مسلمو فرنسا ومسلمات الصراع مع اليمين المتطرف

باسم حسين الزيدي

 

شبكة النبأ: لقد اختارت الحكومة الفرنسية مؤخراً الدخول في مواجهة مباشرة مع المسلمين، بعد أن سنت مجموعة من القوانين التي من شأنها أن تقيد الكثير من الحريات الدينية في ممارسة الشعائر والطقوس الخاصة بهم، ويبدوا إن هذه المواجهة لن تمر من دون عواقب قد تحول المثال الأوربي في التسامح وقبول الأخر إلى مجرد وهم وذكرى من الماضي، وقد بدأت بوادر العصيان المدني في الظهور إلى العلن من خلال رفض إحدى المحجبات تنفيذ قرار منع ارتداء النقاب في الأماكن العامة، وتحول الأمر إلى المحاكم والى قضية للرأي العام، وبينما تكافح فرنسا واغلب دول أوربا في حماية مشروعها العلماني من المد الديني "وبالأخص الإسلام" عبر مختلف الوسائل المتاحة، يلاحظ إن الإسلام والمسلمين يزداد أنشاراً وتماسكاً. 

بحث اكاديمي

حيث كشف تقرير أكاديمي فرنسي حقائق جديدة عن الجالية المسلمة في فرنسا تتجلى في ارتباطها بقيم الإسلام أكثر بكثير من قيم الجمهورية الفرنسية، وتعتبر جريدة لوموند الفرنسية التقرير بالمزعج جدا للسلطات لاسيما في شقه المتعلق بمفهوم الاندماج، حيث يتطل الأمر إجراءات تحد من التهميش، والتقرير من إنجاز الباحث السياسي الفرنسي المعروف جيل كيبل وخمسة من مساعديه، وهو الباحث الذي كان قد برز منذ 25 سنة بكتاب حول 'ميلاد الإسلام في فرنسا' 'أو إسلام ضواحي فرنسا' الذي ألقى الضوء على مشاكل الجالية الإسلامية في هذا البلد الأوروبي، ومضمون البحث الذي تصدر الصفحة الأولى لجريدة لوموند، يركز على أوضاع الجالية المسلمة وجلها مغاربية في كل من مدينتي كليشي سوس بوا ومونت فيرمي، وهما مدينتان في ضواحي العاصمة باريس لا تتعدى ساكنتهما 60 ألف نسمة، واشتهرتا عالميا بعدما كانت مصدر الاحتجاجات القوية للمهاجرين في سبتمبر وأكتوبر من سنتي 2005، التقرير يؤكد على وضع الإسلام كعنصر هيكلي في حياة الجالية أو الفرنسيين المسلمين في حياتهم اليومية ومعاملاتهم أكثر بكثير من 'روح وقيم الجمهورية الفرنسية'، ويعالج نتائج التهميش الذي من أسبابه وجود نوع من الاستقرار في كل ما هو إسلامي، إذ أن من مظاهر ذلك في المدينتين الصغيرتين هو ارتفاع نسبة المساجد والإقبال على الصلاة ولو خارج مواعيد الصلوات الخمس وانتشار مكثف لتجارة الحل وما يرتبط بها وسيادة مفهوم الحل والحرام أو الممنوع دينيا في المعاملات اليومية والاجتماعية، وهذه الأمثلة تعزز من الهوية في مواجهة التهميش.

وتقدم الدراسة نموذجا يعتمد المقارنة حول التلاميذ، فالجيل الأول من المهاجرين في فرنسا كانوا ينصحون أبنائهم بتفادي أكل لحم الخنزير في المطاعم المدرسية، وهؤلاء الأبناء الذين أصبحوا آباء ينهون أبنائهم عن الأكل في هذه المطاعم بشكل نهائي، ويرى الباحث جيل كيبل أن 'الأكل في المطعم الدراسي يعتبر من عوامل التعايش مستقبلا في إطار الجمهورية'، وعانى المهاجرون في المدينتين في التسعينات من آفة المخدرات القوية مثل الهروين، وفشلت الشرطة في القضاء على هذه الظاهرة، لكن جماعات إسلامية مثل 'جماعة الدعوة والتبليغ' نجحت فيما فشلت فيه الشرطة والمصالح الاجتماعية، أي إقناع الشباب بالابتعاد التدريجي عن المخدرات وتعويض ذلك بالعبادة وتهذيب النفس، ويبرز التقرير أن هذا من أسباب ما يصفه 'بأسلمة المدينتين ثقافيا'، حيث تغلبت المبادئ هذه على الفراغ الذي أحدثته قيم الجمهورية، ومن ضمن الأمثلة على ذلك هو أن العلمانية التي تميز فرنسا لم يعد لها حضور في الحياة اليومية في المدينتين وتقتصر فقط على ما يتم فرضه بالقانون مثل 'منع الرموز الدينية في المدارس'، وهو ما يتم احترامه ولكن على مضض.ويقدم التقرير وصفا مأساويا للوضع الاجتماعي في المدينتين حيث الإهمال الدراسي وقلة وسائل النقل وغياب التوجيه، الأمر الذي يجعل الفرنسيين المسلمين أو المهاجرين لا يستفيدون من الدينامية الاقتصادية التي تتميز بها باريس والمناطق المحيطة به، والتقرير يخلص الى مجهودات تبذلها الدولة في تغيير شكل المدينتين خاصة من الجانب العمراني، لكن ما يتطلبه الوضع هو سياسة حقيقية تنهي شعور التهميش السائد في لمدينتين والإدماج الحقيقي للشباب خاصة في سوق العمل.

نساء يتحدين حظر النقاب

من جهة اخرى صارت هند أحمس المواطنة الفرنسية البالغة من العمر 32 عاما "وهي أم منفصلة عن زوجها" وصديقتها نجاة علي أول امراتين تعاقبان بالغرامة بسبب ارتدائهما النقاب في مكان عام في فرنس، واللافت في الأمر أن هند رحبت بتوقيع العقوبة بشدة كونها ناشطة مدافعة عن حق النساء في ارتداء النقاب، وستتاح لهند الفرصة للدفاع عن أفكارها في منبر عام، حيث ستستأنف غدا الحكم الصادر بحقها أمام محكمة التمييز، وستستمر هذه القضية اشهرا وربما سنوات لاستنفاد كافة الاجراءات القانونية في فرنسا، لكنها قد تصل في نهاية المطاف إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الانسان، ومن شان الحكم بتغريم هند ونجاة أن تكون له تبعات "ليس على الحكومة الفرنسية فحسب" بل على دول أوروبية أخرى كذلك، وهناك العديد من الدول الأوروبية التي طبقت أو تخطط لتطبيق قوانين مماثلة من بينها بلجيكا، ايطاليا، النمسا، هولندا وسويسر، ولم تكن هند مسلمة متشددة من قبل، حيث ارتدت النقاب لأول مرة قبل ست سنوات، وقالت إنها كانت ترتدي تنورات قصيرة وترتاد الحفلات قبل أن "تعيد اكتشاف دينها"، وتقول هند إن أحدا لم يرغمها على ارتداء النقاب، حيث أن والديها مسلمون معتدلون، وتضيف "أنا حترم كل القوانين الفرنسية ولكن ليس هذا القانون"، وتتابع قائلة "لقد تحولت حياتي إلى جحيم منذ ابريل الماضي، لقد تعرضت إلى سوء معاملة جسدي ولفظي، لم أعد استطيع الحصول على الخدمات العامة، صار علي أن أجاهد كل يوم للحصول على حقوقي الاساسية". بحسب بي بي سي.

ولقد منعت هند من الدخول إلى المصارف والمحال التجارية والمكاتب الحكومية ورفض سائقو الحافلات العمومية أن تركب معهم ولم تستطع الحصول على عمل، وعندما تغادر هند المنزل تحمل معها جهاز للإنذار ورشاش بنكهة الفلفل لاستخدامهما في حال تعرضها إلى الخطر، وتروي هند تعرضها للاعتداء من قبل زوجين عندما كانت تسير برفقة ابنتها، وذلك بعد أسبوع من تطبيق قانون حظر النقاب، وتقول هند "بدات المرأة في إهانتي وإهانة عقيدتي وهو ما لا يمكنني قبوله، لقد رددت عليها وقام زوجها اثر ذلك بتسديد لكمة إلى وجهي"، وتضيف "حدث كل ذلك بينما كانت ابنتي تقف إلى جواري"، وتواجه فرنسا العلمانية علاقة معقدة مع الأديان، فقد كان هناك حوار طويل المدى خلال السنوات الماضية بشان كيفية استيعاب الإسلام من دون الإخلال بالتقاليد الراسخة المتعلقة بالفصل بين الدولة والكنيسة، وقد حظي مشروع قانون حظر النقاب الذي أجيز في ابريل/ نيسان الماضي بمساندة قوية من العديد من الأحزاب السياسية وفي استطلاعات الرأي في مختلف أنحاء البلاد، كما حظيت قوانين مشابهة بنفس القدر من التاييد في دول غربية اخرى، واحتج المؤيدون للقانون بان جزءا اساسيا من الاندماج في المجتمع الغربي هو أن تظهر وجهك، واللافت أن اقل من 100 امراة فقط تم ايقافهن من قبل الشرطة الفرنسية بسبب ارتداء النقاب، ولم توقع على اي امراة بعد الغرامة القصوى البالغة 150 يورو، وهناك اقل من عشر حالات الآن قيد النظر في المحاكم.فهل يعود ذلك إلى أن النظام العدلي لا يعلق أهمية كبرى على هذا القانون كما يفعل المجتمع؟، ويقول نيكولاس كومت من اتحاد (اس جي بي) للشرطة "لدى الشرطة أشياء أفضل لتفعلها بدلا من مطاردة النساء اللائي يرتدين النقاب، مضيفا "وغني الذكر الضرر الذي يمكن أن يحدثه هذا الامر على علاقة الشرطة بجاليات معينة"، ويتابع قائلا "أعتقد أن زملائي قادرون، بذكاء، على تقييم تحديات تطبيق القانون من دون إثارة المزيد من المشكلات"،غير أنه يستدرك "لكن النساء اللائي اوقفناهن استجبن للقانون، في الغالب، وخلعن النقاب، هناك فقط أقلية نادرة اضطررنا للإبلاغ عنهن".

فرنسا تحظر الصلاة

في سياق متصل دخل قرار فرنسي بحظر الصلاة في الشوارع حيز التنفيذ مؤخراً مما دفع الاف المصلين في شمال باريس الى التوجه الى موقع مؤقت في ثكنة غير مستغلة لفرق الاطفاء وهو ما أثار غضب الجالية المسلمة التي كثيرا ما تعبر عن رأيها بقوة، وأبرز حظر الصلاة في الشوارع مشكلات فرنسا في استيعاب الجالية المسلمة القوية التي يبلغ عددها خمسة ملايين شخص والتي تعاني من قلة عدد المساحات المخصصة للصلاة كما يعقب الحظر جدلا طويلا ساهمت في تأجيجه الزعيمة اليمينية المتشددة مارين لو بان بشأن المسلمين الذين يضطرون للصلاة في الشوارع بالمدن الكبرى، ووجه وزير الداخلية كلود جيون المسلمين في باريس لاماكن خصصت للصلاة لحين بناء مساحة ضخمة لنفس الغرض وحذر من ان الشرطة ستستخدم القوة عند الضرورة لفرض الحظر، وقبل سبعة أشهر من الانتخابات الرئاسية صدم القرار البعض في فرنسا حيث يرونه محاولة لحشد المؤيدين لليمين الى معسكر يمين الوسط الذي ينتمي له الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، وفي الثكنة المؤقتة أم الشيخ محمد صلاح حمزة المصلين الذين جاءوا من مختلف أنحاء المدينة، وتدفق المصلون وبسطوا سجاجيدهم على أرض المبنى الذي يشبه حظيرة الطائرات وفي فنائه ايض، وقال حمزة قبل بدء الصلاة "انها بداية الحل، المؤمنون مسرورون لكونهم هن، المكان الذي يسع الفي (شخص) كامل (العدد)"، وأعرب العديد من المصلين عن تفاؤلهم وقال احدهم "هذا سيكون افضل من شارع مريها" وهو شارع يشتهر بكثرة الصلاة فيه. بحسب رويترز.

وكانت لو بان وصفت تنامي ظاهرة الصلاة في الشوارع وارصفة المشاة بأنها "غزو"، وقالت سيدة تدعى اسيا وهي في طريقها لموقع الصلاة الجديد الكائن على اطراف العاصمة "انها مارين لو بان التي بدأت كل هذا"، ومضت تقول "الان حظرت الحكومة الصلاة في الشوارع وارسلتنا الى هنا لذا يمكنهم جمع اصوات من (حزب) الجبهة الوطنية (اليميني المتشدد)، هذا هو كل ما في الامر"، وفي فرنسا التي تطبق منذ قرابة المئة عام فصلا شديدا بين الكنيسة والدولة فان الاظهار العام للنشاط الديني يواجه بالاستهجان، ومع ذلك فان جهود حكومة ساركوزي المحافظة للحد من المظاهر الدينية مثل فرض حظر على النقاب قد اثارت انتقادات بوصفها اجراءات فارغة انطوت على تمييز ضد المسلمين، وتحتضن فرنسا اكبر جالية مسلمة في اوروبا وتقول جمعيات اسلامية ان نسبة عشرة في المئة فقط او نفس النسبة بالنسبة للكاثوليك يداومون على الصلاة، في حين ادى نحو مئتي مسلم صلاة الجمعة في احد شوارع باريس، رغم الحظر الذي اعلنته السلطات الفرنسية، ووقف نحو 200 مصل للصلاة على رصيف شارع غوت دور في احد احياء باريس الشعبية، واعلنت وزارة الداخلية انها مصممة على منع الصلاة في شوارع فرنسا لا سيما في باريس ومرسيليا حيث اعدت اماكن عبادة جديدة للمسلمين.

تدنيس قبور المسلمين

فيما افاد مصدر قضائي ان كتابات عنصرية ونازية ومعادية للسامية وجدت على نحو ثلاثين قبرا تعود لمسلمين في مدفن كاركاسون جنوب غرب فرنسا، في عمل نددت به السلطات والجالية المسلمة واعتبرتاه "شنيعا"، وعثر على الكتابات على القبور التي تعود لمسلمين سقطوا في الحرب العالمية الاولى ودفنوا في المربع العسكري، لدى قيام حارس مدفن سان ميشال باقفاله، كما اعلن مدعي كاركاسون انطوان لورو، وبحسب رئيس بلدية المدينة جان-كلود بيريز، فان الكتابات المناهضة للاجانب تستهدف الجالية المسلمة وكذلك الجالية اليهودية، وكتب "ليسقط اليهود، ليسقط المسلمون، فرنسا للفرنسيين"، ولم تلاحظ اي اعمال تخريب لقبور، وتقدمت المدينة "على الفور بشكوى"، واوكل التحقيق الى مفوضية كاركاسون، وقال المدعي "هذه وقائع مؤذية"، واضاف ان "القصد عنصري فعلا وسنقوم بكل شيء للعثور على الفاعلين ومحاكمتهم"، وعلم من مصدر بلدي انه فور انتهاء عمل الشرطة في المكان، اعادت الاجهزة البلدية دهن شواهد القبور التي حملت الكتابات المسيئة، وندد رئيس بلدية كاركاسون بعمل "وحشي لا يوصف" نفذ في رايه للمرة الاولى في هذه البلدة التي يبلغ عدد سكانها 50 الف نسمة، وقال بيريز "اذا كان عملا سياسيا، فانه يدل على انه لا يزال هناك اناس يدعون الى الحقد على الاخر". بحسب فرانس برس.

وقد اجرت مديرة منطقة اود آن-ماري شارفيه "اتصالا شخصيا مع الهيئات المسلمة والاسرائيلية في الدائرة لتاكيد دعمها وابلاغها بان تعليمات صدرت لالقاء الضوء على ملابسات هذه القضية"، بحسب بيان للدائرة، واضاف البيان ان آن-ماري شارفيه "تدين بشدة هذه الاعمال الشنيعة والمستنكرة" و"تحرص على التعبير عن تضامنها الكامل وتعاطفها مع عائلات الموتى"، واعربت الجالية المسلمة عن تاثر شديد، واعرب رئيس المجلس الفرنسي للديانة المسلمة، الهيئة التي تمثل الاسلام في فرنسا، محمد موسوي في بيان عن "استنكاره الشديد" ودان "عملا شنيعا يشكل اهانة لذكرى جنود قتلوا في المعارك من اجل فرنسا، ولذكرى عائلاتهم"، ودعا موسوي السلطات العامة الى "استنفار كل الاجهزة المعنية لكي يتم تحديد هوية الذين قاموا بهذا التدنيس في اسرع وقت ويتم التعامل مع افعالهم بالقسوة التي تستحق"، من جهته، اعلن عبد الله زكري رئيس المرصد الوطني لمكافحة كره المسلمين في المجلس الفرنسي للديانة المسلمة في فرنسا "الامر يتكرر للاسف كثير، فمنذ الجدل حول العلمانية، نلاحظ تصعيدا في الاعمال المناهضة للمسلمين"، داعيا ايضا "السلطات العامة الى وضع يدها على المشكلة"، وفي 2010 تعرضت شواهد لقبور مسلمين للتدنيس اربع مرات على الاقل.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 24/تشرين الأول/2011 - 26/ذو القعدة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م