شبكة النبأ: القت قوات الامن التابعة
لنظام القذافي القبض على الصحافي غيث عبد الاحد، وهو
من اصل عراقي، في مدينة الزاوية خلال
الاسابيع الاولى من الانتفاضة الليبية، وظل محتجزا لمدة اسبوعين. وقد
نشرت صحيفة "ذي غارديان" البريطانية التي يعمل مراسلاً لها سرده
لزيارته الى زنزانته السابقة ومواجهته لسجانيه السابقين. ويقول عبد
الاحد في هذا المقال: اتذكر ان ضابط السجن حاتم كان طويل القامة ويضع
نظارات على عينيه وله وجه بدين ترتسم عليه البسمة بما يبدو انها لا
تتناسب مع مهنته. غير انه لم تكن لدي الرغبة في التجاوب مع دماثة الخلق
التي يظهرها. الا ان لقاءه مرة اخرى بدت مثل لقاء صديق قديم. وصدر
السؤال من تلقاء ذاته "كيف الحال؟ كيف وجدتني؟ ما الذي حدث بعد مغادرتك
السجن؟".
كان حاتم في الايام الاولى للثورة الليبية الضابط المسؤول عن
احتجازي لاسبوعين في زنزانة داخل احد سجون القذافي الرهيبة في طرابلس.
وفي المرة الاخيرة التي التقينا فيها كان يفصل بيننا باب حديدي. ولم
اشهد منه الا وجهه ويداه عندما كان يحضر الطعام عبر فتحة ضيقة.
وخارج اسوار السجن كانت الثورة تتعاظم في جبال وطرقات المدينة
الساحلية. اما في الداخل فقد بدا الضباط واثقين من انفسهم. كان حاتم
يتميز غضبا ويصرخ ضد الثوار – او "الجرذان" حسب وصف القذافي – عملاء
الـ"ناتو" والصليبيين المتآمرين ضد بلاده. واتهم الصحافيين بانهم عملاء
واعداء لليبيا.
كان يقول: "ماذا تريدون منا؟" اثناء وقوفه كل ليلة خارج زنزانتي وهو
يتناول فنجان قهوة. وفي لمحة شهامة مفاجئة، كان يمرر كوبا صغيرة عبر
الفتحة لي. لكنه لم يدخل اليها قط "نحن نحب القذافي. وأنتم الصحافيون
السبب في كل ما يحدث. انها مؤامرة للناتو والدول الرجعية العربية".
وبعد مرور اشهر على اطلاق سراحي، وبعد سقوط طرابلس في ايدي الثوار،
ذهبت ابحث عن حاتم. كنت اريد ان اسأله اذا كان لا يزال يؤمن بما كان
يقوله ام انه كان عكس ذلك. وكان غرضي ان اروي عن طريقه قصة جهاز الامن
في النظام في اخر ايامه وما الذي حدث لهم الان.
في ميدان الشهداء كانت الاجواء في طرابلس تتسم بالبهجة وابواق
السيارات تصدح والاطفال يلوحون بالاعلام والنسوة يزغردن فيما كانت
الالعاب النارية تضيء السماء. غير ان العلاقة الصعبة بين القديم
والحديث اخذت تطفو. فكانت هناك مظاهرات صغيرة امام الوزارات والمباني
العامة ضد المسؤولين في النظام العتيق. كنت ادرك كيف يبدو حاتم، لكنني
لم اكن اعرف اكثر من انه عمل في احد سجون قوات الامن العديدة. كيف اذن
تبحث عن المنهزمين في مدينة المنتصرين؟.
توجهت بنا السيارة الى سجن الامن حيث يحتجز الصحافيون، وقد تهدم
الجزء الرئيسي منه بسبب القصف. وصحبني حارس حكومي الى احدى المباني
الصغيرة وقد احتوت على زنزانات صغيرة. لكنها كانت اكبر من زنزانتي
واكثر اضاءة. سرنا الى مبنى اخر. واذكر انني كنت خلال احتجازي معصوب
العينين كلما خرجت من الزنزانة. لكني رسمت صورة للمكان في ذهني. وكنت
اعتقد انني ساتعرف عليه عندما أراه. ولكن حدسي لم يصدق. كنت اتحسس
طريقي معصوب العينين، وهناك ثلاثة رجال في ازياء عسكرية يفتشون
حاجياتنا. كانت تنتشر في الغرفة رائحة مطهر طبي. كنت استطيع ان ارى
رجلا يضع قناعا طبيا ويرتدي قفازات مطاطية. اما الصحافي البرازيلي الذي
القي القبض عليه معي (اندري نيتو الذي اطلق سراحه بعد ايام قلائل) فقد
أخذ بعيدا، وسمعت صوت باب كبير يصرصر.
احسست انني هبطت على الحقيقة. انني في الغرفة ذاتها مرة اخرى. كانت
هناك قطع اثاث بسيطة وقد تكدست فوق سجادة ممزقة رمادية. وكان بامكاني
ان احس بمشاعر الذعر التي عادت لي في هذا المكان قبل اشهر قليلة.
وقد استعدت اقوال ثلاثة ضباط للتحقيق معي لساعات: "قل لنا ما نريد
ان نعرفه والا فان بامكاننا ان نجعلك تتكلم".
قمت بزيارة المزيد من الزنزانات واخذت افكر فيما حدث لمن كانوا فيها.
كان هناك رجل يصرخ في الليل. وكما قال لي ضابط استخبارات: "كنا نطلق
على المبنى لقب السوق. كان هناك متاجر للطعام والملابس لاعضاء الخدمة،
وكان الضباط الذين قضوا اسابيع لا يغادرون المكان بالتبضع هنا. وبعد
ذلك تحول المكان الى سجن لشخصيات مهمة".
وسألته "وماذا عن التعذيب؟. احيانا كانوا يضعون المحتجزين داخل
اقفاص الكلاب لاشاعة الذعر في نفوسهم. ويعتمد الامر على الضابط نفسه.
حيث ان البعض منهم كانوا يتجاوزون ذلك ويسمحون بايذاء السجناء".
اما انا فلم اخضع للضرب او التعذيب، ولكن كان يصل الى سمعي اصوت
اناس يتعرضون للضرب. قال لي الطبيب ان الاجانب كانوا يعاملون معاملة
مختلفة. "فالمكان الذي احتجزت انت فيه كان يعتبر فاخرا بالنسبة لمن
احتجزوا في المكان الخلفي للسجن او مع الكلاب. اما الاجانب فلم يتعرضوا
للضرب لكنهم ضربوا وعذبوا المواطنين. ولم يفعلوا ذلك اثناء وجودي.
لكنني شاهدت ضباطا يسيرون بايديهم عصى من سعف النخيل. ولكن حتى من دون
الضرب فان المكان كان رهيبا مظلما وأقبية وبه نباح الكلاب. انهم كانوا
يرهبون القابعين في الزنزانات المظلمة. وانت تفقد مشاعرك الانسانية
وتفقد كرامتك".
طلبت من صالح، وهو ضابط استخبارات سابق اودع السجن لبعض الوقت لانه
ساعد الثوار في الايام الاولى للانتفاضة، ان يساعدني في العثور بعض
الضباط السابقين الذي عملوا في السجن "السوق". وبعد يومين تمكنا من
العثور على احد الحراس الذي كنت اعرفه. انه عبد الرزاق وقد ابيض شعر
رأسه. اذكر انه كان دوما في حال جيدة، اما الان فقد بدا اكبر سنا. وقد
بدت تحت عينيه حلقات داكنة.
وبعد ان تبادلنا الحديث وقوله انه في تموز (يوليو) لم يعد يحتمل
رؤية ما يجري للسجناء الذين ازداد عددهم بعد الثورة، وحصل على تقرير
طبي وجلس في منزله، سألته اذا كان يعرف الضابط الذي ابحث عنه. فقال انه
يعرفه واتصل به هاتفيا. وخلال عشر دقائق جاء الرجل. انه حاتم.
كان يبتسم وسأل كيف امكنني العثور عليه. كانت لحظة تتسم بالغرابة.
فنحن نلتقي كاصدقاء قدامى.
حدثني عما حدث لمبنى السجن، فقال: "كنت ندرك ان طائرات الناتو ستقصف
المكان فنقلنا معظم السجناء الى مكان اخر. وكنا نسمع صوت الصواريخ ثم
الانفجار. وفي احدى الليالي وقع انفجار ضخم، واهزت الارض تحت اقدامنا
ثم وقع انفجار اخر وتصاعد الدخان والغبار وانفتحت البوابات كلها.
ومثل ضباط الجيش العراقي الذي وجدوا انهم فقدوا كل شيء بعد سقوط
بغداد، قال: "قتل خمسة من اصدقائي الشهر الماضي. كنا حوالي 10 الاف عضو
في ادارة الاستخبارات. لم نقبض رواتبنا منذ شهرين. وخلال شهر او اثنين
خمسة الاف سيبدأون التمرد ضد المجلس الانتقالي اذا واصل اغتيال الضباط
السابقين. عندها فاننا نكون في طريقنا الى حرب أهلية". |