وجوه من مدينتي... حسين النجار

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: ليست المدن مواقع جغرافية نترسمها على الخرائط ونتابع خطوط طولها وعرضها، وهي ليست ايضا احداث وتواريخ صماء نقرأها في بطون الكتب... ثم هي ليست حكايات على ألسنة الكبار نستمع اليها من شفاههم وهم يروون مسيرتهم ومسيرة ابائهم.

انها بالاضافة الى كل ما تقدم اشخاص ووجوه نابضة بالحياة والحب نقابلها في تلك المدن وهي التي تصنع حاضرها وتحفر مسارا لها في دروب الحياة.. هؤلاء الاشخاص هم نبض المدينة وهم صوتها المتنقل بين الازقة وبين البيوت، وهم الذين يمنحون المدن تلك الحميمية، حميمية اللقاء وحميمية التواصل والتفاعل والاندفاع.

قضاء الحي، واحدة من مدن العراق تحتفظ بالكثير من وجوه ناسها الذين ولدوا فيها وفتحوا اعينهم على ابائهم واجدادهم يقطنون تلك المدينة، يتنفسون هواءها ويشربون من مائها، ويسجلون ايقاع حياتهم عبر تلك الساعات والايام والشهور.. من تلك الوجوه وجه حسين النجار الذي يقترب من الخمسين من عمره بخطى حثيثة.

لم يترك مدينته، تلك المدينة الغافية على ضفاف احد الانهار الصغيرة والتي تتفرع عن احد رافدي العراق الكبيرين..انها مدينة الحي التي يعود وجودها الى عشرات السنين والتي تحتضنها مساحات الخضرة البهيجة..

لم يترك مدينته ويهاجر منها كما فعل الكثيرون.. وحين كان يفعل ذلك فهو مدفوع بهذه الحماسة لتوفير لقمة عيش له ولعائلته.. هو اكبر اخوته واخواته.. وهذه المنزلة العائلية فرضت عليه اكثر من التزام نحو اشقائه وشقيقاته.. يختزن في ذاكرته الكثير من تقاطعات المصائر عن عائلته.

يذكر فترة سجن ابيه في الموصل على اثر المظاهرات التي خرجت لمنع اعتقال احد شيوخ الحي وهو (الشيخ عبد الامير الشيخ موسى قسام).. والذي يحظى بمكانة دينية واجتماعية كبيرة في قلوب ابنائه.. ويذكر على صغر سنه في تلك الفترة زيارته لابيه في سجن الموصل.

لم تكن مواقف ابيه بمعزل عن ارثه العائلي الذي ينوء بحمله.. عمه لابيه هو من بنى مرقد الصحابي سعيد بن جبير في مدينة الحي وهو الحاج ظاهر البهلي.. و اخواله من بيت بهلي هم من تبرعوا بقطعة ارض لبناء مسجد الحي الكبير فوقها بمشاركة بيت مهوّس.

وأحد اخوال امه هو من علق على المشانق في ثورة العشرين وهو كاضم عيسى الموسى الغريباوي.. ورث كل ذلك.. اضافة الى طيبته التي شرب نسغها مع حليب امه.. كيف لا وامه لا تعرف الا بلقب (الحنينة) كما يعبرون بالدارجة العراقية الجميلة والتي تعني (الحنونة).

جده والد امه اول من افتتح كتّابا لتعليم القران الكريم في الاربعينات من القرن المنصرم واصبح من وقتها يحمل لقب (ملا محمد) اضافة الى دكانه وتجارته في التبغ والعطارة. حسين النجار يكنى ب (الحاج) او (ابو علي) رغم ان اكبر ابنائه يحمل اسم منتظر.. وهي كنية رافقته منذ ان شب كما تعارف الناس على الكنى والالقاب.. فمحمد ابو جاسم، وعلي ابو حسين، وحميد ابو ماجد، وفاضل ابو عباس، الى اخر الكنى التي تعارف الناس على اطلاقها بعضهم على البعض الاخر.

وابو علي وجه من وجوه مدينته اينما توجه يحيّيه الجميع او هو يحيّي الاخرين.. لا تفارق المزحة تحيته وينتظر الجميع منه ان يمازحهم.. مزاحه فيه الكثير من خفة الدم التي لا يتحملها من يستمع اليه للمرة الاولى، الا ان الجميع تعود على ذلك المزاح الذي هو جوهر شخصيته المحببة الى الاخرين.

وهو ايضا يمتاز بسرعة البديهة والخاطر.. يحدّث من يقابله دون تكلف او تصنع حتى لو لم يكن بينهما سابق معرفة.. يختم تحيته بكلمة (لوك اللوك) والتي تعني الجيد والجديد من كل شيء.. ونقل لي احدهم انها اصبحت اغنية لاحد المطربين العراقيين.

هو ملح الجلسات وسكّرها.. يتصدر المجالس والجميع ينتظرون ان تبدر منه مزحة او طرفة تطيّب الاجواء وتزرع الفرح بينهم.. بدأ حياته المهنية سائقا على سيارة ابيه، ولم يعرف مهنة غير قيادة السيارات الكبيرة منها والصغيرة.. اظهر اهتماما بعمر مبكر بمهنة النجارة وسرعان ماتعلمها وتحول الى تلك المهنة يمارس فن التصميم والتصنيع.

يقصده الكثيرون من اصحاب الحاجات بحكم علاقاته مع كثير من اصحاب المناصب او اصحاب الاموال.. لايتردد في مساعدة احد طالما ان اصدقاؤه لايردون له طلبا او حاجة لخدمة الاخرين.

له موكب حسيني كبير في مدينة الحي، يقوده عبر الشارع الطويل للسوق الكبير في مدينته، حاملا زنجيله في المقدمة، ضاربا ظهره بحلقاته وضابطا لحركة ايقاع الزناجيل الملامسة لظهور الاخرين... يمنح جهد يديه للمزارات العديدة في مدينته، طلبا للثواب من اهل بيت النبوة او اصحابهم.

تلك الابواب في مزار العكار حفيد الامام الكاظم هو صانعها.. وابواب الصحابي سعيد بن جبير وابواب جامع الحي الكبير.. عاصر الكثير من احداث مدينته ووجوه ناسها في احوالهم ومعاشهم.. يعرف انسابهم، ابناءهم واحفادهم، يعرف مايشتغلون واين يسكنون.. انه تاريخ متحرك لمدينته وناسها.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 12/تشرين الثاني/2011 - 15/ذو الحجة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م