حج الموالين

السيد محمود الموسوي

عن يحيى بن يسار قال: حججنا فمررنا بأبي عبد الله (عليه السلام) فقال: حاج بيت الله وزوار قبر نبيه (صلى الله عليه وآله) و شيعة آل محمد! هنيئا لكم.

إن تهنئة الإمام للحجاج الشيعة الموالين الذين زاروا قبر النبي (ص) بعد أن أدّوا مناسك حجهم، وبعد زيارتهم للإمام الصادق (ع)، لم تكن تهنئة اعتباطية، إن هذه التهنئة تحمل في طياتها عمقاً بعمق الحقيقة، فهي تختزل الخارطة الصحيحة لما ينبغي أن يسير وفقها الحاج لبيت الله الحرام.

التهنئة التي أطلقها الإمام واحدة لمجموعة واحدة من الناس، قد قامت بكل تلك الأعمال، أي أنه لم يهنئ الحجاج بمفردهم، و الزوار بمفردهم، وشيعة آل محمد بمفردهم، بل هنئ شيعة آل محمد الذين أدّوا مناسك حجهم وزاروا قبر نبيهم، ووفدوا إلى إمامهم، لهذا فهي تعطينا خارطة مهمة لمن يستحق تلك التهنئة من الإمام المعصوم من حجاج بيت الله الحرام، فالتهنئة وراءها أسرار وحقائق بالغة الأهمية لن يكون الحج من دونها حجاً مبروراً، ولن يكون شد الرحال نحو بيت الله الحرام تلبية لنداء الله تعالى الذي قال: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ). [الحج : 27]

ومن أجل أن نكتشف خارطة الحج التي تؤهل الإنسان للفوز، واستحقاق التهنئة الربانية، علينا أن نتتبع علاقة الولاية بالحج وعلاقة الحج بالولاية، لنستخلص الصورة الواضحة لحج الموالين، وهم الخواص الذي يسيرون في الاتجاه الصحيح ليشهدوا منافع الدنيا والآخرة في الحج.

فما هي العلاقة بين الحج والولاية؟

للإجابة على هذا التساؤل العظيم الذي يكشف لنا الحقائق والأسرار، سوف نتناول في هذا البحث علاقة الحج والولاية في ثلاث مراحل أساسية، هي:

1/ مرحلة ما قبل الحج.

2/ مرحلة أداء الحج.

3/ مرحلة ما بعد الحج.

المرحلة الأولى: الموالون قبل الحج

إن العلاقة بين الولاية للأئمة المعصومين والحج لبيت الله الحرام تتضح قبل أداء الحاج لمناسكه، بل قبل أن يكون الحج دائراً في خلده، وهذه العلاقة لابد أن يكون عليها كافة شيعة أهل البيت (ع)، بل ينبغي أن يؤمن بها كل من دان بدين الإسلام، لأن الولاية هي الامتداد الحقيقي للإسلام، وهي التطبيق العملي لرسالة النبي محمد (ص)، وتتمظهر تفاعلات الولاية بالنسبة للإنسان فما يتعلق بالحج في عدة نقاط:

1/ الولاية شرط القبول

الحج هو عبادة لها مجموعة شروط لكي تتحقق صحتها، فهناك شرائط فقهية مثل تحقق الاستطاعة ومثل الوضوء بالنسبة للصلاة، ومن دون أن تتحقق الاستطاعة لن يتحقق الوجوب، ومن دون الوضوء لن تكون الصلاة صحيحة، حتى لو أطال في ركوعها وسجودها، وهنالك أيضاً شرائط عقيدية لا يُقبل العمل من دونها، أرأيت إذا قام أحد المشركين بالإمساك عن الطعام طوال النهار، هل نعدّه صائماً؟.. طبعاً كلا، فلابد أن يكون مسلماً ممتثلاً قاصداً القربة إلى الله تعالى، هكذا هو الإيمان بالولاية لأهل بيت العصمة والطهارة، فهذا الإيمان شرط لقبول كافة العبادات، فمن دون الإيمان بولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) وسائر الأئمة الإثني عشر من ولده لن يكون للعبادة قبول، وبالتالي لن يجدي نفعاً كثرة الضراعة والخشوع والتوجه.

روى أبو العرندس الكندي عن رجل من قريش: كنا بفناء الكعبة وأبو عبد الله (عليه السلام) قاعد، فقيل له: ما أكثر الحاج! فقال (عليه السلام): ما أقل الحاج! فمر عمرو بن أبي المقدام، فقال: هذا من الحاج.

من الواضح أن الإمام الصادق (ع) لا يعتبر جميع الطائفين حول بيت الله الحرام حجاجاً، بل أن ذلك كثرة ضجيج، والقلّة هم من الحجيج، لأن الحاج الحقيقي هو الذي حمل مواصفات خاصّة وإيماناً خاصاً كشرط من أهم شروط تسميته بالحاج، وإلا فإنه مجرد طائف كما يطوف أي أحد حول أي شيء دون معنى، وقد أشار الإمام (ع) إلى عمرو بن أبي المقدام كمصداق لمن يطلق عليه مسمّى الحاج، وعمرو هذا راو ثقة له كتاب في روايات أهل البيت (ع)، وذكره النجاشي في رجاله، وقد روى عن الإمام علي بن الحسين (ع)، وصاحب الإمام الباقر والصادق (عليهما السلام)، وروى عنه الأجلاء من الرواة، فعمروا هذا مؤمن بولاية أهل البيت (ع) وقد حقق أهم شرط من شروط قبول الحج.

وإليك هذه الرواية المهمة التي تبيّن أن الولاية هي مفتاح كل العبادات وهي شرطها الأهم، فعن زرارة عن أبي جعفر (ع) قال: (بني الإسلام على خمسة أشياء: على الصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، والولاية.

قال زرارة: فقلت وأي شيء من ذلك أفضل؟

فقال: الولاية أفضل لأنها مفتاحهن، والوالي هو الدليل عليهن..).

2/ دعوة أهل البيت للحج

جانب من علاقة الولاية بالحج هو أن أهل البيت (ع) الذين يمثلون الولاية، والامتداد الحقيقي للرسول (ص)، يدفعون الناس إلى الحج، ويشوقونهم إليه، ويخلقون روح حب الحج في نفوس الناس، لكي لا ينقطعوا عن التواصل مع بيت الله الحرام، فتلك الروح المنبثقة من أهل البيت (ع) كدعوة للحج هي روح مميّزة، دعت إلى الارتباط بالله تعالى من خلال أداء مناسك الحج، فلا يكتفي بحجته الواجبة، بل عليه أن يصل إلى حدّ الإدمان، والروايات الشريفة الواردة عنهم (ع) بلّغها الرواة، وملئت بطون الكتب، فعن أبي عبد الله الصادق (ع) قال: (عليكم بحج هذا البيت فأدمنوه، فإن في إدمانكم الحج دفع مكاره الدنيا عنكم وأهوال يوم القيامة).

وعن عيسى بن أبي منصور، قال: قال لي جعفر بن محمد (ع): (يا عيسى إني أحب أن يراك الله فيما بين الحج إلى الحج وأنت تتهيأ للحج).

إن الموالي يغرس في قلبه حب الحج ومناسكه، فيكون في شوق دائم يدعوه إلى تحقيق الاستطاعة في كل عام، وهكذا هو مفاد الأدعية المأثورة عنهم عليهم السلام في شهر رمضان وغيره، تعزز في الإنسان الرغبة في أن يكتبه الله ضمن الحجاج المبرور حجهم، المشكور سعيهم، المكفّر عنهم سيئاتهم، في كل عام.

3/ أخذ المسائل من أهل البيت (ع)

بعد أن يتكوّن الشوق إلى الحج في قلوب الموالين، ويعزمون على شد الرحال إلى بيت الله الحرام لأداء مناسك الحج، عليهم أن يتعلّموا أحكام الحج ومسائله في الحلال والحرام وفيما يشترط وما يحقق صحة العمل في الكيفية والأداء، ولقد شرّع الله تعالى لبعاده أحكامه في كتابه الكريم، وبيّنه لرسوله (ص)، ودعا المؤمنين إلى التزام ما يدعوهم إليه، لأنه لا ينطق إلا عن الحق جل وعلا، يقول تعالى:

(وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا).[الحشر : 7]

ورسول الله (ص) قد بيّن للمؤمنين مناسكهم وقال لهم (خذوا عني مناسككم) حيث حج حجة الوداع، الحجة الوحيدة التي حجها رسول الله (ص) وبيّن فيها المناسك الأساسية للحج، ثم بعد ذلك جاء دور الأئمة من أهل البيت (ع) ليكملوا المسيرة ويعلّمون الناس معالم دينهم وأحكام عباداتهم، وقد أمر النبي (ص) المسلمين كافة أن يتبعوهم لكي لا يضلوا عن سواء السبيل، حيث قال (ص): (إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبداً، كتاب الله وعترتي أهل بيتي).

ومن هذا الحديث الذي رواه كل المسلمين بمختلف مذاهبهم، ومن غيره ثبت أن على الحاج أن يأخذ أحكامه ومناسكه من أهل البيت (ع) خاصةّ، لكي يحقق بذلك سلامة الأداء ولكي يبتعد عن الدواخل والاجتهادات والأقيسة التي محق بها دين بعض مدعي الإمامة والفقاهة، فإن أهل البيت (ع) هم المصدر الصافي لتعلّم أحكام الحج وسائر العبادات.

وهذا ما كان يفعله الحجاج الموالون الذين استحقوا لقب الحاج، فهذا زرارة الراوي الثقة الجليل، يقول: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلني الله فداك، أسألك في الحج منذ أربعين عاماً فتفتيني! فقال: يا زرارة، بيت يحج قبل آدم (عليه السلام) بألفي عام، تريد أن تفنى مسائله في أربعين عاما؟!

المرحلة الثانية: الموالون في أداء المناسك

بعد تحقيق المقدمات الولائية عند الحاج قبل الحج، يأتي دور الممارسة وأداء المناسك وعلاقتها بالولاية وبأهل البيت (ع)، وهذه المرحلة لا تقل أهمية عن سابقتها، لأنها تحقق المضامين الحقيقية للحج، وفي هذه المرحلة سوف نتعرّف على كيفية تحرّك الولاية لأهل البيت (ع) في أداء المناسك، وما ينبغي أن تكون عليه المعرفة والوعي، فالعلاقة هنا غير منفكّة، فلا يمكن للحاج أن يفرّق بين أدائه للمناسك، وبين إيمانه بأهل البيت (ع)، لأن في الحج تتجلّى مضامين الولاية في إيمان الحاج، ويتحرّك وعيه وقلبه في دائرة الولاية.

1/ الحج معرفة الإمام

لابد أن تدعوا ممارسة الحج إلى التعلّق بالإمامة، وتعزيز العلاقة بين الله تعالى وبين الإمامة باعتبارها الامتداد الحقيقي لرسالة السماء، ولأنهم الأدلاء على الله تعالى، فمن أراد الله تعالى بدأ بهم ودخل من بابهم واتبع نهجهم، فمعرفة الله تعالى هي أشرف المعارف وأسماها، وعندما تتحقق المعرفة بالله تلازمها المعرفة بالرسول الذي بعثه الله تعالى، ومن ثم تقود معرفة الرسول الحقيقية بمعرفة خلفائه الحقيقيين، ومن لا يتعرف على الخلفاء الحقيقيين فإنه يتنكّب عن الطريق ويتعثر في المسير نحو الله تعالى، لذلك جاء في الدعاء عن الإمام الصادق (ع):

(اللهم عرّفني نفسك فإنك إن لم تعرّفني نفسك لم اعرف نبيك، اللهم عرفني رسولك فإنك إن لم تعرفني رسولك لم أعرف حجتك، اللهم عرفني حجتك فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني).

ويتجلّى ذلك التسلسل الإيماني المتصل بالله تعالى في الحج، عندما يؤدي الحاج مناسكه فهو يعي أن معرفته بالإمام هي الطريق إلى الله تعالى، وهكذا فإذا نظر إلى الكعبة المشرفة التي تمثّل التوحيد، فهو يعي تماماً أن التوحيد يدعوه إلى معرفة أهل البيت (ع) ومعرفة حقوقهم وما يتوجب عليه تجاههم، لذلك يقول الإمام الصادق، (عليه السلام): (من نظر إلى الكعبة بمعرفة، فعرف من حقنا وحرمتنا مثل الذي عرف من حقها وحرمتها غفر الله له ذنوبه، وكفاه هم الدنيا والآخرة).

الحاج هو الذي يعرف مقامات أهل البيت سلام الله عليهم، من خلال معرفته أنهم محال مشيئة الله تعالى كما جاء في الزيارة الجامعة، وأن النظر للكعبة إنما يذكّر بتلك الحقائق الولائية التي تعزز التوحيد الذي يدعوا للاعتراف بمكانة أهل البيت ومقاماتهم.

2/ الحج لقاء الإمام

الحج فرصة ثمينة في التقاء أهل أطراف الأرض بعضهم بعضاً، فإن الحجاج يأتون من كل فجّ عميق، يجتمعون للعبادة في وقت محدّد وفي مكان محدّد، حيث يأتون من أصقاع الأرض المختلفة، وهذه الفرصة لم يكن الإسلام كمنهج ليدعها دون تخطيط، ففي رحاب الحج ومناسكه يلتقي الحجاج بقيادتهم الربانية التي هي امتداد لله تعالى، ابتداء بالنبي (ص) ومروراً بالأئمة من أهل البيت (ع)، ليأخذ الناس معالم دينهم، وليتزودوا بزاد العقول والقلوب من إمامهم، ولكي يطلعوا على المواقف المستحدثة فيما يخص واقعهم ومتغيراتهم.

ففي الحج محورية مهمة هي لقاء الإمام المعصوم، لذلك لم يترك المعصومون الحج إلا لسبب قاهر كالحصار أو السجن، وإلا فإنهم عليهم السلام يلتزمون بالحج في كل عام، كما ورد أن الإمام الحسن (ع) حج عشرين حجة ماشياً، وكان الموالون يحجون بحج إمام زمانهم ويحرصون على اقتفاء أثره والاستلهام من نوره.

فإن قلوب المؤمنين تهفوا إلى لقاء إمامهم في رحاب الحج، وهذه دعوة النبي إبراهيم (ع) التي دعاها لذريته، وأهل البيت (ع) هم امتداد تلك الذرية، يقول الله تعالى على لسان إبراهيم:

(رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ). [إبراهيم : 37]

لا شك أن إبراهيم لم يكن يريد من قلوب الناس أن يشفقوا على ذريته كجانب اجتماعي للاستئناس بالعلاقات والصداقات، فكل أعمال الأنبياء ودعواتهم والغايات التي يسعون إلى تحقيقها إنما تصب في المنحى الرسالي الذي يعزز المسيرة الربانية لمهمتهم المقدّسة التي بعثهم الله بها، فالاستئناس يمكن تحصيله بالقرب من الله تعالى، على الأخص أنهم في رحاب بيت الله تعالى، وأنهم مشتغلون بإقامة الصلاة، فالأولياء لا يستوحشون من لقاء الله، فإن قمّة استئناسهم هو الاتصال بالله تعالى والتهجد له بالصلاة والدعاء.

وتعبير (ليقيموا الصلاة) يعزز هذا المسار الرسالي، حيث أن الهدف هو أن تكون الصلاة قائمة في المجتمع، والصلاة هي أهم مظاهر الاتصال بالله، ودعاء النبي إبراهيم (ع) الذي يعبّر عن هذا المنحى: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء). [إبراهيم : 40]

كما أن الذرية التي ذكرها النبي إبراهيم ليست هي إسماعيل وحسب، بل هي امتداد النبوة والرسالة التي تتمثل في الأنبياء والأوصياء، حيث كان دعاءه أيضاً أن تكون الإمامة في ذريته، كما في قوله تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ). [البقرة : 124]

ولذا يقول الإمام الباقر (ع) عن قول الله تعالى (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي)، يقول: (نحن هم، ونحن بقية تلك الذرية). الصافي ج3ص90

وجاء في الاحتجاج عن أمير المؤمنين (ع): (والأفئدة من الناس تهوي إلينا، وذلك دعوة إبراهيم (عليه السلام)، حيث قال: واجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم). الصافي ج3 ص 91

فإننا نعرف من ذلك أن الحج هو فرصة للقاء الإمام، بل هو جانب محوري ينبغي الاعتقاد به، فقد جاء عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (تمام الحج لقاء الإمام).

وجاء عن ذريح المحاربي قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن الله أمرني في كتابه بأمر فأحب أن أعمله، قال: وما ذاك؟ قلت: قول الله عز وجل: "ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم" قال ليقضوا تفثهم: لقاء الإمام، وليوفوا: نذورهم تلك المناسك.

قال: عبد الله بن سنان فأتيت أبا عبد الله (عليه السلام) فقلت: جعلت فداك قول الله عز وجل: "ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم" قال: أخذ الشارب وقص الأظفار وما أشبه ذلك.

قال: قلت: جعلت فداك إن ذريح المحاربي حدثني عنك بأنك قلت له: "ليقضوا تفثهم" لقاء الإمام، وليوفوا نذورهم تلك المناسك، فقال: صدق ذريح وصدقت، إن للقرآن ظاهراً وباطناً ومن يحتمل ما يحتمل ذريح؟ !

حج الإمام المهدي (عج)

كما قلنا أن أهل البيت (ع) يحرصون كل الحرص على الحج في كل عام، ولا يمنعهم إلا السبب القاهر، وفي عصر الغيبة يمضي الإمام المهدي المنتظر (عجل الله فرجه الشريف)، على سيرة أجداده الطاهرين، ويحضر كل مواسم الحج، فرعايته وإن كانت غير ظاهرة للعيان، فهي كالشمس عندما يجللها السحاب، يبقى أثرها وفائدتها وإن احتجبت عن الأنظار، فقد جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام): "يفتقد الناس إماماً يشهد المواسم، يراهم ولا يرونه".

وقال محمد بن عثمان العمري ـ وهو النائب الخاص الثاني عن الإمام المهدي المنتظر في غيبته الصغرى ـ يقول: "والله، إن صاحب هذا الأمر ليحضر الموسم كل سنة، يرى الناس ويعرفهم، ويرونه ولا يعرفونه".

وجاء عن عبد الله بن جعفر الحميري: سألت محمد بن عثمان العمري (رضي الله عنه) فقلت له: رأيت صاحب هذا الأمر؟ فقال: نعم، وآخر عهدي به عند بيت الله الحرام وهو يقول: "اللهم أنجز لي ما وعدتني". قال محمد بن عثمان - رضي الله عنه وأرضاه -: ورأيته صلوات الله عليه متعلقاً بأستار الكعبة في المستجار، وهو يقول: "اللهم انتقم لي من أعدائك".

إضافة إلى وجوده الشريف في مناسك الحج واستشعار هذا الوجود المقدّس الذي يلهم الحجاج الحرص على الاجتهاد في التوجه إلى الله، فإن الحاج يطلب من الله تعالى أن يشرّفه بلقاء الإمام (عجل الله فرجه) وأن يستجيب الله دعاءه ببركة الإمام، كفعل من أفعال التواصل مع الإمام في موسم الحج في ظروف غيبته (عج).

كما أن الحاج على أرض عرفات ينطلق بروحه لزيارة الإمام الحسين (ع) من خلال نص الزيارة الوارد عن أهل البيت في ذلك اليوم، ليعزز هذه الرابطة الولائية بينه وبين الإمام.

والطريق الآخر في التواصل غير المباشر هو لقاء الفقهاء الذين يرتبطون بأهل البيت (ع)، وينتهجون منهجهم، حيث أِشار الإمام صاحب العصر والزمان (عج) إلى الناس أن يرجعوا في الحوادث الواقعة وحاجياتهم المعاصرة إلى الفقهاء في غيبته، في قوله: "وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله".

3/ النيابة عن أهل البيت (ع) في الحج

من ضمن المحاور التي ينبغي أن تذكر في العلاقة بين الولاية والحج، هو إيتاء الأعمال نيابة عن أهل البيت (ع)، سواء كان ذلك حجاً أو عمرة أو طوافاً، وذلك من أفضل الأعمال التي يقوم بها الحاج كوسيلة تواصل بينه وبين أهل البيت (ع) تعبيراً عن تقديره للجهود التي بذلها أهل البيت (ع) من أجل إقامة الدين ومن أجل الناس، وكذا تعبيراً عن الاعتراف بمقاماتهم التي يستحقون بها كل ما هو خير.

جاء عن موسى بن القاسم: قلت لأبي جعفر الثاني (عليه السلام): قد أردت أن أطوف عنك وعن أبيك، فقيل لي: إن الأوصياء لا يطاف عنهم. فقال لي: بل طف ما أمكنك، فإن ذلك جائز.

ثم قلت له بعد ذلك بثلاث سنين: إني كنت استأذنتك في الطواف عنك وعن أبيك فأذنت لي في ذلك، فطفت عنكما ما شاء الله، ثم وقع في قلبي شيء فعملت به. قال: وما هو؟ قلت: طفت يوما عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال ثلاث مرات: صلى الله على رسول الله. ثم اليوم الثاني عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، ثم طفت اليوم الثالث عن الحسن (عليه السلام)، والرابع عن الحسين (عليه السلام)، والخامس عن علي بن الحسين (عليه السلام)، والسادس عن أبي جعفر محمد بن علي (عليهما السلام)، واليوم السابع عن جعفر بن محمد (عليهما السلام)، واليوم الثامن عن أبيك موسى (عليه السلام)، واليوم التاسع عن أبيك علي (عليه السلام)، واليوم العاشر عنك يا سيدي، وهؤلاء الذين أدين الله بولايتهم. فقال: إذا والله تدين الله بالدين الذي لا يقبل من العباد غيره. قلت: وربما طفت عن أمك فاطمة (عليها السلام) وربما لم أطف، فقال: استكثر من هذا، فإنه أفضل ما أنت عامله إن شاء الله.

وحج النيابة إضافة إلى أن الله تعالى يوصل الثواب إلى المنوب عنه، فإن النائب يكون له مثل ذلك ولا ينقص منه شيء، وإن كانت النيابة عن أهل البيت (ع) فإن النائب قد تشرّف ووفّق إلى أداء أفضل الأعمال، وهذا يعدّ باباً من أبواب الثواب والرحمة الإلهية للحجاج.

المرحلة الثالثة: عمل الموالين بعد الحج

لا ينتهي عمل الحاج بانتهاء مناسك الحج التي وجبت عليه بالإحرام، بل أن للحج امتداداً، ولما قام به من امتثال لأمر الله تعالى آثار وتموجات تتبع الحج، وتكون الخطوات التي تليه فيما يخص الولاية والإيمان بها، فإذا فرغ الحاج من مناسكه فعليه أن ينصب إلى الولاية كتثبيت لنهج الحياة الجديدة.

فإن الحركة الولائية التي ابتدأت قبل الحج وتفاعلت في أداء مناسكه، فهي مستمرة بعده، وهي بمثابة الخاتم الذي يتم به الحج، وزيارة قبور النبي (ص) وأهل بيته (ع) هي التعبير عن ذلك الاستمرار وعن التصديق بالولاية لهم، فقد جاء عن النبي (صلى الله عليه وآله): "من حج ولم يزرني فقد جفاني".

وقال الإمام علي (عليه السلام) في هذا المعنى بما يشمل زيارة قبول أهل البيت (ع): "أتموا برسول الله (صلى الله عليه وآله) حجكم إذا خرجتم إلى بيت الله؛ فإن تركه جفاء، وبذلك أمرتم، وأتموا بالقبور التي ألزمكم الله عز وجل حقها وزيارتها، واطلبوا الرزق عندها".

وزيارة أهل البيت (ع) التي تتمثل بزيارة رسول الله (ص) وزيارة أئمة البقيع بعد الحج كقبور أقرب لمكة المكرمة، تشمل سائر القبور للأئمة (ع)، ولو بعد حين، وهذا التواصل عبر الزيارة إنما هو الرجوع إلى محل البداية، لكي يظهر الحاج ثباته على الولاية ويظهر أثر الحج على إيمانه بما يتصل بالأدلاء على الله تعالى، فيكون سلماً لمن سالمهم، وعدواً لمن عاداهم، نهجاً وموقفاً، فعن الباقر (عليه السلام) قال وهو مستقبلاً البيت: "إنما أمر الناس أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها ثم يأتونا فيعلمونا ولايتهم لنا، وهو قول الله تعالى: "وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى"، ثم أومأ بيده إلى صدره إلى ولايتنا.

وقال الإمام الباقر (عليه السلام) - في قوله تعالى: (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم)، ينبغي للناس أن يحجوا هذا البيت ويعظموه لتعظيم الله إياه، وأن يلقونا حيث كنا، نحن الأدلاء على الله".

ومن هنا يمكن أن نعرف سر ما ورد في الروايات عن زيارة الإمام الحسين (ع) في يوم عرفه، من أن الله تعالى ينظر إلى الزوار فيغفر لهم ذنوبهم، ثم ينظر إلى الحجاج في وادي عرفات فيفعل بهم ذلك، فهو ليس نقيض الحج ولا استهانة بمنزلة الحجاج، فذلك لأن زوّار الإمام الحسين (ع) هم خاصة الحجاج، وهم الذين امتثلوا لله تعالى في البدء بأهل البيت (ع)، والختام بهم، وذلك مسك الختام.

فهنيئاً لمن بدأ حجه بالإيمان بالولاية، ومزج مناسكه بمعرفة الإمامة، وختم حجه بالتصديق بها، فعن يحيى بن يسار قال: حججنا فمررنا بأبي عبد الله (عليه السلام) فقال: "حاج بيت الله وزوار قبر نبيه (صلى الله عليه وآله) وشيعة آل محمد ! هنيئا لكم."

www.mosawy.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 25/تشرين الأول/2011 - 27/ذو القعدة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م