سياسة العفو والتراحم في المنظور الإسلامي

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

 

شبكة النبأ: يؤكد علماء النفس أن تركيبة النفس الانسانية معقدة ومتداخلة، لدرجة يصعب معها الفصل بين نوازع الخير والشر في دواخل الانسان، إلا اذا كان من ذوي الارادات الحازمة، ويتحلى بإيمان راسخ، لذلك يحث العلماء ورجال الدين وأصحاب الاجتماع من أساتذة وباحثين على أهمية تنمية بذور الخير في نفس الانسان منذ طفولته، لكي يترعرع ويشب في ربوع الفضيلة، حتى اذا ما تسنّم منصبا مهما أو مسؤولية كبيرة، فإنه يقدم الخير على غيره في طبيعة تعامله مع الآخرين، ويجعل من النبل والعفو والرحمة عنوانا لسلوكه ومسكنا لأفكاره وتوجهاته.

العفو عند رسول الله

من فضائل الرحمن جلّ وعلا، أنه جعل في أمة الاسلام اسوة حسنة، يقتدي بها المسلمون جميعا، فكان نبينا الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم، فنارا عاليا يهتدي به الجميع سواءا كانوا من أصحاب السلطة والمناصب والجاه، أو من عامة الناس، فالحياة المشتركة وتداخل العلاقات والمنافع تتطلب حضورا قويا وفاعلا للتراحم بين الناس، وتطبيقا حقيقيا لسياسة العفو الكريم، وهو عفو الانسان المقتدر، عندما يمكنه أن يقتص ممن آذاه وأساء له، وهذا هو منهج الرسول الاكرم، بصفته قائدا أعلى للدولة الاسلامية، فقد أعطى النموذج الأمثل في سياسة العفو والرحمة حتى مع ألد أعداء الاسلام والمسلمين.

في هذا الصدد، يقول سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) في كتابه القيّم الموسوم بـ (السياسة من واقع الاسلام): (ما أعظم عفو رسول الله صلی الله عليه و آله عن الأعداء؟ فقد مثل النبي صلی الله عليه و آله عفو الإسلام خير تمثيل. وأفهم الجميع أن الإسلام جاء يريد الخير للجميع، لأوليائه وأعدائه جميعاً، وليس ديناً يحقد على أحد، وليست بعض ممارساته الصارمة نابعة عن القسوة، أو الحنق، وإنما هي نابعة عن روح تعميم العدالة على الجميع).

فأي عظمة هذه التي تساوي في تطبيق سياسة العفو بين الصديق والعدو؟! وهل هناك أكثر وأعظم نبلا ممن يعامل عدوه وفق القواعد الانسانية الصحيحة التي جاء بها الاسلام، واتفقت عليها الاديان والاخلاق والاعراف السليمة؟.

سمو الرحمة النبوية

إن العفو في منظور الاسلام نوع من السياسة، فهو لا يقتصر بين الافراد، ولا ينحصر بالجماعات الصغيرة، إنه منهج سياسي ينبغي أن يسود دول العالم أجمع، إبتداءا من العلاقات الفردية صعودا الى الاحزاب والجماعات وصولا الى الدول والامم الكبيرة، ويؤكد منهج التراحم والعفو النبوي على ضرورة رفض منطق القوة والثأر، وابتعاد الانسان فردا او حكومات عن خيارات السلم والتفاهم والتعايش والاحترام المتبادل، ويمكن أن يطلع الجميع لاسيما المسلمون أنفسهم، على سمو الرحمة النبوية، من خلال الاطلاع على المواقف العظيمة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى مع أعدائه.

يقول سماحة المرجع الشيرازي في كتابه نفسه مذكرا إيانا بهذا المنهج: لقد (اشتد أذى المشركين للرسول صلی الله عليه و آله، يوم أحد إذ قتل عمه حمزة، ومثّل بجسده الشريف، وقطع كبده وأصابع يديه ورجليه، وجدع أنفه، وصلموا أذنيه وفُعل به ما فعلوا، وقُتل العشرات من المسلمين.. فتقدم بعض الصحابة إلى النبي صلی الله عليه و آله واقترح عليه أن يدعو على المشركين ليعذبهم الله بعذاب من عنده، كما كان يعذّب الكفّار في الأمم السابقة بدعوة أنبيائهم عليهم.. لكنه النبي صلی الله عليه و آله وسياسة العفو العظيمة، فامتنع عن ذلك وقال: -إني لم أبعث لعاناً، ولكنـي بعثت داعياً ورحمة، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون-).

النموذج الأعظم في سياسة العفو

لقد أكدت جميع الاحداث التأريخية الجسيمة التي رافقت نشوء ورسوخ الدولة الاسلامية في عهد قائدها الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أن الانسانية جمعاء فازت بنموذج سياسي وانساني لا مثيل له، يتخذ من منهج العفو وتغليب الرحمة طريقا أوحد لبناء العلاقات السليمة بين الافراد والجماعات وحتى الدول، إنه قائد المسلمين ابان نشوء الدولة الاسلامية النبي الاكرم الذي كان كريما حتى مع ألد أعدائه، لذلك يؤكد سماحة المرجع الشيرازي قائلا بهذا الخصوص: (لقد ضرب النبي صلی الله عليه و آله الرقم الأول في التاريخ كله في الرحمة بما لا مثيل لها في تاريخ أي عظيم وقائد).

وهذا القول يثبته التأريخ الانساني المدوَّن على مر العصور، ولم تكن هذه السياسة مرحلية قط، ولم تُنتهَج لدواعٍ تفرضها ظروف القوة أو الضعف او المصالح المتبادلة، إنها سياسية ومنهج نبوي اسلامي ثابت ولا تراجع عنه قط، بل هو بمثابة المنهج الدائم والقائم أبدا في التعاليم الاسلامية وسياسة المسلمين، كونه مستمد من سياسة قائدهم الأعظم إنسانيا وسياسيا في آن واحد.

الرحمة تشمل كل شيء

لا تنحصر الرحمة في مجال دون سواه، ولا تتعلق بالمواقف الصعبة فقط، كما يحدث في الحروب او المجاعات او غيرها، بل الرحمة النبوية تشمل أدق الامور والافعال والتفاصيل المتعددة لشؤون الناس كافة، فهي رحمة شاملة لا تنحصر بالخطورة او حالات القصاص أو العفو وما شابه، بل تدخل حتى في العبادات وطرق أدائها، فما أعظم هذه السياسة التي تضع همّ الناس في قمة أولوياتها، في هذا المجال يذكر لنا سماحة المرجع الشيرازي بكتابه نفسه قائلا: (كان صلی الله عليه و آله إذا صلّى لوحده أطال في صلاته وأكثر في أذكار الركوع والسجود، وقراءة القرآن، والتسبيح والتحميد، والتهليل والتكبير.. وإذا صلّى جماعة خفف فيها. حتى ورد في الحديث الشريف: - كانت صلاة رسول الله صلی الله عليه و آله أخف صلاة في تمام-)-1- .

إن الحرص الانساني حينما يبلغ هذه الدرجة العالية، فإنه لا ريب يمثل قمة في النبل والعظمة، ويدفع بالجميع مسلمين أو غيرهم الى جادة السلام والاستقرار، من خلال الاهتمام المتبادل بين الناس، سواء كانوا مسؤولين أو سائلين. ويضيف المرجع الشيرازي مؤكدا: أن الروايات ذكرت بأن النبي: (صلی الله عليه و آله كان يقصر من مواعظه خشية السأم على أصحابه، فلا يكثر عليهم المواعظ، وإذا وعظ لم يطل فيها، بل يقلل،

وفي القليل يقصر نعم كان قد يطيل أحياناً ولكن حسب المقام الداعي إلى ذلك).

العفو الذي بلغ منتهاه

هكذا يتضح لنا بأن الاسلام ينظر الى العفو والرحمة والحرص على راحة الناس بمنظار هام، بل وأساسي، يهدف الى المساواة والتقريب بين الجميع ومضاعفة أواصر المحبة والتفاهم والانسجام بين الجميع، فمن خلال الرحمة والعفو يمكن أن تُبنى المجتمعات الناجحة بل العملاقة في كل مجالات الحياة، وهذا يتطلب التزاما بمنهج النبي الاعظم، لبلوغ هذا الهدف الذي بلغته الدولة الاسلامية في تأريخها المشرق عندما أنشأها وبناها نبينا الاكرم وأهله وأصحابه الأكرمين، وكيف لا وهو صلى الله عليه وآله، يستمد عظمته من إرتباطه الوثيق بالخالق، يقول المرجع الشيرازي في كتابه نفسه: (إنها النبوّة. إنها الارتباط الوثيق بالخالق. إنه العفو الذي بلغ منتهاه. وبالتالي: إنّه الإسلام، جامع كل الفضائل والخصال الحميدة في أقصى أقصاها.. وأي رئيس إسلامي يكون على خط رسول الله صلی الله عليه و آله فسوف يكون هكذا. وأمثلة العفو من رسول الله صلی الله عليه و آله كثيرة.. وكثيرة جداً، وإحصاؤها يستدعي مجلّداً خاصّاً).

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 18/تشرين الثاني/2011 - 20/ذو الحجة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م