جميع التشريعات التي صدرت دبجت مقدماتها أو سببت موجبات إصدارها
بعبارة النظام العام وأقرنت إصدار التشريع بالحفاظ على النظام العام
واحترام القواعد التي تنظمه، ومفهوم النظام العام واسع وفضفاض يستوعب
الكثير من المعاني، إلا أن فقه القانون الإداري يكاد يجمع على إن
النظام العام هو الأساس الذي يقوم عليه كيان المجتمع والغاية منه تنظيم
شؤون الناس وتجنيبهم كل ما يحدث خللاً بأمنهم العام وصحتهم وراحتهم
بشكل مباشر وغير مباشر، وبذلك فان النظام العام يتكون من مثلث مصالح
يرتبط بالإنسان ويدور معه عدماً ووجوداً، وعناصره ثلاث الأول عنصر
الأمن للإنسان والثاني الحفاظ على صحته والثالث توفير الهدوء والسكينة
له.
وتكاد هذه العناصر تكون العناوين الرئيسية لحقوق الإنسان التي
أقرتها الشرائع السماوية والوضعية الدولية والوطنية، فإذا تخلف احد هذه
العناصر يكون النظام العام قد اختل ورتب أثار سلبية على المواطن، ويؤشر
على وجود خلل في أداء السلطات العامة تجاه مسؤوليتها في حفظ النظام
العام، ومفهوم الراحة العامة والهدوء الذي يعد العنصر الثالث في مثلث
النظام العام، هو ما يطلق عليه في الفقه القانوني الحق في السكينة
العامة التي يقصد بها المحافظة على الهدوء والسكون في الطرقات والأماكن
العامة حتى لا يتعرض الإنسان لمضايقات فيها من ضوضاء وصياح وزعيق وغيره،
وفلسفة هذا الحق تكمن في وجوب أن يتوفر للإنسان جو من الهدوء وان يعيش
في مجتمع ومحيط يتصف بالسكون والهدوء ويرى بعض العارفين بهذا الحق إن
آثاره ترتبط بالعنصر الثاني وهو الصحة العامة لان بعض الأمراض يكون
سببها الضوضاء، وهو ما أدى إلى إصدار بعض التشريعات التي تدخلت لتحديد
معدل قياسي للضوضاء لا يجوز تجاوزه وأعطى سلطات الضبط الإداري الحق في
محاسبة من يتخطى هذه النسب.
وحق الإنسان في السكينة العامة التفتت إليه الشريعة الإسلامية
حينما ورد ذكر كلمة السكينة في أكثر من موضع من القران الكريم في سورة
الفتح وكذلك التوبة، والإشارة الصريحة إلى الضوضاء التي ينهى عنها
حفاظا على السكينة العامة ما ورد في الاية (19) من سورة لقمان التي جاء
فيها (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ
الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) بينما في سور أخرى أثاب وأحسن الى
الصوت الخفي والى السكون والهدوء حتى في العبادات وعلى وفق الآية (3)
من سورة مريم (ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا، إِذْ
نَادَى رَبَّهُ نِدَاءخَفِيّاً ) والخفاء لا يعني أنك تختفي وأنت تعبد
الله، ولكن يعني الأدب والخوف من الله وأنت تعبده وحذر الله من الصوت
العالي في الصلاة والدعاء، كي لا تذهب أعمالنا ونصبح في عداء مع الله
بسبب هذه الطريقة في الدعاء أو الصلاة، وجاء التحذير من الله في هذا
الموضوع في كثير من الآيات، يقول تعالى في الآية 55 من سورة الأعراف (ادْعُواْ
رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ).
وهذا النهي في الإسلام يؤكد على الحق في السكينة لاتقاء الأعراض
السلبية للضوضاء وفي المنظومة القانونية العراقية نجد ان الضوضاء في
بعض أوصافها تشكل جريمة يعاقب عليها القانون وعلى وفق ما جاء في قانون
العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المعدل في الفقرة (ثالثا) من المادة (495)
التي جاء فيها ما يلي ( يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على شهر او بغرامة لا
تزيد على عشرين دينارا من احدث لغطا او ضوضاء او اصواتا مزعجة للغير
قصدا او اهمالا بأية كيفية كانت) وتوصيف هذا الفعل نجد فيه باب واسع
لحالات ترتكب الآن في الشارع والمناطق السكنية وبالقرب او داخل
المستشفيات أحيانا باستخدام أجهزة التنبيه في السيارات الحكومية او
حمايات المسؤولين ومنبهات السيارات وغيرها مما يضج بها سماء المدن
والقصبات العراقية.
والقانون العراقي أوكل مهمة الحفاظ على الحق في السكينة العامة إلى
رجال السلطة العامة، فهم من يتولى المراقبة والمساءلة والتحقيق واتخاذ
التدابير العامة اللازمة، إلا أن ما يؤسف له إن هؤلاء المكلفين بواجب
الحماية هم من يخرق هذا الحق ويعتدون عليه، لأنك تجد المسؤول وسائق
السيارة في موكبه وفي سيارات الأجهزة الأمنية أول من يستخدم صافرات
الإنذار بصوت عالي وبدون مناسبة وفي وسط الأحياء السكنية المكتظة او
يشغل مكبرات الصوت في سيارته او على الابنية التي يعمل فيه دون ان يراع
حق المجاورين ومستخدمي الأماكن العامة في التمتع بالسكينة والهدوء.
اما المسؤولية الأكبر التي تقع على الدولة فهو التقاعس عن توفير
الكهرباء للمواطن من المصادر الرسمية لان ذلك أدى الى ظهور المولدات
الأهلية في الأزقة والمدن وفي داخل البيوت مما أدى الى اصدار موجات
ضوضاء عالية تجاوزت على كل النسب التي حددتها المنظمات الدولية التي
تهتم بالبيئة او الصحة العامة وفي دراسة حديثة بينت ان الضوضاء العالية
لا يقف إثرها عند صحة الانسان في السمع وإنما تولد اثار نفسية وبدنية
فضلا عن آثارها السلبية على الحيوانات الداجنة والأليفة وانعكاس
الضوضاء عليها بوجود سلوك ونزوع لها نحو التوحش.
ومما تقدم نجد إن هذا الحق لم يحترم أصلا من قبل القائمين على أمور
السلطة في البلاد وان سلوكياتهم تدل على عدم الانضباط وإنما الانفلات
نحو انتهاك كل ما يتوفر لهم من سبيل لانتهاكه، هذه دعوة إلى إعادة
النظر في سلوكنا أثناء استخدام الطريق او استعمال وسائل التقنية
الحديثة في حياتنا اليومية لأننا ان فعلنا ذلك سننتصر على روح الأنانية
والفردية والاتجاه نحو الالتفات إلى مصالح الأمة التي عطلها هذا السلوك
الشائن. |