الميناتور العراقي... أساطير الديمقراطية المرتجلة

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: يتردد كثيرا تعبير (اللعبة السياسية) على السنة المحللين السياسيين في فضائياتنا العربية وفي صحفنا كذلك.. وبقصد باللعبة الممارسة المتكررة لحالة سياسية معينة وهي في بلدان أخرى تسبقنا اشواطا كثيرة اصبحت فيها الممارسة السياسية فعلا ناجزا يطور نفسه عبر تاريخ من التراكم والتجارب والتنظير.

رغم القصور الذي يعتري توصيف تلك الممارسات باللعبة فانها تستقيم حالا وواقعا مع اوضاعنا العربية التي لم تشهد مثل ذلك التراكم في التجارب والتنظير المتزن.. ووقفت عند تخوم النظر من بعيد عبر يونوبيات متخيلة في وعي النخب السياسية والثقافية وهي عند تخوم السراب يحسبه الظمآن ماءا عند الملايين من الافراد العاديين.

عربيا، خيرة من يمثلون النخب الثقافية العربية اختاروا الوقوف الى جانب صدام ضد امريكا، معللين تلك الوقفة بانهم مع الطغيان الداخلي ضد الطغيان الخارجي.. ولعل ابرز من مثل تلك الحالة المفكر من اصل فلسطيني ادور سعيد.

حالة جديدة لازالت طرية بتفاصيلها.. لم يعترض العرب على الطريقة التي قتل بها معمر القذاقي لانها طريقة قتل تتم بين الاخوة عادة (السنّة) لكن هؤلاء العرب أنفسهم اعتبروا ماقام به العراقيون من اعدام بطل التحرير القومي وقائد العراق الضرورة صدام حسين خارج كل المقاييس رغم انه تمت محاكمته بمحكمة علنية امام انظار الملايين من المشاهدين لكن من نفذ حكم المحكمة هم شيعة العراق وبالتالي يصبح موضوع اعدام صدام حسين خارج توصيف الاخوة المذهبية.

عربيا ايضا، جميع شعوب منطقتنا تتوق الى الحرية والى الديمقراطية والى جكم القانون.. وحتى في توقها هذا تستثني العراقيين من ان تكون لهم حريتهم وديمقراطيتهم وحكم القانون في تنظيم فعاليات حياتهم.

عراقيا، دأبنا كثيرا على وسم تلك السنوات الماضيات بعد العام 2003 بميسم الديمقراطية على اعتبار اننا خضنا تجارب انتخابية حرة لاكثر من مرة واننا تخلصنا من استبداد وطغيان الحاكم الأوحد... وإننا عشنا تجارب الاصابع البنفسجية دون اشتراطات او قيود على اصحابها.

عربيا وعراقيا، خضعنا لتلك المعادلة التي تقول: الحلم هو أسطورة شخصية، فيما الأسطورة حلم لا شخصي.

ما هي اسطورتنا العراقية؟

تروي لنا الكتب القديمة قصة مينوس العظيم ملك جزيرة كريت الذي انشغل بحروب خطيرة من اجل حماية طرف التجارة.. واثناء غيابه تعرضت زوجته (بازيفاي) الى الاغواء من قبل ثور هائل ابيض كالثلج ومولود في البحر.. حملت بازيفاي من هذا الثور ولم تعرف ان ثمرة خطيئتها ستكون هذا المخلوق المرعب، هذا الصبي الصغير بجذع بشري وراس ثور وذنب.

وفي الوقت الذي انجبت كائنها المخيف (الميناتور) مالبث ان تحول الى خطر داهم.. وهنا طلب الملك من احد المهندسين وهو (ديدالوس) ان يبني له سجنا هائلا على شكل متاهة مروعة بازقة مغلقة كثيرة لكي يخبيء فيها هذا الشيء الغريب.. وكان اختراعه من التشابك الى درجة ان ديدالوس نفسه لم يجد طريقه الى الخارج الا بعد جهد جهيد.. على ان هذه المتاهة استخدمت مسكنا للميناتور ذلك الكائن المخيف.

في كتابه (البطل بألف وجه) يحدثنا جوزيف كامبل عن شخصية (الوحش لطغياني) والتي هي معروفة جيدا لدى الاساطير والسير والحكايات وحتى لدى احلام الرعب في العالم كله، ومن حيث الجوهر خصائصها دائما هي ذاتها.

الطاغية هو ذلك الكائن الذي ينهب غنى الجميع، والذي يدفع به الطمع الى محو حق الملكية للاخرين، اما الخراب الذي يجري على يديه فهو مطلق.. والى المدى الذي يمتد اليه سلطانه، لا يجري شيء الا حسب ما تقتضي شؤونه الخاصة، او حول روحه الخاصة المعذبة، او حول الناس الذين ينقل اليهم العدوى عن طريق الملامسة و الصداقة او تقديم العون او حول الثقافة بكاملها.

الأنا المنفوخة للطاغية ليست سوى ملاذ من اجله ذاته، اما العالم فلا يعنيه الا بمقدار ما تتحقق مصالحه.. وهو هدف للارهاب من قبل ذاته، ينام وهو مطارد من الخوف، يرفع قبضته كي يرد على اعداء ليس سوى انعكاس لشهوة السلب اللامحدود لديه.. هو عملاق في استقلاليته المغتصبة وهو رسول الشر الكوني، حتى عندما يظن انه يضع نفسه في خدمة اهداف انسانية، والى حيث تمتد يده يرتفع صراخ اذا لم يكن من الشوارع فمن القلوب وهذا اسوأ.

حالتان من الطغيان عاشها العراقيون ولا زالوا منذ العام 1968، طغيان الحالة (البعثية) بجميع سلوكياتها وانماطها الثقافية والسياسية والاجتماعية، وطغيان الحالة (الديمقراطية المرتجلة) بجميع تماهياتها مع الحالة الاولى.

لم يختلف شيء بين الحالتين وحتى صناديق الاقتراع متشابهة في نتائجها مختلفة بالتفاصيل.. فاذا كانت الصناديق الاولى في حملات البيعة للقائد الضرورة تتم عبر الرعب والتخويف فاننا شاهدناها في الحالة الثانية تتم عبر الايديولوجيات الطائفية والعصبية والعشائرية الى ما هنالك من ايديولوجيات حكمت التصويت في بطاقات الاقتراع.

المتاهة التي نعيشها هي نفس المتاهة التي وضع فيها الميناتور، نلف وندور في طرقها المغلقة ولا نستطيع العثور على المخرج كما فعل ديدالوس.

بالامس انت مع حالة معينة تفترض منك تحشيد قواك ومناصريك لاجلها.. فقط لان الآخر ضد نفس الحالة.. اليوم انت ضدها، فقط لان الاخرين معها.

تتبادل الادوار والمواقع في المتاهة، لا تستطيع العثور على المخرج لانك مشغول بمراقبة ما يفعله الاخرون الذين هم بدورهم لا يستطيعون العثور على ذلك المخرج لانهم يراقبوك..

حالتا الطغيان متشابعتان سواءا كانت الواحدة منهما فردية او جماعية، الا ان العبرة بالنتائج التي تلخص ما تقود إليه حالات التماهي بين الحالتين ومحاولة لعب الادوار نفسها في زمنين مختلفين.

واليوم ايضا المقموع يطارد القامع السابق ليجتثه، وغدا لو تبدلت الاحوال، لان دوام الحال من المحال، سيعود مقموع اليوم ليجتث قامعه في لعبة الجميع يبحث فيها عن مخرج ولا يصلون.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 30/تشرين الأول/2011 - 2/ذو الحجة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م