نقد العنف

محمـد محفـوظ

ثمة وقائع وحقائق سياسية واجتماعية عديدة، تثبت بشكل لا لبس فيه، أن العنف بكل مستوياته والذي يبدأ بالكلمة العنيفة والنابية وينتهي بممارسة القوة العارية والشدة تجاه الطرف الآخر، لا ينهي أزمة، ولا يعالج مشكلة، بل إن التجارب السياسية والاجتماعية، تثبت عكس ذلك تماما.. حيث إن استخدام العنف يفاقم من المشكلات والأزمات، ويوسع من دائرة الضرر والاحتقان، ويثير كل الدفائن العصبوية والشيطانية لدى الإنسان..

والتوغل في ممارسة العنف سواء على المستوى الاجتماعي أو المستوى السياسي، لا يأبد حالة الهلع والخوف لدى الإنسان، وإنما يكسرها ويتجاوزها كمقدمة ضرورية لتحدي آلة العنف ومواجهة مستخدمه سواء أكان فرداً أم سلطة..

وعليه فإن الاعتقاد أن ممارسة القهر والعنف، تنهي الأزمات والمشاكل بصرف النظر عن طبيعتهما، فإن التجارب والممارسات، تثبتان عكس ذلك.. من هنا فإننا نعتقد أننا بحاجة في كل مواقعنا لأن نقطع نفسيا وثقافيا مع نزعة العنف واستسهال استخدام أدواته، ضد أبناء الأسرة أو الجيران، أو يستخدمه رب العمل ضد مخدوميه، أو يمارسه السلطان السياسي ضد مناوئيه ومعارضيه..

فممارسة العنف لا تفضي إلى استقرار الأسر والفضاء الاجتماعي، وإنما توفر كل أسباب التفكك والانتقام والخروج عن مقتضيات الالتزام الأخلاقي والاجتماعي.. كما أن السلطة السياسية التي تمارس العنف ضد شعبها فإنها لن تحصد إلا المزيد من الاحتقان والابتعاد النفسي والعملي بين السلطة وشعبها..

العنف بكل مستوياته، لا يخلّف إلى الدمار الاجتماعي والسياسي، ومن يبحث عن حريته وإنصافه ويتوسل في سبيل ذلك نهج العنف، فإنه لن يحصد إلا المزيد من الظلم والافتئات على الحقوق والكرامات.. فالعنف هو بوابة الشر الكبرى على الشعوب والحكومات.

لهذا فإن المطلوب أن نقطع نفسيا وعمليا مع أسلوب العنف، حتى نربي ذواتنا ونعمم ثقافة العفو والرفق في فضائنا الاجتماعي، ونزيد من فرص التربية المدنية التي تعلي من شأن الحوار والتفاهم وتدوير الزوايا، والبحث عن حلول سلمية تجاه كل مشكلة أو أزمة..

وفي سياق العمل على ممارسة القطيعة النفسية والمعرفية مع العنف بكل حمولته النفسية والاجتماعية والسياسية، نود التأكيد على النقاط التالية:

1- لا يكفي لنا كأفراد وكمجتمع أن ندين ممارسة العنف بكل مستوياته النفسية والأخلاقية، وإنما من المهم العمل على بناء حقائق الرفق والحوار والتفاهم في المجتمع.. حتى تتحول حالة اللاعنف في مجتمعنا، إلى حالة طبيعية مغروسة في نفوسنا وثقافتنا..

أما إذا اكتفينا بالنقد الوعظي لظاهرة العنف، دون بناء الحقائق المضادة لها، فإننا كأفراد ومؤسسات سنلجأ مع أي أزمة إلى استخدام العنف..

فالرهان على مكافحة ظاهرة العنف، ينبغي أن لا يكون فقط على الضوابط والالتزام الأخلاقي لدى الإنسان، وإنما على وجود بناء مؤسسي وتعبيرات رقابية تحول دون ممارسة العنف أو اللجوء إليه..

فالإنسان (أي إنسان) قد تغريه عناصر القوة والقدرة المادية التي يمتلكها لممارسة العنف، ولا سبيل لمنعه إلا ببناء حقائق ومعطيات مؤسسية، تحول دون ممارسة العنف حتى لو سوّلت له نفسه استخدام العنف..

فالمجتمعات المتقدمة اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، لم تتمكن من مواجهة مخزون العنف في واقعها، إلا ببناء مؤسسات ومعطيات وحقائق تمنع قانونيا ورقابيا ممارسة العنف بكل مستوياته، وتعمل في ذات الوقت على غرس ثقافة العفو والتسامح والرفق واللاعنف في واقعها الاجتماعي، عن طريق التعليم ووسائل التنشئة والتربية ومؤسسات الإعلام والتوجيه الموجودة في المجتمع..

بهذه الطريقة تمكنت هذه المجتمعات من ضبط نزعات العنف لدى الأفراد والمؤسسات العامة.. وبدون هذه الطريقة المتكاملة، لن نتمكن من ضبط نزعات العنف التي قد تتسرب إلى نفوس الجميع، وتستخدم بمبررات عديدة..

2- إننا في الوقت الذي ندين ظاهرة العنف بكل مستوياتها، ونطالب بمحاربتها والوقوف بحزم تجاه كل أشكالها وتعبيراتها، ندعو إلى بناء تفسير علمي وموضوعي تجاه هذه الظاهرة.. فرفض هذه الممارسة، لا يمنع من بناء تفسير علمي لها على مختلف المستويات..

وفي تقديرنا أن بناء تفسير علمي وموضوعي لهذه المسألة، يساهم في بناء إستراتيجية صحيحة لمواجهتها..

وإننا من الضروري إذا أردنا مواجهة هذه الآفة، أن نقاومها في أسبابها الحقيقية وعواملها الجوهرية، وبناء تعبيرات مؤسسية وطنية تعنى بشؤون بناء الحقائق المضادة لكل موجبات ومستويات العنف المختلفة..

3- إن التطورات والتحولات المتسارعة التي تجري في المنطقة العربية اليوم، تثبت بشكل عملي أن خيار العنف سواء استخدم من قبل السلطة، أو استخدم من قبل الشعب، فإنه لن يفضي إلى نتائج إيجابية، وإنما سيوفر كل مبررات استمرار سفك الدماء وممارسة القتل دون أفق إنساني وحضاري.. فالعنف لا ينهي أزمة سياسية أو مشكلة اجتماعية، وإنما يزيدهما تعقيدا وصعوبة.. وإن الحكومات والشعوب بإمكانهما أن يصلا إلى ما يريدانه عن طريق الرفق والعفو والنضال السلمي واللاعنفي.. وقد أثبتت تحولات العالم العربي الراهنة، صحة وسلامة هذا الخيار.. أما المجتمعات التي لجأت إلى العنف، فإن أزماتها ستطول، وتضحياتها ستتضاعف..

4 - وحتى يكتمل عقد العفو والرفق والرحمة والصلح والوئام وكل القيم المضادة للعنف والشدة والغلظة، من الضروري إعادة قراءة قيم الإسلام ومفاهيمه على أساس أصل أن الدين الإسلامي هو دين الرحمة والرفق والسلام، وليس دين القتل والشدة والحرب.. وذلك حتى نتمكن من بناء منظومة قيمية متكاملة، تنبذ العنف بكل مستوياته قولا وعملا، وتمارس الرفق والرحمة مع الأعداء قبل الأصدقاء، ومع المختلفين قبل المنسجمين.. وبهذه الكيفية نتمكن نحن كأفراد ومجتمعات من بناء حقائق اللاعنف في واقعنا الخاص والعام، بعيدا عن نزعات الاستئصال والعنف..

فالعنف بكل مستوياته، لا يخلّف إلى الدمار الاجتماعي والسياسي، ومن يبحث عن حريته وإنصافه ويتوسل في سبيل ذلك نهج العنف، فإنه لن يحصد إلا المزيد من الظلم والافتئات على الحقوق والكرامات.. فالعنف هو بوابة الشر الكبرى على الشعوب والحكومات، والمطلوب من الجميع نبذ هذا الخيار والإعلاء من قيم الحوار والتسامح والعفو.. وهذا يتطلب بناء رؤية ومشروع فكري وسياسي وإعلامي وتربوي متكامل، يستهدف محاصرة نوازع العنف في النفس والواقع، وبناء حقائق مؤسسية تطور من حقائق اللاعنف في المجتمع..

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 22/تشرين الأول/2011 - 24/ذو القعدة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م