ثورة المعلومات والاغتـراب التربـوي

د. عـلي وطفـة

يواجه الإنسان المعاصر اليوم إيقاعات فائقة التسارع لصدمة معرفية تهز كيان الوجود الإنساني برمته. وتأخذ هذه الصدمة المعرفية طابع الاستمرارية والديمومة تحت تأثير أمواج متدفقة من الاندفاعات المعلوماتية التي تهاجم العقل الإنساني وتقهره.

وفي وصف هذه الثورة المعلوماتية يقول الاقتصادي الكبير كينيث بولدنج:«لقد ولدت في منتصف التاريخ البشري لأن ما حدث مذ ولدت حتى الآن يعادل تقريباً كل ما حدث قبل أن أولد».(1) وعلى هذا المنوال يقول البيولوجي الشهير جوليان هكسلي بأن «إيقاع التطور المعرفي والتكنولوجي أسرع اليوم 100.000 مرة مما كان عليه في العصور السابقة(2).أما توفلر فيذهب في كتابه صدمة المستقبل إلى وصف هذه الثورة قائلاً بأن «90% ممن أنجبت البشرية من العلماء يعيشون الآن في المرحلة الراهنة» (3).

وإذا كان قد وقع في يد ماركس يوماً بأن العمل يطور الإنسان وينميه، فإنه كان قد أيقن أيضاً بأن إبداعات العمل الإنساني قوة يمكنها أن تستلب البشر وتدفع بهم إلى دائرة القهر وزنزانات الاغتراب(4). وعلى أساس هذه الصورة تنتصب اليوم إبداعات الإنسان المعرفية والتكنولوجية في صورة تدفق معلوماتي يبدد إمكانية العقل ويتداعى له الوجدان. ومثل هذه الحالة ليست غريبة بالنسبة لهيغل الذي قضى، منذ أمد بعيد، بأن الاغتراب هو الحالة التي تتحول فيها إبداعات الإنسان إلى أشياء تتحداه وتهدد وجوده مع أنها تجليات حقيقية للجوهر الإنساني أي عقل الإنسان وضميره (5).

فمع تطور الثورات المعلوماتية والتكنولوجية المتدفقة، من ثورة الفاكس، والشيفرات الوراثية، إلى ثورة المنيتيل والحاسوب والإنترنت، وثورة الفضاء والجينات، وأخيراً ثورة المعلومات نفسها في مجال الشبكات والأقراص والصور، يجد إنسان اليوم نفسه في حصار وجودي لا حدود له. ويتمثل هذا الحصار في تداعي مقدرة الإنسان المبدع نفسه عن اللحاق بتدفق إنتاجه المعرفي والعلمي، وعن تنامي إحساسه الكبير بأسطورة ضعفه الشامل أمام هذا الأخطبوط المعرفي الذي لا يعرف له حدود أو قرار (6).

وقد يقول قائل في معرض الاستغراب كيف يمكن للمد المعلوماتي أن يضع الإنسان في دائرة الاغتراب؟ ما للإنسان وثورة المعلومات؟ ألا يستطيع الإنسان أن ينفلت من عقال هذه الثورة ويمضي في حياته بعيداً عن دوائر الاغتراب والاستلاب؟ وفي هذا السياق يجب علينا أن نقول إن الإنسان مكره اليوم على أن يخوض في هذا العالم؛ لأن حاجات الحياة المعاصرة أصبحت اليوم حاجات معرفية وبالتالي فإن هذه الحاجات تتنامى مع تنامي هذه الثورات المعرفية المتقادمة وتعاظمها.

وهذا يعني أيضاً أن التكيف مع هذه الثورة المعلوماتية أصبح اليوم شرطاً ضرورياً للوجود والتعايش. وهذا يعني أيضاً أن من لا يستطيع أن يتكيف تغمره أمواج هذه الثورات ويعيش في ظلمات الاغتراب. لا يمكن لإنسان اليوم أن يعيش من غير ثقافة تكنولوجية متطورة في أدنى صور الحياة اليومية ومتطلباتها، فهو يحتاج إلى استخدام التكنولوجيا المتطورة ولا سيما الحاسوب اليوم في كل حركة من حركاته وفي كل سكنة من سكنات وجوده: في البنك والشارع والسينما والمنازل، وفي داخل السيارات وفي أروقة الأحياء ومفازات الصحراء، ومن لا يتقن هذه التكنولوجيا بما تنطوي عليه من معلوماتية يعيش في هذا العالم غريباً عن معطياته وعن سمات عصره، وهنا تكمن صورة من صور أزمة الاغتراب.

وإذا كان الاغتراب في عرف أريك فروم هو الحالة التي تتحول فيها عطاءات الإنسان إلى أصنام للعبادة وإلى أوثان يسجد لها حيث تشكل الوثنية هنا جوهر كل اغتراب (7)، فإن واحداً من أوجه الاغتراب المعلوماتية يكمن في استغراق الإنسان الشامل وذوبانه المستمر في بوتقة الترعة المعلوماتية، فهناك أجيال من الشباب والعلماء الذين يعيشون بصورة شمولية في أعمال هذه الثورة في حالة استغراق كاملة بعيداً عن كل مظاهر الحياة الإنسانية الطبيعية، ويكمن أحد وجوه الاغتراب المعلوماتي اليوم في عدم قدرة الإنسان على متابعة التغيرات التي تحدث في أي جانب، أو أي ميدان من ميادين المعرفة، ولاسيما هذه التي تتعلق بمجال المعلومات والأنفورماتيك. فهناك دفق ثورة علمية صامتة تتحرك في العمق وتجتاح كل إمكانات التصور وحدوده.

وتتبدى للعيان ظاهرة التسارع والتقادم والزوال بوصفها المفاهيم الأساسية لحالة اغتراب الإنسان في عالم تتزايد فيه سرعة التغير ووتائره، بحيث تصبح كل الأشياء في هذا العالم قديمة متقادمة متسارعة وكل شيء يختفي في رمال متحركة، ومن يتابع ما يحدث في عالم الحاسوب اليوم يرى أنه برهان قطعي على سمات التقادم والزوال في هذا العالم الذي يومض تغيراً ويتوهج تبدلاً. وكأن الأحداث المعرفية تتجاوز حدود وسرعة شريط سينمائي متعجل يسابق ومضه ومض العيون الناظرة. والإنسان في كل يوم يفتح عينيه يجد نفسه في الماضي وهو يلهث من أجل أن يحافظ على وجوده في ظل استمرارية الزمن.إن إنسان اليوم يعيش في زمن واحد متجانس هو الماضي، لأن الأحداث العلمية والمعرفية تتجدد في كل يوم ولحظة وثانية على نحو يؤدي فيه هذا الجديد إلى إزالة ما هو قائم بسرعة غريبة (8). وهذا يعني أن الإنسان يعيش حالة غربة وينهض في زمن غير الزمن الذي وجد فيه وتلك هي خاصة الاغتراب المعرفي والمعلوماتي في عالم اليوم. ويضاف إلى ذلك أن الإنسان لا يستطيع حتى أن يدرك حدود الزمن. بمعنى أنه لا يستطيع أن يعرف جملة العطاءات العلمية المتوافرة في مجال علمي واحد محدود (9).

وهنا يترتب على المرء الباحث أن يقف ليبحث في مسألة العلاقة بين التعليم والمعلوماتية والاغتراب وفي مسألة تغاير النظام الإدراكي تحت تأثير موجة المعلوماتية المتجددة. في إطار أسلوب يغلب عليه طابع الإثارة يعلن الكاتب الكندي ماك لوهان الحرب على نظام التعليم القائم الذي أصبح في رأيه من مخلفات عصر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة. وأطروحات الكاتب لا تخفى على العارفين في مجال أشكال المعرفة الإلكترونية والتلفزيونية والحاسوبية التي تتميز بالغنى فيما يتعلق بفعالية المشاركة على حد تعبيره. إن معرفة العالم وإدراكه بصورة كلية وشمولية كما يُرى في واقع الحال يؤدي إلى صراع بين الأجيال الشابة وبين ذويهم الذين يعيشون في سجن حضارة الكتابة ذات المنظور الخطي التحليلي، ويضاف إلى ذلك كله أن التخصص المنمط الذي تعززه المدرسة والمعرفة الجزئية التي تنشرها هذه المدرسة، التي تبعد من حلقاتها العليا ثلاثة أرباع الشريحة الطلابية، كل ذلك يبرر اليوم وجود نظام التعليم القائم على حد ما يذهب إليه ماك لوهان (10).

 ولكن ألا يجب أن نقبل اليوم بفكرة قوامها أن الأطفال يتعلمون ركاماً من الأشياء بشكل عفوي دون جهد يذكر والمطلوب منهم بكل بساطة أن يفتحوا أجفانهم فقط؟! ومن خلال دمج هذه المعرفة عن طريق التغذية الراجعة، يمكن للأطفال اختبار معارفهم بالتجربة والبحث. ويستطيع الكبار اليوم الاستفادة من طاقة مبدعة رائعة، وذلك عندما يحققون التوافق بين عالم أطفال التكنولوجيا مع عالم رجال تعلموا الكتابة فقط استناداً إلى اختــراع غوتنبرغ المسمى كونية غوتنبرغ (11). ويبين لنا ماك لوهان في أعماله الأصلية أن أزمة المدرسة والشباب تعود إلى عدم تكيف نمط الإدراك التقليدي مع وسائل الإعلام المتاحة.ولكنه يذكر في موضع آخر أن هذه الأزمة أزمة طبيعية بوصفها وليدة نمط جديد من الوعي الشمولي الكوني (12).

وهو وعي سيحتوي على تكنولوجيا الاتصال الجديدة. لقد تعرضت هذه الجوانب النظرية في فكر ماك لوهان لجملة من الاختبارات النقدية، ومع ذلك فإن أطروحات ماك لوهان كان لها الفضل الكبير في إيقاظ أطروحات جديدة وفي تشكيل منطق جديد للتفكير العلمي المبدع. يلاحظ اليوم أن تطور التعليم خلال الخمسين عاماً الماضية يميل إلى مركزية التخصص حيث يتجه كل من الخبراء للعمل في مجال خاص من المجالات العملية المتعددة، أما اليوم وعلى خلاف المرحلة الماضية يبدو الأمر مختلفاً جداً.

 إذ لم تعد مشكلة التخصص تطرح نفسها كأداة وحيدة وجوهرية بالنسبة للعملية المعرفية. إذ يبدو اليوم أن الوسيلة الأفضل لمعرفة عميقة وأصيلة تكون في عملية الرؤية الشمولية لنتائج مختلف العلوم سواء كان ذلك في علم الفيزياء أو في الأنتربولوجيا أو في أي مجال علمي آخر(13). وعندما يحاول المرء اليوم أن يدرس شيئاً ما فإنه معني منذ البداية بتجاوز المجال الخاص بالشيء موضوع الدراسة. فعلى سبيل المثال يمكن القول أن كثيراً من الاكتشافات الجديدة في مجال الفيزياء قد تحققت بفضل نتائج أخرى تعود إلى مجالات أخرى غير علم الفيزياء. يلاحظ اليوم في إطار الشروط الحالية لتطور الإلكترونيات أن البيئة الإنسانية قد بدأت تتحول بشكل تدريجي متزايد إلى طبيعة صناعية وذلك من خلال المعلوماتية. فوجود القنبلة النووية يعود اليوم، على سبيل المثال، إلى التفكير المعلوماتي الخالص، وهي على المستوى المادي لا تزن إلا بضعة غرامات، ولكن قدرة هذه القنبلة وعلاقاتها بالإنسانية تكمن في الدورة الإعلامية والمعلوماتية لقدرة هذه المادة التدميرية. وهنا يمثل الجانب المعلوماتي جوهر القدرة والقوة الحقيقية للعصر الذي نعيش فيه (14).

 لقد أصبح تحويل المعلومات المهمة الأساسية التي تشغل الإنسانية اليوم فيما كان أسلافنا قبل ما يزيد على خمسين عاماً يبذلون جهودهم بصعوبة كبيرة لنقل نتائجهم الصناعية وأدواتهم المادية خارج الحدود. لقد أحدثت الثورة التكنولوجية الجديدة ثورة كوبرنيكية في مجال القيم والمفاهيم والعقائد وأنماط السلوك عند البشر. وإزاء هذا الاندفاع الحضاري المذهل جند العلماء والمفكرون طاقاتهم العلمية والفكرية، منذ ثمانينيات هذا القرن، لدراسة أثر الأخطبوط التكنولوجي ووظيفته، والذي يهدد القيم الإنسانية في جوانبها الخلاقة ولاسيما في مجال العلاقات الإنسانية.

ويتمثل الأخطبوط الإعلامي في منظومة من المخترعات دائمة التطور والتي تتجسد في الحاسوب، والتلكس، والفيديو، والكوابل الأرضية والفضائية، والأقمار الاصطناعية، والهاتف المنتيل والتليتكس، والفيديوتكس، والفاكس. وتكمن السمة العبقرية لهذه التكنولوجيا الاتصالية الجديدة في جوانبها الاتصالية التفاعلية، وهي بذلك بمنزلة ثورة متقدمة بالقياس بالاتصال وحيد الاتجاه الذي يتمثل في وسائل الإعلام التقليدية كالتلفزيون أو الراديو أو الصحافة (15).

وفي الوقت نفسه يلاحظ اليوم أن مستوى هذه المعلومات يتنامى باستمرار وبوتيرة عالية، وأن نسبة المعرفة الضرورية لممارسة النشاطات العادية قد شهد تطوراً مذهلاً وبطريقة مخيفة، وتأسيساً على ذلك بدأ الطلب على التعليم ينطوي على قيمة بالغة الأهمية والخطورة وغدت ميادينه مترامية الأطراف. ويعبر عن هذه الأهمية الكبيرة للتعليم والمعلوماتية اليوم ما يشهده البحث والتعليم العالي من نمو وتطور ذي طابع أسطوري، وهذا التطور يؤخذ على أنه أمر طبيعي في عالم رجال الأعمال والإدارة والتكنولوجيا في العصر الراهن.

 ويلاحظ اليوم أن نفقات التعليم العالي في مجال إدارة الأعمال والجيش تفوق عشرة أضعاف ما ينفق في مجال الحياة الاجتماعية بكاملها. ولا يوجد وراء ذلك أي اعتبارات مثالية أو هدف ثقافي وكل ما هنالك هو الاحتياجات اليومية الضاغطة. الناشئة يستطيعون القيام بالبحوث الأساسية تجدر الإشارة إلى جملة من الصعوبات التي تواجه الحياة الاجتماعية المعاصرة برمتها، وتتبدى إحدى كبريات هذه الصعوبات في أهمية تثوير التعليم الابتدائي وما قبل الجامعي ليواكب القدرة الهائلة للتعليم العالي وليعبر عن احتياجاته، وبعبارة أخرى، يستوجب علينا أن نبرمج الأنظمة التعليمية الأساسية ونوجهها نحو تفجير الطاقات الإبداعية والاكتشاف حيث يجب أن تكون هذه المعرفة تحصيلاً عفوياً في إطار شروط المعلوماتية الجديدة التي تأخذ طابعاً إلكترونياً.

ويجب علينا أن ندرك اليوم أن التعليم يتم خارج جدران الصفوف المدرسية، وأن الطفل يكسب في كل دقيقة عشرة أضعاف ما يمكن له أن يتعلمه داخل المدرسة. فالمعرفة التي يكتسبها الطفل خارج قاعات الصفوف المدرسية تتجاوز إلى حد كبير قيمة المعرفة التي يكتسبها داخل جدران المدرسة، وأن الفارق بين المعرفة خارج إطار المدرسة وداخلها يميل إلى الاتساع بشكل متصاعد. وفي المستقبل لن تستطيع المدرسة أن تقوم بتعليم الأطفال المواد التطبيقية التي يمكن أن يتعلمها الأطفال من خلال الأقراص والشرائط المغناطيسية أو من خلال الفيديو وآلات العرض المتنوعة. وعندما تستطيع العائلات المتوسطة والفقيرة أن تمتلك جهاز فيديو وكمبيوتر وفاكس- وهذا ما سيحدث في القريب العاجل- فإن ثورة متعاظمة ستحدث في مجال التعليم وستكون هذه الثورة أشبه بالثورة التي أحدثها الكتاب المطبوع. ففي الوقت الذي كانت فيه المعرفة مرهونة بمدى الوصول إلى المخطوطات كان اكتسابها يتميز بالصعوبة. ولكن عمليات اكتساب هذه المعرفة تحولت جذرياً، وذلك بعد ظهور الكتاب المطبوع. وهذا ما سيحدث مع انتشار الفيديو والفاكس والإنترنت والكمبيوتر والقنوات الفضائية والشيفرة المعلوماتية، حيث سيكون في قدرة كل فرد من أفراد المجتمع أن يعيش مع الجراحين والفلاسفة والبيولوجيين والفيزيائيين والشعراء الكبار ومع أهم مصادر المعلومات.

وفي مواجهة هذه الصورة الجديدة للحضارة الإنسانية ظهرت مقولات نظرية تطالب المدرسة بتوظيف أدوات الثورة العلمية المتاحة من إنترنت وفاكس وكمبيوتر وفيديو وتلفزيون تعليمي وقنوات مشفرة من أجل مواكبة التحولات العميقة والشاملة التي تهاجم العقل الإنساني المعاصر.

وعلى الرغم من أهمية هذه المقولات ومشروعيتها فإن توظيف هذه الإمكانات محكوم عليه منذ البداية، وذلك لأن إمكانية استخدام التكنولوجيا المعرفية وتوظيفها في المدرسة مرهونة بإعادة بناء النظام التعليمي بشكل كلي وعلى نحو شمولي، ذلك لأن إدخال الإلكترونيات في التعليم أمر غير ممكن في إطار الشروط الحالية التي تتصف بخاصة التجرؤ وعدم قدرة المدرسة على التكيف مع معطيات التكامل المعرفي لتكنولوجيا المعرفة والاتصال.

إن التدفق الهائل في المعلومات ونموها الشامل في إطار المجتمع يمكنه أن يمكن العدد الأكبر من الأطفال من الوصول إلى أعلى مستوى من الثقافة والمعرفة والمعلوماتية. فالبيئة التي تحيط بوجود الإنسان المعاصر تتطلب وصول الأجيال إلى تمثل ذروة المعرفة وتقضي أيضاً -بحكم الضرورة- أن يصل عدد كبير من الأطفال إلى إمكانية إجراء البحوث في مستوياتها العليا وأن يكون لديهم منهج العمل الجماعي المشترك. ولقد أعلن روبرت أوبنهاير منذ سنوات أن هؤلاء الأطفال الذين يلعبون في الشارع قادرون على حل المسائل الفيزيائية الأكثر تعقيداً، وذلك لأنهم يملكون نموذجاً رفيعاً للإدراك فقده الراشدون منذ أمد طويل، وأن هذه القدرة الإدراكية عند الطفل والتي تتيح له القدرة على المشاركة في أعلى مستويات البحث، تبدأ بالظهور فقط دون أن توظف فعلياً. وقد اعترف أدموند بيكون، وهو رئيس لجنة التموين في فلادلفيا علناً بأنه قد طلب مساعدة أطفال المدارس الابتدائية في إيجاد الحلول لمسائل التموين الكبرى التي واجهته، حيث كلف بعض الباحثين بتدريس الأطفال المخططات الموضوعية من أجل المدينة، وطلب إليهم مناقشة هذه المخططات فيما بينهم ومع آبائهم وجيرانهم، ومن أجل ذلك وضعهم في صورة الجوانب الفيزيائية الجغرافية للمدينة. وفي النهاية عاد الأطفال وهم يحملون بعض الحلول المتميزة حول جملة المسائل المطروحة.

لقد بدأ الاعتراف اليوم بأن الأطفال يمتلكون قدرات خفية هائلة، ويجسدون قدرة نامية يجب أن تحظى بالعناية وأن تخضع لمبدأ الاستثمار. وبطريقة أخرى يمكن القول- وذلك على المستوى التربوي- أن نظام التخصص والتصنيف الدقيق ليس له غاية واقعياً إذا كانت الحياة في المجتمع المعاصر تتميز بتطور وغزارة التدفق الثقافي ولاسيما أهمية المعلومات التي يقدمها الراديو والتلفزيون والسينما والحاسوب والإنترنت ونظام الشبكات، والإصرار على أهمية التعليم المدرسي بوضعه الحالي يعد بمنزلة فكرة ساذجة وغريبة تسعى إلى توظيف المدرسة كأداة لحرمان نصف أو ثلاثة أرباع أبناء المجتمع من الثقافة العليا.

القراءة والكتابة لا تكفي تكمن إحدى المهمات الأساسية للتعليم في مجتمع ما في رفع مستوى أعضائه إلى مستوى القدرة على استخدام التكنولوجيا المتوافرة فيه وتوظيفها، وإذا لم يقم النظام التعليمي بأداء مهمته هذه فإن المجتمع يتعرض إلى السقوط والانهيار. إن أحد العوامل الأساسية لوجود التعليم العام تاريخياً يعود ببساطة إلى أن رجال الصناعة الكبار جعلوا من سوق العمل مكاناً يفيض بالناس الذين يعرفون القراءة والكتابة. وهذا ينسحب على ما يتعلق بحاجات الجيش الذي يتطلب أناساً غير أميين قادرين على تقديم الفائدة في مجال الخدمة العسكرية، فالتخلف يشير بصورة أساسية إلى المجتمعات التي يكون فيها الجانب الأكبر من السكان غير متعلم، والذي لا يستطيع أن يمتص الإنتاج الصناعي ولا يمكن أن يخضع لإرادة رجال الصناعة والمال في البلدان المنتجة.

 وفي إطار عالمنا الذي تشكل المعرفة فيه البيئة النموذجية التي تحيط بنا لم يعد التعليم الابتدائي كافياً على وجه الإطلاق، حيث يجب علينا أن نبني معرفة عليا على جميع المستويات وفي كل المجالات. وهذا يتطلب منا أن نعلم وننشر المعرفة الإلكترونية والسمعية- البصرية لكي يستطيع الناس الحياة والعمل. ومن هذا المنطلق فإن الأتمتة ستعمل على قهر التخصص المحدود(16) فالآلة أقدر اليوم على تخزين المعطيات وإجراء العمليات الحسابية بالانطلاق من هذه المعلومات، وكل ذلك سيكون له أثر كبير وعميق على النظام التعليمي. الانفصال النفسي المطلق يحكم اليوم على مجتمع ما بأنه مازال يعيش في القرن التاسع عشر ويفقد روابطه الحيوية مع القرن العشرين، إذا كان نظامه التعليمي لم يتطور مع إيقاعات الزمن، حيث يخضع فيه الطلاب والناشئة إلى تخصص مجزأ. فالشباب الذين يأتون من وسط تسود فيه الإلكترونيات ووسائل التكنولوجيا المعقدة يواجهون في إطار المدرسة بيئة التخصص الجزئي التي تركز على أساس الحصص والساعات والبرامج المدرسية. وبالتالي فإن هذا الشكل من التعليم لا يتوافق أبداً مع معطيات الوسط الإلكتروني الذي يعيشون فيه. إن استحالة تحقيق التوازن بين الحاجات والبنى الحقيقية لوسط تربوي ما، شيء لا يمكن أن يظهر إلا في مراحل التغيرات السريعة.

 ونحن اليوم نعيش في عصر التغيرات العاصفة حيث يشكل التغير نفسه الشكل الوحيد للثبات الذي نعرفه (17). فإننا نقيم علاقاتنا وفقاً لمحاور محدودة في إطار هذا التغير المتسارع. مرحلة ردود التجريبية وليس التراكم يجب على التعليم أن ينتقل من مستوى التراكم إلى مستوى التجربة أي من التحويل البسيط للمعلومات إلى المعرفة التجريبية ذات الطابع الإبداعي وذات الأبعاد الجديدة للتجربة المعيشة. ويجب على البحث أن يتوجه نحو أشكال جديدة من التجربة والكشف عن مبادئ التنظيم الشمولي القابل للتطبيق وليس من أجل الظواهر كغاية في ذاتها. ويطلق على بعض دوائر هذه المعرفة اليوم معرفة الاكتشاف وليس بمعرفة التجميع الميكانيكي ولا علاقة هناك بين هذا التحصيل ومستوى العمر، ولا يوجد ما يمنع الأطفال الصغار من أن يكونوا تجريبيين مندفعين ومتحمسين أو مكتشفين ورواداً في مجال العلم والمعرفة، وتلك هي توجهات المجتمع المعني والعالم الذي يتجاوز واقع الأشكال العتيقة والميكانيكية إلى بنى جديدة من التفاعل الإلكتروني من التراكم البسيط للمعطيات إلى مستوى التجريبية البنيوية(18).

* كلية التربية- جامعة الكويت

almarefh.org

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 2/تشرين الثاني/2011 - 5/ذو الحجة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م