شبكة النبأ: تستشرف مجلة روسيا في
السياسة العالمية في عددها الخامس المنشور مؤخرا من خلال تحليل كتبه
كريستيان كووتز اولريخسين، بعض قضايا الاستراتيجية لدول الخليج العربي
في المستقبل المتوسط، مرتكزة في تحليلها المنشور على محاور سياسية ذات
بعد بابعاد اقتصادية تتمثل بالمواقف الدولية والسياسات المتبعة ازاء
القضايا المصيرية والانية.
فقد جاء في التحليل، ستواجه كافة دول الخليج العربي عاجلا او اجلا،
مشكلة نضوب ثروات باطن الارض، والحاجة الى اسلوب استراتيجي لحلها. ومع
ذلك ان اجراءات الحكومات ابان "الربيع العربي"، تدل على ان مهمات
الصمود القصيرة المدى تتفوق على خطط الاصلاحات الجذرية الطويلة الامد.
وان الضغط المكثف "للربيع العربي" يغير بشكل حاد الصورة السياسية
للشرق الاوسط وشمال افريقيا. فقد اثار تغير السلطة في تونس ومصر موجة
استياء واحتجاجات شعبية، شكلت خطرا ملموسا للانظمة المستبدة الحاكمة
دون بديل في اليمن والبحرين وسورية، وحرضت على حرب اهلية في ليبيا،
تمخضت عن سقوط الدكتاتور معمر القذافي. واثرت هذه المرحلة العارمة بشكل
متباين على بلدان مجلس التعاون الخليجي الستة. ويدور الحديث حول
البحرين والكويت وسلطنة عمان وقطر والمملكة السعودية والامارات العربية
المتحدة. واجتازت الدول المذكورة، باستثناء البحرين هذه المرحلة بهلع
خفيف، اذ لم تمسها في الغالب، موجة الاستياء الشعبي. ولكن العواقب
البعيدة المدى للاحداث ستكون كبيرة جدا.
السير نحو سياسة اقتصادية ما بعد النفط
ويشير كريستيان كووتز اولريخسين، في ظل الحفاظ في البحرين وسلطنة
عمان على وتائر الانتاج بمستوى عام 2008، وعدم اكتشاف حقول جديدة،
سينضب احتياطي النفط لديهما، وفقا للتكهنات، حتى عام 2025. وان الوضع
في بلدان الخليج العربي الاخرى، ليست درامية جدا، علما بان الاستهلاك
المفرط للثروات يشكل خطرا يهدد احتياطياتها الهائلة. كما ان حدة
المشاكل، التي ترتبط بنضوب الثروات الطبيعية، حتى في البلدان المرفهة
نسبيا، متباينة جدا. فقطر وابوظبي تستفيدان من التوافق الموفق بين عدد
السكان القليل والاحتياطي الهائل. والكويت تعاني في ظل احتياطي النفط
الهائل لديها، من الازمات السياسية الدورية، التي تلحق ضررا بخطط
التنويع والتنمية. وان ثروات المملكة السعودية والامارات المتحدة
الطبيعية الهائلة لا تبدو كبيرة على خلفية كثافة سكان المملكة، وتباين
الثروات الطبيعية في الامارات المتحدة، حيث انها تشكل 93% من حجمها
العام في ابي ظبي، في حين لا توجد كميات كبيرة من الوقود نسبيا في
الامارات الست الاخرى.
وتؤثر العوائد المفرطة من النفط، وفي الاونة الاخيرة من الغاز، على
سياسة الضمان الاجتماعي وعلى آليات التوزيع، التي تحدد النظام السياسي
في بلدان الخليج العربية. وان عائدات النفط حسنت الاقتصاد السياسي،
ولكنها ادت الى انحراف بروح "سيكولوجية العيش على هذا العائدات". ونشأ
في المنطقة في العقد السادس والسابع من القرن الماضي نموذج "دولة
الرفاه العام"، وذلك عندما كان عدد السكان في البلد ليس كبيرا، بينما
دخل الفرد من السكان عال جدا. وتمخض الانفجار الديموغرافي والمؤثرات
السيئة على علاقات السوق لسياسة التوزيع الاقتصادية عن عدم توازن بنيوي
ملموس في النظام الاجتماعي والحكم. ومن الصعب جدا ازالة عدم التوازن
هذا او تخفيفه، لان مثل هذه المحاولات ستمس بلا ريب، الجيل الفتي
النامي بسرعة، الذي لم يعان من صعوبات عصر ما قبل النفط، ويعتبر
الخيرات الاجتماعية ومختلف المخصصات الاجتماعية وغيرها من البديهيات.
وولد النمو السكاني الجامح على مدى 4 عقود، رجوحا عدديا في كفة
الشباب، الذين يسعون على مدى العقدين الاخيرين لايجاد موقع لهم في
المجتمع. واذا كان في عام 1950 في شبه الجزير العربية 8 ملايين نسمة،
فقد وصل العدد في عام 2007 الى 58 مليونا، وهناك تكهنات بوصوله عام
2050 الى 124 مليونا. وتخلق دينامية النمو الديموغرافي شكوكا في حيوية
الاليات الحالية لتوزيع الثروات من خلال الاعانات الاجتماعية والسيطرة
الصارمة على سوق العمل. كما ان هذه الدينامية تدفع الى اعطاء الاولوية
لبرامج التنويع الاقتصادي، التي يجري تطبيقها في المنطقة الان في كل
مكان. وحسب احصائية 2008، كان الشباب دون 30 سنة، وما يقارب 30% منهم
دون 15 سنة، هناك يشكلون نحو 70% من السكان. وتصل مسؤولية السلطات عن
تأمين التعليم وفرص العمل لهذا العدد الهائل من الشباب النامي، الى
المستوى الحرج.
وان تعذر توفير فرص العمل عمليا لعدد السكان النامي بسرعة مسبقا على
مدى سنين عديدة، ولد التحدي الرئيسي للاستقرار السياسي الداخلي. وتحاول
دول الخليج العربية الغنية نسبيا بيأس، كبلدان شمال افريقيا المكتظة
بالسكان اكثر، ولا تمتلك احتياطي نفطي، توفير عدد كاف من فرص عمل، بغية
التغلب على النمو السكاني الطبيعي، والحيلولة دون استمرار ارتفاع نسبة
البطالة العالية اصلا. وتفاقم الوضع "سيكولوجية الاعتماد على عائدات
النفط والغاز". ويخلق هذا عدم توازن اجتماعي واقتصادي ودرجة عالية من
التباين في سوق العمل من مستويين ـ معظم السكان المحليين يعملون في
قطاع الدولة المضخم، في حين تهيمن في القطاع الخاص اليد العاملة
الرخيصة بشخص العمال الوافدين.
ويولد طابع التطور هذا عدم انتظام توزيع الايرادات والثروات. وعلى
سبيل المثال، هبط مستوى دخل الفرد في المملكة السعودية خلال 20 سنة الى
اكثر من النصف، من 16650 دولارا عام 1980 الى 7329 دولارا عام 2000.
وفي الحقيقة، تدهورت اسعار النفط في هذه المرحلة على مدى فترة طويلة.
ولكن جرى فيما بعد تدفق راس المال بشكل لم يسبق له مثيل، ومع ذلك حتى
اسعار النفط العالية جدا في الفترة 2003 ـ2008، لم تستطع اخفاء عدم
المساواة، الذي ظهر بنتيجته نوع جديد من الفقراء في المنطقة.
وكل هذا يزعزع الوضع، لانه يؤدي في معظم الحالات ال انقسام المجتمع
بشكل عميق. وتضاف الى هذا النزاعات الطائفية في البحرين والمملكة
السعودية، وكذلك المشاحنات بين السكان الاصليين والوافدين في الكويت
والامارات العربية المتحدة.
وكشف البحث، الذي اجرته الشركة الاستشارية "Mc Kinsey" في نوفمبر/تشرين
الثاني 2007، ابعاد المشاكل الاقليمية، الناجمة عن تنامي البطالة. وان
مستوى البطالة الفعلي في البحرين وسلطنة عمان والمملكة السعودية، حسب
تقييم معدي البحث، يزيد على 15%، وبين الاشخاص الذين اعمارهم بين 16
و24 سنة يعادل 35%، علما بان الاحصائيات الرسمية تخفض هذا الرقم بشكل
ملموس. وان قطاع الدولة المتضخم لم يعد قادرا على تشغيل الشباب. ومن
نواقص نظام التعليم، ان معظم الشباب، الذين يملأون سوق العمل، لا تتوفر
لديهم المؤهلات المطلوبة للعمل في القطاع الخاص. وفي القريب العاجل
سترفد الجماهير، التي تسعى للحصول على عمل بجيل جديد، وستتضح الهوة بين
مواصفات التعليم المحلية ومتطلبات سوق العمل.
ويدرك الساسيون والمسؤولون انه بدأت تلوح بوادر ازمة. ويجري ابتداء
من العقد الاخير في القرن الماضي، وخاصة في العقد الاول من الالفية
الجديدة، الكثير من المحاولات لتنويع الاقتصاد، وتوسيع القاعدة
الانتاجية. وكانت سلطنة عمان والبحرين، اللتين يهددهما بالمرتبة الاولى
نضوب الاحتياطيات الطبيعية، في الطليعة لاسباب مفهومة. واجتازت
الاختبار السياسي الاصلاحات، التي ترمي الى توسيع القاعدة الصناعية
الاقتصادية من اجل تقليل التبعية لعائدات النفط والغاز، وايصال الاخطار
المحتملة في مجال الامن الداخلي الى الحد الادنى . وان البرامج، مثل "البحرين
والبزنيس الصديق" و"عمان 202: خطة اقتصادية للتنمية"، اي الرغبة في
توسيع الانتاج بقيمة اضافية عالية خارج قطاع النفط والغاز، تسرع تنفيذ
البرامج، التي ترمي الى زيادة نسبة السكان المحليين في سوق العمل،
وتعزيز القطاع الخاص بصفته قاطرة النمو الاقتصادي.
وبالتالي، تبنت قطر والمملكة السعودية والامارات العربية المتحدة
خطط تنويع طموحة اكثر. فمثلا "آفاق تنمية قطر"، التي تمت المصادقة علها
عام 2008، حددت 5 تحديات رئيسية، بينها تلبية احتياجات الاجيال الحالية
والقادمة، وكذلك جعل وتائر النمو الاقتصادي تتناسب مع متطلبات التطور
الاجتماعي. وفي المملكة السعودية اعتمد اسلوب من جزئين للتنويع
الاقتصادي. من جانب، الرهان على انشاء مراكز اقتصادية، ما يشه
المراكزالحضرية، بما في ذلك، نشر المعلوماتية والمعارف، ومن جانب آخر ـ
زيادة الاهتمام بتنمية قطاع الصناعة البتروكيماوية الثانوية، وتصنيع
الخامات باعلى مستوى. ومن المفروض ان تؤمن هذه المشاريع المنتظرة منذ
امد بعيد، خلال الفترة 2009 ـ 2014 ما يقارب 10.8 مليون فرصة عمل. ولكن
السعوديين ذوي المؤهلات الضرورية لن يشغلوا، حسب تقدير معدي تقرير
البنك الوطني الكويتي عام 2009، الا نحو 50% من الدرجات الشاغرة، او
5.45 مليون فرصة عمل، في حين سيشغل الوافدون القسم الاخر. وبعبارة اخرى
ان استمرار التخلف بمستوى التعليم، وتطور الثروة البشرية يحدان من
وتائر وابعاد خطط التنويع.
واعدت القيادة السياسية في امارة دبي بوتائر سريعة خطة تنمية عملاقة،
سعيا لايجاد حيز جديد للامارة بمثابة مركز خدمات ونقل بحري. وهذه اكبر
محاولة جذرية للانتقال السريع الى اقتصاد ما بعد النفط. وقد تسنى
للامارة عند عام 2006، خفض قسط قطاع النفط في الناتج المحلي الاجتمالي
حتى 5.1%. ولكن انفجار "فقاعة دبي" الاقتصادية المريع في 2008 ـ2009،
شكل تحذيرا جديا لانصار التنويع المتحمسين في كل حوض الخليج العربي.
وتشخص محاولة دبي غير الموفقة في انشاء قاعدة اقتصادية حيوية وراسخة
خارج حدود استخراج النفط، العقبات، التي تعيق التنويع الاقتصادي الفعال.
ومن سخريات القدر، تحتم على الامارة فقدان قسم ملموس من استقلاليتها
داخل دولة الامارات العربية المتحدة ثمنا لمحاولة بناء اقتصاد مستقل عن
النفط. فلم ينقذها من الافلاس المالي الا ضخ السيولة العاجل من امارة
ابو ظبي، التي لديها احتياطي هائل من النفط.
ردود الفعل على "الربيع العربي"
ويؤكد كريستيان كووتز اولريخسين، اكسبت احداث 2011 ضرورة الاصلاح في
دول الخليج العربي زخما جديدا. فعندما اتضح ان الاحتجاجات والمطالبة
بالديمقراطية تهدد بالتحول الى حركات اجتماعية في سبيل تحولات جذرية،
ردت السلطات باعمال تنكيل. وشكل تضييق الفضاء السياسي، التي كان بوسع
المعارضة العمل عبره، سبب استقطاب المجتمع الى مطالبين بالاصلاح وانصار
القمع. وارتفعت حرارة المواجهة حتى قبل بدء المظاهرات في العالم العربي
في كل مكان. فعكر اعتقال نشطاء المعارضة والمناضلين في سبيل حقوق
الانسان الانتخابات البرلمانية في البحرين في اكتوبر/تشرين الاول 2010.
وانتهت سلسلة الصدامات في الكويت في ديسمبر/كانون الاول بمشاركة قوى
الامن بالاعتداء على المجلس الوطني، وتعرض 4 نواب الى اصابات خطرة.
واضرت اعتقالات رجال القانون البارزين والكاتب، الذي كان ينتقد الاسرة
الحاكمة علانية، وكان لها صداها بسمعة الكويت كأكثر المجتمعات انفتاحا
في الخليج. وحتى قبل بدء "الربيع العربي" كانت اعمال القمع ردا على
مطالب المعارضة، تعني ان النخبة تجلس على برميل بارود ينفجر من اي
شرارة.
وفي البحرين، حيث يحكم نظام اسرة آل خليفة السني، اغلبية سكانها
شيعة. وليس مدهشا، ان هذا البلد، الاول في المنطقة واجه حركة احتجاج
واسعة الابعاد. وتحولت انتفاضة المعارضة الداعية للديمقراطية في اواسط
فبراير/شباط بسرعة الى دعوات للاصلاح من اشخاص من مختلف الطوائف. وعدد
المحتجين، الذين يمثلون كافة الطبقات الاجتماعية عمليا، اثار فزع
السلطات ودفعها الى اعمال قمع قاسية جدا. وبعد فشل المحاولات الاولى
لتهدئة المتظاهرين بواسطة القوات المسلحة البحرينية، اعلنت الحكومة
حالة الطوارئ، واستدعت في مارس وحدات عسكرية من المملكة السعودية
والامارات العربية المتحدة، بمثابة قوات "درع الجزيرة" لمجلس التعاون
الخليجي. والغي نظام حالة الطوارئ في 1 يونيو/ حزيران، ولكن القوات
الاجنبية بقيت، وعجز الطرفان خلال الحوار الوطني، الذي جرى في يوليو/تموز،
عن التوصل الى اتفاق او حل وسط.
وكانت اقل سعة (ولكن ملموسة مع ذلك) الاحتجاجات في الكويت وسلطنة
عمان (تفاقمت المواجهة في فبراير/شباط بعد ان تمخضت اجراءات قوى الامن
عن وقوع ضحايا)، وكذلك في المحافظة الشرقية في المملكة السعودية،
الغنية بالنفط. ومن المميز ان المظاهرات في الاخيرة، كانت دعما للاخوة
الشيعة. فقد حمل الشيعة السعوديون علم البحرين، وكانوا يهتفون بشعارات
التضامن مع الاخوة في الدين في الجانب الاخر من الخليج. وتطور الاحداث
هذا اقلق جدا السلطات السعودية، لان الخلاف مع الطائفة الشيعية، التي
تشكو من التمييز الديني والسياسي، قديم جدا. ولجأ المسؤولون في
السعودية والبحرين الى التكتيك القديم، باتهام ايران بالتدخل في شؤونهم
الداخلية. وبعبارة اخرى، اعتبرت اسباب الاستياء، مؤامرة من الاعداء
الخارجيين، وليس نتيجة الاخطاء الخاصة.
واعتقل في المملكة السعودية في مارس/آذار 5 من المفكرين، الذين
حاولوا لاول مرة في تاريخ المملكة تأسيس حزب سياسي، (حزب "الامة"
الاسلامي). واصبح هذا الاجراء جزءا من هجوم واسع جدا على المعارضة
السياسية. وفي الامارات العربية المتحدة عانى من قمع قوي مشابه 133
مفكرا، وقعوا عريضة، طالبوا فيها باجراء انتخاب كافة اعضاء المجلس
الوطني الاتحادي مباشرة، وتعديل الدستور من اجل تركيز صلاحيات السلطة
التشريعية بالمجلس. واعتقل عدد من الموقعين، وفرضت الدولة من حيث
الجوهر، سيطرتها على 3 منظمات المجتمع المدني، ايدت العريضة.
ومن جانب آخر، اقتصرت حكومات بلدان الخليج العربية بشكل عام، على
اجراءات متواضعة، مثل توزيع الاموال بصورة مباشرة (الكويت والبحرين
والامارات العربية المتحدة)، وتوفير فرص عمل في قطاع الدولة ، المتضخم
الى اقصى درجة اصلا (المملكة السعودية والبحرين وسلطنة عمان) وزيادة
الاجور والمخصصات (المملكة السعودية وسلطنة عمان). ويدور الحديث وهذا
مفهوم، حول اساليب "مختبرة ومجربة" للوقاية من الاضطرابات الجماهيرية
من اجل الحفاظ على الاستقرار، اي اخماد الحريق بالهبات المالية. وادى
هذا مفعوله على المستوى القصير الامد، فقد هدأ الوضع بعد شهري "الربيع
العربي" العاصفين الاولين. الا ان مواصلة ممارسة سياسة الرعاية عن طريق
زيادة الاعانات الاجتماعية غير المدعوم، لممثلي الطبقات الاساسية في
المجتمع، تتعارض بشكل مباشر مع برامج التنويع، التي تستهدف الغاء حقوق
الملكية وامتيازات السكان الاصليين المعززة قانونيا، بصورة تدريجية،
واقامة اقتصاد قادر على التنافس على المستوى العالمي.
وبدل تعزيز القطاع الخاص، وتعليم المواطنين على عدم الاعتماد على
الدولة فقط، تعتزم المملكة السعودية على سبيل المثال، تشغيل 60 الف
سعودي بصورة اضافية (في وزارة الداخلية وحدها)، وزيادة الحد الادنى
للاجور في قطاع الدولة. وهذه الاجراءات مجرد تضر بشكل ملموس، بالقدرة
التنافسية الطويلة الامد والتوازن المالي لبلدان الخليج العربية، التي
لا تستطيع توزيع عائدات النفط الى مالا نهاية. وهي مجرد تخلق رهائن
لرأس المال، لان التوزيع بسخاء اسهل بكثير من التوفير. ومن المستبعد ان
تتيح الحصافة السياسية للحكومات وقف برامج المساعدة والدعم المالي
بسرعة.
وان كافة دول المنطقة ستواجه عاجلا او اجلا مشكلة نضوب الثروة
الطبيعية، وتدل اجراءاتها ابان الاضطرابات مؤخرا، على ان استراتيجية
الصمود القصيرة المدى تفوق على خطط الاصلاح العميق الطويلة الامد.
فنظام البحرين ضحى بالاستثمارات لسنين عديدة في انشاء مركز سياحي مالي
اقليمي (جزء من برنامج "البزنيس صديق البحرين") من اجل الصمود سياسيا.
ماذا يهدد سياسة الطاقة من عقبات؟
ويسترسل كريستيان كووتز، بمزج تساؤلات واجابات مفترضة فقرأ، ماذا
يعني هذا بالنسبة لدول الخليج العربية، باعتبارها من مصدري الوقود
الرئيسيين؟ فان قسطها في استخراج النفط عالميا يعادل نحو 19%، والغاز
الطبيعي ـ 8%. ولديها، علاوة على ذلك، 37% من احتياطي النفط العالمي
المكتشف و25% من احتياطي الغاز. والمملكة السعودية تحتل الموقع الاول
باحتياطي النفط، وقطر ـ الموقع الثالث باحتياطي الغاز. وسيزداد قسط
المنطقة في استخراج النفط عالميا، حسب التكهنات، من 28% (بمافي ذلك
العراق وايران) عام 2000 الى33% عام 2020. وبما ان قسما كبيرا من
استخراج الوقود النامي يصرف في اسواق آسيا، مجرد ستنمو الاهمية
الاستراتيجية للمنطقة خلال العقود القادمة. وتم تجاوز الحد الرمزي عام
2009، عندما فاق حجم النفط الذي تصدره المملكة السعودي الى الصين، لاول
مرة ،حجم صادراتها الى الولايات المتحدة.
ومع ذلك تخفف التفاؤل، الذي يرتبط بتقييم احتياطي الثروات الطبيعية
تحت الارض، ظاهرتان. الاولى ترتبط بالارتفاع المتواصل للسعر الواقي من
العجز، الذي يحدد توازن الميزانيات الوطنية. فقد ارتفع بالنسبة للمملكة
السعودية في العقد الاخير من 20 الى 90 دولارا للبرميل الواحد. ومن
المنتظر ان تستمر هذه الظاهرة وحتى تتسارع. ويتوقع معهد الانظمة
المالية الدولية ان هذا السعر سيرتفع حتى عام 2015 الى مستوى 115
دولارا، وقد يقفز حتى عام 2030، كما جاء في تقرير شركة "جدوى للاستثمار"
السعودية، الى 320 دولارا للبرميل. وفيما يخص بلدان الخليج الاخرى فان
سعر استخراج النفط الواقي من العجز في البحرين يزيد على 100 دولار
للبرميل، وحتى في الكويت الغنية بالنفط، يقترب هذا السعر من 80 دولارا،
وهذا زيادة حادة مقارنة بالسنين السابقة. وتحتاج الامارات العربية
المتحدة وسلطنة عمان الى سعر لا يقل عن 60 دولارا للبرميل. وقطر في
افضل وضع، اذ يكفيها لتوازن ميزانيتها 41 دولارا للبرميل.
وتعكس هذه الاسعار العالية لدرجة ما، الدعم المكثف، الذي يرمي الى
تخفيف موجة الاستياء. فقد اعلنت المملكة السعودية عن دفع اعانات مالية
مجمل مبلغها 131 مليار دولار، وهذا يزيد على الميزانية الوطنية السنوية
في الفترة حتى عام 2007. وقد استحدثت بلدان الخليج مجتمعة صندق تنمية
البحرين وسلطنة عمان بمبلغ 20 مليار دولار، في حين اعلنت امارة ابوظبي
عن بدء برنامج مساعدة الامارات الشمالية الفقيرة بمبلغ 4.4 مليار دولار.
وترغم اسعار النفط العالمية العالية الانظمة على دعم المواد الغذائية
والوقود، من اجل الحفاظ على الاسعار بالمستوى المقبول (المخفض بشكل
مصطنع) سياسيا. ويرسم التقرير "جدوى" صورة معتمة جدا للمملكة السعودية
في عام 2030: انحسار استخراج النفط، مما سيفاقم، كما يفترض، تدهور
احتياطي العملات والذهب بسرعة، وتنامي ديون الدولة والشركات.
وان مستوى استهلاك الطاقة العالي بشكل غير معهود، سيشكل مأساة
لبلدان المنطقة. فالحكومات تدعم ليس مجرد اسعار الطاقة خلافا لقوانين
السوق، بل وتنفذ مشاريع تصنيع (وحضارية) تحتاج الى طاقة كبيرة جدا.
ويتوافق استهلاك السكان غير الرشيد للطاقة الكهربائية (الكهرباء في قطر
مجاني للسكان الاصليين، علما بان هذا حالة استثائية)، مع استعمال محطات
التحلية، وكذلك مؤسسات البتروكيماويات التي تستهلك طاقة كبيرة ومصانع
الالمنيوم "حجر اساس التنويع". ويتمثل مصدر الطاقة الكهربائية الرخيصة
في تزويد الاسواق المحلية بالنفط الخام بسعر 8 ـ 10 دولار للبرميل،
ارخص مرات من السعر العالمي.
ومع تنامي مستوى الوقاية من العجز، يعتبر الاستهلاك غير الرشيد
مشكلة سيتعذر حلها مع مرور الزمن. وقد حددت ابعادها في التقرير الرسمي،
الذي اعدته شركة الكهرباء الوطنية السعودية ربيع 2011. فان ما يقارب
ثلث النفط المستخرج في السعودية (8.5 مليون برميل في اليوم)، يذهب، حسب
الوثيقة، لتلبية الطلب المحلي، الذي تشكله بصورة اساسية، شركات التوليد،
كما تشكل عائدات صادرات النفط الباقي نحو 80% من ايرادات الدولة. ويحذر
معدو التقرير من ان البلد لن يستطيع في عام 2030 تلبية طلبات السكان
المحليين بالكامل لدى بقاء الاستهلاك واستخراج النفطك بالمستوى الحالي.
وقد زاد استهلاك النفط وفق احصائية مايو/ايار 2011 بنسبة 11% بحسباب
السنة، وان النمو الديموغرافي السريع مجرد يسرع العملية. وكشف بحث
مشابه اجري في الكويت، واقعة اذا لم ينخفض مستوى الاستهلاك، فسيتعين
على البلد حتى عام 2027 صرف كل النفط الذي يستخرج، 100%، على تغطية
النفقات الداخلية.
ويعتبر دعم الوقود والخامات الاخرى عنصرا هاما في صفقة الانظمة
الحاكمة مع الجماهير الشعبية، فبتوزيعها جزءا من الثروات على المواطنين،
تسعى النخب الحاكمة الى منع انقسام المجتمع واعمال الشغب في الشوارع.
وادت ممارسة سياسة توزيع الثروات على مدى سنين عديدة الى نشوء حقوق
ملكية ملموسة معززة تشريعيا، ومن الصعب الان ان يؤخذ من المواطنين ما
يعتبرونه يعود لهم عن حق. ومع ذلك تظهر ردود الفعل على "الربيع العربي"،
ان الانظمة الحاكمة لا تود او لا تشعر بانها قادرة على مساعدة
المواطنين في التخلص من "سيكولوجية الاعتماد على العائدات"، ولذلك
سيواصل المستهلكون الاستهلاك غير الرشيد للطاقة، مصعدين اكثر وتائر
نضوب احتياطي الوقود، والتكاليف نتيجة تفويت السوق المحلية الفرص.
ماذا يهدد المنطقة والعالم من عواقب؟
ويستشرف كريستيان ايضا، ان هذه السياسة ستتمخض عاجلا او آجلا عن
عواقب وخيمة اقليمية وعالمية. وعلى المستوى الاقليمي ستزداد الهوة بين
المناطق الغنية في مجال الطاقة والفقيرة. فقد عانت البحرين وسلطنة عمان
وست امارات، باستثناء ابوظبي، من شحة الموارد نسبيا. وفي النتيجة نشأت
انواع جديدة من التبعية الاقتصادية والسياسية، غيرت طابع العلاقات.
فوقعت البحرين منذ فترة طويلة اتفاقية مع المملكة السعودية، حول
الاستثمار المشترك لحقل "ابو سعف" النفطي السعودي. وبقدر ما سينضب
الاحتياطي لديها، ستكتسب الايرادات من الاستثمار المشترك "لابو سعف"،
اهمية متزايد بالنسبة للبحرين. وحاولت الكويت استيراد الغازالمسيل من
قطر، لتلبية احتياجتها الداخلية المتنامية، واضطرت للتخلي عن هذه
الفكرة بعد عدم سماح المملكة السعودية بمد انبوب غاز ترانزيت عبر
اراضيها. وتعويضا لذلك بدأت الكويت، وكذلك دبي، باستيراد الغاز من
استراليا وحقول اخرى في حوض المحيط الهادي. وتسنى لابوظبي في غضون ذلك
عقد صفقة اقليمية مع قطر، تتيح شراء الغاز المسيل القطري بسعر واطئ،
وتبيع قطر غازها لتسييله وتصديره الى السوق الاسيوية بسعر اعلى بكثير.
وقوبل هذا العقد في قطر بشكل متباين، وفي النتيجة اعلنت الدوحة عن
تجميد الاستكشاف الجيولوجي عن احتياطي جديد من الغاز في الحقل الشمالي
العملاق حتى عام 2020، ومن المنتظر ان توجه قسما كبيرا من الغاز المسيل
لاحتياجات البنية التحتية الداخلية للتهيئة لبطولة العالم بكرة القدم
في عام 2022.
كما ان تطورات الاقتصاد العام في بنية الانظمة المالية والتجارة
والانتاج العالمية تتمخض عن نشوء مراكز نفوذ كبرى (ليست غربية). وتلعب
بلدان الخليج دورا بارزا في هذا التغير الواسع في ميزان القوى العالمي.
فقد تعززت العلاقات الاقتصادية والسياسية مع الصين والهند بشكل ملموس
في السنوات الاخيرة. وظهر لاعبون جدد تتطلب مصالحهم الاستراتيجية
مواصلة تنمية المنطقة. وفي الحقيقة ان توجه دول الخليج التجاري
الاقتصادي نحو الشرق يتعارض مع التحالفات العسكرية، التي تشكل الولايات
المتحدة فيها ضمانة الامن.
وقد اعلن مانموهان سينغ، رئيس وزراء الهند عام 2008، ان الهند تعتبر
هذه المنطقة جزءأ لا يتجزأ من دائرتها. وبالاضافة الى الاتفاقيات مع
قطر وسلطنة عمان حول التعاون العسكري لصيانة الامن في البحر، وقعت
الهند مع المملكة السعودية (فبراير 2010) اعلان الرياض. وتحولت
العلاقات الثنائية الى شراكة استراتيجية. ودفعت المملكة السعودية
لتوقيع هذه الاتفاقية لدرجة ما، اعادة تقييم العلاقات الاقليمية
استراتيجيا، وتهديد الاستقرار من جانب احداث اليمن وافغانستان وباكستان.
ويتنامى قلق الدبلوماسيين الهنود من التزايد السريع لنفوذ بكين، كلاعب
رئيسي، في الخليج العربي،، ويعتبرون هذا النفوذ بمثابة تحد للهند في
المستقبل.
وجرت بلورة مصالح الصين بشكل دقيق في خطتها الخمسية العاشرة (2001 ـ
2005)، حيث حددت لاول مرة اولويات امن الطاقة. كما اقامت الصين قاعدة
بحرية كبيرة في منطقة ميناء جوادار الباكستاني العميق. وجرى افتتاح
القاعدة عام 2005، ولكن بدأت العمل بكامل طاقتها عام 2008. ونشأ لدى
الصين بهذه الصورة، مرفأ ترانزيت للنفط، الذي يستورد من ايران وافريقيا،
ومن ثم يرسل الى محافظة شينجيانغ. ولدى الصين الان قاعدة استراتيجية في
بحر العرب على بعد 400 كم من مدخل مضيق هرمز. وتوفر هذه القاعدة للصين
امكانية حماية مصالحها الهامة حيويا في مجال امن الطاقة، ومراقبة الشحن
البحري. ووقع في مارس 2010 حدث، جسد مرحلة جديدة لزيادة امكانيات الصين
في عرض البحر، اذ زارت سفينتان حربيتان صينيتان ميناء زايد بابي ظبي،
بعد اختتام مهمة مكافحة القرصنة في خليج عدن على مدى 6 اشهر.
وبدأت روسيا ايضا توسيع علاقاتها السياسية والاقتصادية مع بلدان
الخليج العربية بشكل عام، وبالتحديد، عززت العلاقات مع قطر والمملكة
السعودية، النظيران في مجموعة الاستخراج. وكانت زيارة فلاديمير بوتين
لهذين البلدين في فبراير 2007، اول زيارة رسمية لقائد سوفيتي او روسي
بعد اعادة العلاقات الدبلوماسية اثر انتهاء الحرب الباردة. واستهدفت
زيارة الرئيس الروسي (وقتئذ) هذه، عرض الاستعداد للاستثمار المشترك
والتعاون مع البلدين، الذين يعتبران كما روسيا من كبار استخراج النفط
والغاز. واعرب العاهل السعودي الملك عبد الله من جانبه عن نية تعزيز
العلاقات مع روسيا في اطار التنويع العام، وذلك من اجل التقليل من
الاعتماد على الولايات المتحدة، وخاصة بعد 11 سبتمبر 2001. ويعزز
الاتفاقيات الروسية القطرية، في اطار منتدى البلدان المصدرة للغاز
والاتفاقات الثنائية على غرار ما وقع مع شركة النفط الدولية القطرية
عام 2020، الاستثمار المشترك للموارد الغازية في شبه جزيرة يامال في
منطقة القطب الشمالي.
ويشير رد فعل المجتمع العالمي على تنامي القرصنة في خليج عدن
والمحيط الهندي الى رغبة مختلف البلدان في صيانة امن هذه المنطقة. وبعث
الاتحاد الاوروبي في نوفمبر 2008 اول عمارة سفن في تاريخه الى هذه
المنطقة (عملية "اتلانتا")، من اجل ضمان سلامة نقل المساعدات الغذائية
الى الصومال في اطار برنامج الغذاء العالمي، وكذلك القيام بمرافقة
السفن غير الحربية عبر خليج عدن. ومن المميز ان العديد من البلدان
الاخرى، بما فيها روسيا والصين والهند وايران، نشرت سفنها الحربية هناك
ايضا، من اجل حماية امن الطاقة القومي. وبعثت البحرية الصينية مدمرتين
وسفينة تموين لحماية 1200 سفينية صينية تمخر عبر هذا الطريق الخطر
سنويا. وهذا، كما في حالة الاتحاد الاوروبي، هام جدا، لان البحرية
الصينية نشرت لاول مرة سفنها الحربية خارج حدود شرق آسيا.
وتجري التحولات الجذرية حاليا، بهذه الصورة سواء على الساحة
السياسية الداخلية لبلدان الخليج، او في علاقاتها مع العالم الآخر.
ويغير تماسكها بمثابة مركز جذب اقتصادي في غرب آسيا، شكل العلاقات
الاقليمية، ويكسب السياسة العالمية دينامية جديدة. ومع ذلك ان الانظمة
السياسية في بلدان المنطقة الستة ضعيفة جدا في الوقت الحاضر، لانها قد
تواجه تحديات خطرة خلال الفترة الانتقالية الطويلة. ومن الخطر جدا، اذا
بدأ تغيير آليات توزيع الثروة على الجماهير الواسعة كضمانة لتأييد
الاخيرة للانظمة الحاكمة، بتقويض "الصفقة التقليدية" بين النخبة
والجماهير الشعبية. وبالتالي ستنحط شرعية النخب الحاكمة لدى المواطنين
البسطاء. وباختصار، ان التناقض الرئيسي في المنطقة، يتلخص في انه رغم
تعزز نفوذ دول الخليج العربية في المجتمع الدولي، فانها تواجه المشاكل
السياسية الداخلية الخطرة للفترة الانتقالية الى عصر ما بعد النفط.
وتحتاح المنطقة على وجه السرعة الى اكتساب توازن راسخ بين الحاجة
الانية للقضاء على موجة الاستياء، دون مضاعفة مشاكل النظام، التي تقوض
الحلول الطويلة الامد من جانب، ومن الجانب الآخر، الطلب المتنامي على
الثروات الطبيعية التي تنضب بسرعة. وهناك حاجة ملحة الى اعادة بناء
(اصلاح) سياسي واقتصادي، يتيح التهيوء للانتقال الحتمي الى عصر ما بعد
النفط. وانطلاقا من الاهمية التجارية والاستراتيجية للمنطقة، ستؤثر
القرارات التي يتعين اتخاذها في السنين والعقود القادمة، على مصير
العالم كله. ومع ذلك ان الاستقرار هناك، اذ ان الوضع غير الثابت
والمتداعي، الذي قد تهزه التناقضات الداخلية وضغط الجماهير المستاءة،
مجرد سيتعزز مع الزمن. ومراعاة لتكامل بلدان الخليج العربية العميق جدا
في الاقتصاد العالمي وتنامي دورها بشكل لم يسبق له مثيل في المجتمع
الاقتصادي الدولي، سيتابع العالم كله باهتمام ما يجري هناك من احداث،
والانتقال الى الاقتصاد الجديد، المحفوف بصعوبات كبيرة. |