المسلمون بين مقومات التقدم ومتاهات التمنّي

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

شبكة النبأ: حين بنى المسلمون دولتهم العظيمة، كان سعيهم الأول منصبا على تحقيق مقومات التقدم، وقد وعى قادة المسلمين العظام، وأولهم رسولنا الأكرم -صلى الله عليه وآله وسلم-، وعى أولئك القادة أهمية العلماء في تشييد وتحديث مقومات التقدم، من خلال العلم، كونه أول المقومات وأهمها على الإطلاق، لبناء الدولة المثالية في جميع العصور، وطالما كان صانع القرار مؤمنا بالعلماء، وبأهمية العلم وقدرته على دفع الدولة الى امام دائما، فإنه سيبذل قصارى جهده لرعاية العلماء، وتوفير عوامل  وعناصر التقدم العلمي، لمواكبة مستجدات العصر.

رعاية العلماء والكفاءات

لهذا نلاحظ على مر التأريخ، أن الحكومات الناجحة هي تلك التي تحرص على تشييد وادامة مقومات التقدم، وعلى رأسها، رعاية العلماء وحماية العلم، والكفاءات التي تديمه من الضعف او الزلل، وبهذا تبقى الدولة في المدار الصحيح للتقدم العالمي، ويبقى التطور والاستقرار عنوانها، والسبب كما هو واضح، اهتمام صنّاع القرار بالعلم والعلماء والكفاءات بأقصى ما تكون عليه الرعاية، لأنهم مفتاح نقل الدولة الى المعاصرة والحداثة، التي تستمد قدراتها من تراثها الأصيل، وامكاناتها المعاصرة، كالمواهب والموارد الطبيعية والبشرية وما شابه ذلك.

في كتابه القيّم الموسوم بـ (طريق التقدم)، يؤكد الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) على: (إن العلم في مقدمة العوامل التي تسبب تقدم الفرد، وبالتالي: تقدم المجتمع، ومتى ما تواجد العلماء في مجتمع، وألتف ذلك المجتمع حول علمائه واحتفوا بهم، إلاّ وسجل ذلك المجتمع لنفسه تقدماً باهراً وزاهرا).

لهذا ينظر القادة السياسيون الى العلماء، على أنهم الثروة الحقيقية للشعب، فحتى لو كان البلد خال من الثروات الطبيعية او غيرها، وامتلك العلماء، فإن هؤلاء هم ثروته الحقيقية، لذا نجد اليوم من بلدان العالم لا يمتلكون ثروات طبيعية ولكنهم واكبوا العصر، وتقدموا الى أمام بمساعدة علمائهم، لهذا فإن رعاية العلماء والعلم لن تذهب سدى، بل هي عامل مهم من عوامل ارتقاء البلاد، اقتصاديا وثقافيا وسياسيا بطبيعة الحال.

العلم مصباح العقل

إن العقول المتعلمة، تشكل رافدا عظيما لتطوير البلاد، وهو امر مفروغ منه ويدل على أن العلم هو مصباح العقل فعلا، ينير له سبل الاكتشاف والتجديد في عموم مجالات الحياة، لذا يقول الامام علي عليه السلام في كتاب –غرر الحكم ودرر الكلم-: (العلم مصباح العقل وينبوع الفضل).

واذا كان العلم على هذه الدرجة من الرفعة، فحري بقادة المسلمين أن يفهموا قيمته وقيمة العلماء، ويبادروا الى رعايتهم بما يستحقون فعلا، والسبب دائما هو الحرص على نجاح الحكومات في تطوير بلدانها وشعوبها.

أما الحكومات التي تخشى العلماء وتخاف العلم، فهي الحكومات المستبدة التي تريد أن تبقى في عروشها حتى لو كان الشعب يعيش في قعر الحياة، فيهملون العلم والعلماء وهو يعرفون تماما، أن العلماء هم قادة التغيير نحو الافضل بما في ذلك مصالح السياسيين أنفسهم، لهذا اصبح العلماء هم الثروة الحقيقية لأي شعب أو أمة،

لذا يورد لنا الامام الشيرازي مثالا في كتابه هذا عن أهمية العلماء ودورهم في تطوير بلدانهم، فيقول: (لدينا الشعب السويسري، إنهم لا يملكون معادن الثروة تحت الأرض، ولكنهم يملكون علماء فوق أرضهم، يتقنون علم صنع الساعات اليدوية الممتازة وغيرها، فتقدمت بلادهم وتقدم مجتمعهم بعلمائهم، بينما تأخرت البلاد التي تملك معادن الثروة تحت الأرض ولايتبع أهلها علماءهم).

إهمال العالم والعلماء

فعلا ما فائدة بلاد فيها ثروات وليس فيها علماء تستثمر تلك الموارد المعدنية أو غيرها، وقد كان النفط وهو أغلى واهم مورد اقتصادي عالمي نائما في بطون الاراضي الاسلامية والعربية، ولم يتمكن المسلمون من استثماره لقلة العلم ولعدم رعاية العلماء، حتى تكالب المستعمرون على البلدان الاسلامية واستعمروها واستغلوا ثرواتها بل نهبوها، فيما تخلوا هذه البلدان من العلماء، بسبب عدم الاهتمام بهم بل تذهب الحكومات المتخلفة الى محاربتهم واقصائهم ومحاصرة الكفاءات والعمل على تهجيرها خوفا منها، بدلا من استثمار علومها وقدراتها في تطوير المسلمين ومواردهم، وبهذا الاهمال تأخّر السلمون فيما يتقدم الغربيون وغيرهم، كما يقول الامام الشيرازي في الكتاب نفسه: (وهكذا تقدم الغرب بعلمائه في مختلف المجالات على بلاد المسلمين).

الفقر أشد فتكاً

من جانب آخر هناك اسباب او مقومات للتأخر او التخلف، مثلما توجد مقومات للتقدم، وهما متناقضان حتما، فالتأخر يتنامى كنتيجة للجهل وقلة الوعي وضمور الثقافة بين شرائح ومكونات المجتمع، لذلك يؤكد الامام الشيرازي بهذا الخصوص قائلا: (إن الجهل وعدم الوعي، وفقدان العلم والعلماء، وقلة ثقافة الحياة، من أهم أسباب تأخر الفرد والمجتمع، ويؤدي إلى تقهقر الأمم وسقوطها، بل إلى موتها وفنائها).

ولنا أن تساءل ماذا ينتج عن الجهل وقلة الوعي وضعف الثقافة؟ إن النتيجة الحتمية هي الفقر، وهو أشد فتكا من الاسباب التي أدّت الى شيوعه وانتشاره بين الناس، إذ يقول الامام علي عليه السلام كما ورد في كتاب غرر الحكم ودرر الكلم ايضا: (لا فقر أشد من الجهل).

ولهذا فإن من بين نتائج السياسات السيئة للحكومات الفردية، دفع الشعب الى التشبث بحالات التمني، وانتشار حالات الاتكال على الغير، والكسل والخمول، وما الى ذلك من عوامل مدمرة لبنى المجتمع الاسلامي.

يقول الامام الشيرازي في هذا الصدد: (للأسف نجد في يومنا هذا، أن كثيراً من المسلمين تخلوا عن العلم والعلماء، وهم يحبون أن تتحقق الأمور بالأماني. فهل يعقل أن يصبح الإنسان طبيباً بدون دراسته للطب؟! أو يطمح أن يكون عالماً مجتهداً بلا دراسة لمقدمات الاجتهاد؟! أو يرجو أن يصبح بلده وفير الخير، قوي الاقتصاد، وتملؤه المعامل والمصانع، دون أن يقدم لذلك تخطيطاً وعملاً؟!).

عالم الأماني والأساطير

ويضيف الامام قائلا في كتابه هذا: (إن الاعتماد على التمني والاتكال على الأمنيات، ناتج من قلة الوعي، أو فقدانه؛ لأن الإنسان الذي يعقل ويعي الأمور يعرف أن لكل شيء سبباً).

وهكذا تسود بين افراد وجماعات المجتمع، حالات مرضية وسلوكيات بائسة، تعتمد التمنيات كوسيلة لتحقيق الاهداف، وهي سبل أكل عليها الدهر وشرب، وانقرضت مع اندثار المجتمعات التي تعتمد الخرافة والتجهيل، فيما يصبح الاتكال على الغير بديلا للانتاج الفعلي، فيتخلى الجميع عن مسؤولياته، لأن الخطوة الاولى كانت اهمال العلم والعلماء، وكما هو متفق عليه ان الحكومات وصناع القرار هم اول الجهات المسؤولة عن دفع الناس الى التمني والخرافة وسواها من مقومات التخلف.

لذا يقول الامام الشيرازي: (كما أن عالم الأساطير والأحلام لا يتمخّض عن نتيجة، فكذلك الاتكال على الأمنيات والآمال فإنه لا يمكن فيها الحصول على نتيجة واقعية في آخر الأمر).

ليبقى المسلمون في دوامة التجهيل، في حالة ديمومة الاهمال المتعمَّد للكفاءات والعلماء والعلم، وهذه مسؤولية القادة السياسيين قبل غيرهم.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 31/تشرين الأول/2011 - 3/ذو الحجة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م