عالم الدين الذي يفترض انه يحمل كل تراث أهل البيت عليهم السلام، لاسيما ونحن على اعتاب ذكرى متجددة لواقعة الطف و عاشوراء الامام الحسين عليه السلام، حيث سيكون المنبر الذي يرتقيه خريجو الحوزات العلمية، أحد أهم اركان الشعائر الحسينية خلال شهري محرم وصفر. هذا الركن الذي أخذ على عاتقه إثارة العقول وتوجيهها بالافكار الأصيلة المرتبطة مباشرة باهداف الامام الحسين عليه السلام وحقيقة قضيته المرتبطة هي بدورها بقضية الاسلام وفلسفة وجوده في الحياة.

والحقيقة نقولها؛ ان المنبر الحسيني يُعد أهم نقاط الالتقاء بين الحوزة العلمية والمجتمع، نرجو ان تكسب المزيد من القوة والمتانة.

لكن السؤال هنا؛ كيف نبحث عن مكانة عالم الدين والحوزة العلمية ؟

هنالك بعض الاضاءات التي ربما تحل لنا هذا التساؤل:

أولاً: "لا يخشون أحداً إلا الله"

جاء في الآية الكريمة: "الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله وكفى بالله حسيبا" (الاحزاب /39). هذه الآية تقدم لنا ببساطة الهوية الناصعة لعالم الدين الناجح في عمله و دوره الاجتماعي، فالحديث هنا عن (رسالات الله)، وليس رسالة واحدة، وهي اشارة ضمنية الى ان الرسالات الالهية إنما تحمل مضموناً واحداً للبشرية وهي التوحيد والعبودية لله تعالى وتحميل الانسان مسؤولية نفسه أمام خالقه، أما الفوارق فهي في الظروف الاجتماعية والزمكانية، فالانبياء ومعهم الاوصياء عليهم السلام ، لم يكن ليخافوا أحداً سوى الله في مهمتهم المقدسة، وفي غير هذه الحالة لما تمكنوا من أداء مهمتهم بالشكل الصحيح، ولما كان ابراهيم – مثلاً- ذلك النبي الذي حفر اسمه في التاريخ وفي ذاكرة الاجيال والأمم، ولم يكن موسى بن عمران ذلك النبي الذي تحدى جبروت السلطة وبطشها كما تحدى أهواء المجتمع وانحرافاته، وهكذا سائر انبياء الله العظام، وختاماً؛ لما أصبح نبينا الاكرم صلى الله عليه وآله، تلك الشخصية التي فرضت نفسها على العالم بأسره، بعد أن حوّل مجتمع جاهلي موغل في القسوة والغلظة والتجاوزات، الى مجتمع نموذجي.

لكن هل تم هذا الانجاز الخارق والعظيم بسهولة؟ التاريخ هو الذي يجيب؛ فقد تحدّى النبي الأكرم كما فعل ذلك أئمة الهدى من بعده، كل الصعوبات والمعوقات في طريقهم. فقد جاءت الرسالة الإلهية لتبشر بما لم يعهده الناس آنذاك. وهذا طبعاً كان حال الاقوام والأمم التي خلت، والقرآن الكريم يحدثنا غير مرة عن هذه المسألة التي واجهها الانبياء بشجاعة، "قالوا يا شعيب أصلوتك تأمرك أن نترك ما كان يعبد آباؤنا" (هود /87)، إذن هنالك ضغوطات من المجتمع أولاً؛ ومن السلطة الحاكمة ثانياً؛ لكن كل ذلك لم يحُل دون استمرار مسيرة الرسالة والدعوة الى الله تعالى.

إن عالم الدين الذي تدخل في نفسه مهابة غير الله تعالى، لن يتمكن من أداء دوره الرسالي الذي من أجله يرتدي الملابس المميزة عن سائر افراد المجتمع، وإلا فان الحديث عن القيم والمبادئ وسيرة أهل البيت عليهم السلام والقرآن الكريم، لا يستقيم بأي حال من الاحوال مع الخشية من ضغوطات الرئيس او الوزير، او الخشية إدبار الناس وتعكّر مزاجهم منه، وبشكل عام فان الذمّ والمدح لايعني شيئاً بالمرة بالنسبة لعالم الدين. ولعل هذا مصداق الآية الكريمة: "إنّما يخشى اللهَ من عباده العلماء". فهو يعلم ويؤمن بانه جزاءه عند الله يوم القيامة وليس عند عباده.

ثانياً: مصالح الناس قبل مصلحته

ان الناس يرون في عالم الدين مثل رب الأسرة والأب الذي يغذي من حنانه ويعتصر من قدراته وطاقاته حتى لا يواجه افراد الاسرة العوز في أي ناحية، مادية أو معنوية. وهكذا بالنسبة للعالم فهو بالحقيقة اكتسب العلوم والمعارف فارتفعت درجته الاجتماعية، لذا عليه – وكما هو حكم المنطق- ان يرخي بظلاله وأفيائه على ابناء مجتمعه وأمته، وجميل كان تعبير أحد علماء الدين، حيث وصف التواضع عند عالم الدين، بانه كلما كبر في العمر والعلم سيكون مثل الشجرة الكبيرة الواسعة الاغصان، تظلل باغصانها مساحة اكبر من الارض.

 إذن؛ فالعالم الحقيقي هو ذاك الذي لا يطلب لنفسه ولمصلحته الخاصة شيء، إنما كل شيء هو للناس وللأجيال من بعده. لنلاحظ حياة المكتشفين الذين غيروا مجرى حياة البشرية، مثل (أديسون) مكتشف المصباح الكهربائي و(كارل ديزل) مكتشف المحرك الحديث للسيارات والقطارات، و(نيوتن) مكتشف قانون الجاذبية و(باستور) مكتشف البكتريا، وغيرهم كثير، كيف عاشوا...؟ وكيف هي منزلتهم ومكانتهم اليوم؟

ونحن نتحدث عن التضحية والإيثار، يجب ان نتذكر سيد الشهداء إمامنا الحسين بن علي عليهم السلام، الذي شقّ ذلك الإخدود في ضمير الانسانية بوقفته البطولية أمام الانحراف والتضليل والعبودية، وعلم الجميع في العالم وليس المسلمين وحدهم، انه لم يكن يطلب السلطة والجاه لنفسه، كما حاول الكثير ومايزالون إشاعة هذه الفكرة المدسوسة، إنما طلب العزّة والكرامة والسعادة لغيره. وهذا ما جعل الناس جيلاً بعد آخر تستقي من نوره الساطع ، بين من يحثّ الخطى نحو مرقده الشريف زائراً، وبين من يجهد فكره وذهنه تأمّلاً ليصوغ من ذلك النور رؤى جديدة وافكار تعمّق الوعي والثقافة الدينية في المجتمع.

 لكن لننظر الى الجهة المقابلة، من جرى خلف مصالحه الشخصية، وأعطى لنفسه الأولوية على الناس والمجتمع، أين هم اليوم من القلوب والاذهان...؟ لقد تجاوزهم الناس الى حيث الرموز والنماذج التي يجدون فيها ما ينفعهم ويخرجهم من واقعهم السيئ بشكل او بآخر، حتى وإن كانت الرموز مجموعة من الممثلين او الممثلات! او ما تعرضه الفضائيات وشاشة الانترنت.

طبعاً ثمة مجادلة قائمة حول الموضوع فيسأل البعض: وما فائدة التضحية والإيثار من اجل الناس؟ وهل يفي الناس ويقدروا الموقف...؟! كما لو ان القضية مقايضة او متاجرة...! وللأسف نقولها بعجالة؛ ان هذه النظرة المغلوطة مترسخة في اذهان البعض من علماء الدين، وهذا ما يبقي جدار عدم الثقة قائم فترة أطول بين الحوزة العلمية والمجتمع.

الدور النزيه

من مظاهر وجود علماء الدين والحوزة العلمية في المجتمع، هو التبليغ، سواء من خلال المنبر الحسيني، او من خلال المراكز الثقافية والاجتماعية، ومدارس القرآن الكريم. وغيرها التي تصب نهايةً في عملية الاصلاح والبناء الاجتماعي، بحيث يشعر الفرد والمجتمع انهم هم الذين يرتقون نحو الوعي والازدهار والتقدم. لكن اذا كان ثمة إحساس او شمّة بسيطة بوجود نوايا وأغراض معينة من وراء هذا المشروع او ذاك، فان الناس ليسوا مستعدين ان يكرروا واقعهم المرير مع هكذا مشاريع، فهم بالأساس يخوضون لعبة السباق المحموم على المصالح، ويشهدون التضحية بالمبادئ والقيم من اجل الربح السريع تارةً او للوصول الى منصب مرموق تارةً اخرى وهكذا... فما حاجتهم لخوض معترك جديد في ميدان آخر؟!

ان المشاريع التي تصدر من الحوزة العلمية، أيّاً كان شكلها واختصاصها، يجب ان تكون الواحة الخضراء المعطاءة التي تجتذب اليها النفوس والقلوب المتعبة، لترى البديل والصورة الاخرى الحضارية التي يجب ان يكون عليها الانسان، وهذا الانسان ربما يكون شاب يافع او فتاة او رجل مسن او إمرأة ربة بيت او رجل صاحب مهنة معينة، او حتى الطفل الصغير. كل هؤلاء لابد ان يجدوا في مشاريع الحوزة العلمية النافذة التي تنقلهم الى عالم القيم الاخلاقية والمبادئ الانسانية قولاً وعملاً، لا أن ترمي بهم في متاهات العلاقات بين هذه الجهة او تلك، أو بين هذا الشخص وذاك. لان الناس بشكل عام، وهذا من حيث الفطرة السليمة، يرون في الحديث عن القيم والمبادئ أمراً لا علاقة له بعوامل الزمان والمكان، إنما هي مسائل وجدانية أصيلة، يفترض ألا تعلّق على ارادة هذا او ذاك، مهما كان.

وكما أسلفنا بدايةً، كانت تلك إضاءات وبشكل سريع، لأن الموضوع ذو شجون حقاً، وهذا نابع من الوضع المزري الذي تعيشه مجتمعاتنا الاسلامية وهي تقف حائرة اليوم بين ما تسمعه وتقرأه من التراث الديني العظيم، وما تراه بعينها من غياب كبير لهذا التراث، والاخطر، تحدي الثقافات الاخرى وبشكل سافر وغير مسبوق في التاريخ، فلا ضوابط أمام الشباب والفتيات (إلا ما رحم ربك) بفعل تكنولوجيا المعلومات والاتصال السريع، وتراجع في الالتزامات الاخلاقية في التعامل بين الناس. لكن الأمل كبير والمهمة صعبة ومقدسة في آن، لكنها ليست مستحيلة قطعاً.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 20/تشرين الثاني/2011 - 23/ذو الحجة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م