كتابات بذيئة!

عبد الكريم العامري

 

شبكة النبأ: هدر الطاقات والمشاركة في صناعة المصير، وما يحملانهما من خطر الضياع، يضعان الإنسان في مأزق غير قابل للاحتمال، إذ ليس من السهل أن تعطل طاقة الإنسان المتفجرة خاصة الشبابية الطامحة الى العيش بكثافة، ولا أن تحبط طموحاتهم وآمالهم في بناء كيان، هذه وضعية تناقض صارخة فالإنسان غرائزه البيولوجية بما لها من مرونة نقلته من السجل البيولوجي، وأدخلته في السجل الاجتماعي، بعد أن أصبحت مقننة اجتماعيا في كيفيات إشباعه.

الحركة الأولى التي يحاول الإنسان المستعبد من خلالها تجنب ما تفرضه عليه طبيعة الحياة من بلاء اعتباطي، ويفرضه عليه المتسلط، تأخذ اتجاه الانكفاء على الذات هي أوالية دفاعية تسير في اتجاه التقوقع والانسحاب بدل مجابهة التحديات الراهنة والمستقبلية. تشيع هذه كثيرا في ردود فعل الإنسان تجاه مختلف حالات الفشل والضغوط، الذي يصحبه إحساس داخلي بالعجز وقلة الحيلة، أحيانا تضطره الى التعبير عن ذلك، من خلال الكتابة والرسم والرياضة وفي حالاتها السلبية الى الانحرافات المتعددة.

هنالك موضوعان رئيسيان تدور حولهما الكتابة على الأبواب الداخلية للمرافقات الصحية العامة في المدارس والدوائر والكراجات، كذلك في سيارات النقل العام على(الكشنات)، في الأماكن المملوءة بالنفايات، في زوايا الهدم والأنقاض، وتلك التي يتبول فيها المارة.

الجنس والسياسة، هو موضوع هذه الكتابات. تنتقل الحالة الى رسم وتجسيم العورات، أرقام الهواتف، عناوين التواجد الوقوف والمرور بالنسبة لـ(الصياعة)، أحيانا عبارات خادشة جدا للحياء أو بيت شعر دارمي سخيف.

بعض خطوط الكتابة جيدة، الرسوم تدل على موهبة فنية، لكن، النسبة الغالبة العظمى رديئة الخط، موضوعها واحد تقريبا هو الجنس والسياسة. اشهر عبارات الحب والسب، (فلان يحب فلانة ومارس معها الجنس) و(السياسي فلان حرامي و..)، بينما قسم من هذه الكتابات تطرح مقترحات في مجالات حياتية كثيرة تعجب لها.

يطلق على هذه الكتابات بالايطالية كرافيتي grafftti معناها الخربشة. في العراق تقترب اللفظة كما أعتقد من (كرفه) ذلك المصطلح الذي يتداوله الناس بينهم لوصف الآخر في المجتمع، خاصة السيء في ملاقاته وصحبته أو البيع والشراء منه، ويحتمل بعض أنواع الأقلام أخذ اسمه منها، بمعنى (طوخ).

من جمالية التعريف، تبدو لي الخربشات عبارات مهذبة مزدانة بذكريات معززة بتاريخ، مثل خسارة فريق ما أو فوزه، الخروج من السجن الى الحياة، السفرات المدرسية حين يكتب الطلاب على الأشجار عبارات رائعة ولطيفة معبرة بإيجاز تضج بالمودة والحنين الى أيام الدراسة أو الطفولة، أوقات الامتحانات ونهاية السنة الدراسية. انها رسائل تقول للزمن أنت الشاهد الوحيد على دوام العز أو المذلة؟. يعود البعض بعد أعوام وأعوام يجدونها على وضعها خاصة في الأماكن الأثرية، حدائق الزوراء، وقد أصبح البعض منهم في معترك الحياة شيئا مذكورا. في بلد مثل العراق لا تكفي المراحيض لتدوين عبارات المواطنين بل حتى على (صبات الكونكريت) والمقابر والجوامع، انها تحمل التهكم والازدراء من الوضع الشخصي والعام.

أدب رخيص ورسوم أرخص تدل على نفس متعبة، الغرابة، حملها الحب والرياضة والسياسة. أحمالا لا تطيق حملها، فنفثت دخانها،عبارات ورسوما يحار المحلل المعقب في تحليلها.

هنالك أسبابا نفسية تدل على كبت، كذلك الخوف من الرقيب السياسي، أو الرغبة في الخلود، أو التنفيس ضد الضغوط المتعددة الداخلية والخارجية أو تفريغ شحنات الألم والتوتر. يكون الفرد غير ناضج من الناحية الجنسية أو في فترات المراهقة والعزوبية والافتراق الأسري لكن البعض غير ذلك، من اكتمال النضج العاطفي والتحصيل العلمي في كليات ومعاهد ومدارس الثانوية.

مهما كانت الأسباب، السؤال: لماذا البذاءة والقبح في التعبير و(الكاتب) ابن بلد فيه الكثير من القيم، الأعراف، التقاليد التي تنهى عن الكثير من المنكرات وغير المستحبات من الأفعال الخارجة مع الصوت والنظرة والعبارة، هل من سبيل الى تحسين هذه لخربشات يا كتاب المراحيض؟

ليست دعوة للكتابة، بل للتفسير، الملاحظ، لا توجد صورة لوردة، أو حكمة جميلة أو مثل شعبي جيد، نثر أدبي رائع. فقط كتابات الغدر موضوعها والزمن أداتها، مادتها المواطن الذي يستخدم الحروف كأنها صراخ أصوات عالية ضد المجتمع وأفراده. لأن كتابها من صنع المجتمع بهذا الكائن الجميل قبل أن يكون قبيحا وتصرفه مستهجنا ونكتب عنه. إذن، تكون ردة فعله احتقار بيئته لفظا واختيار المكان دالة على احتقار أعمق، ولا يوجد مجال للصلح. الكتابة سهلة، لا تتطلب شجاعة أو نفوذا، والقراء بدون إراداتهم يشتركون!

السؤال الآخر: هل هو فن أو أدب أو منبر حر ومستور؟

انها مسجات، لها ردود، ذات معنى عميق لا يمكن أن تقال من قليل الفهم والمعرفة. تشكل أحيانا هواية عادية لكنها في بعض الأحايين مرضا لدى الشخصية، حين يكتب عن عورته، الصعوبة في معرفة من هو؟ لأن العملية سرية.

لو كان هنالك أماكن معلنة، ماذا سيكتب هؤلاء، من حب وسب، من يقوم بتدوين هذه الخربشات؟ لو حاول أحدهم جمعها في دفتر، دالة على وقت وتاريخ ومكان ومصير، ويرحلها الى زمان غير هذا ليرى كتاب المراحيض معاناة أسلافهم؟

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 24/تشرين الأول/2011 - 26/ذو القعدة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م