الثورة العربية والحادث الذي غير وجه العالم

في الذكرى العاشرة لأحداث 11سبتمبر

علاء الدين الأعرجي

لم يتوقع أحد التفجيرات التي حدثت في نيويورك وواشنطن التي ذهب ضحيتها الآلاف والتي أسفرت عن حروب ماحقة ما تزال مستعرة، ذهب ضحيتها الملايين، كما لم يتوقع أحد اندلاع هذه الثورات العربية التي ما انفكت تتفجر في مختلف أرجاء الوطن العربي. فهل لهذه الأحداث علاقة مباشرة أوغير مباشرة بهذه الثورات؟

الصباح الذي غير وجه العالم

في صباح ذلك اليوم المشرق الجميل، كنت، أتـناول الإفطار، في حديقة المنزل، المُطلــَّة على نهر الهدسن، مع زوجتي التي استيقظتْ في وقت مبكر، على غير عادتها( في الثامنة صباحا). وفي الضفة الثانية للنهر، تنتصب أمامنا نيويورك، مدينة المال والآمال، والأعمال والجَمال، بكل عظمتها وبهائها: غابة هائلة من ناطحات السحاب الجبارة، تتحدى العلاء والفضاء، تـتوسطها اثنين من أعلى وأهم الصروح في العالم، هما برجا "مركز التجارة العالمي( 110 طوابق) وإمباير ستيت، (102 من الطوابق).

وبينما كنت أحتسي قهوتي المفضلة، قلت لزوجتي، معاكِسا ومُداعبا كسلها الصباحي العادي:" هل لاحظتِ أن الطوابق العليا من برجي مركز التجارة العالمي، أول من يستقبل أنوار الفجر، حين تتوجها خيوط الأنوار الملونة، بألوان الكون العجيبة، فتشتعل قممها العالية، متألقة في الصباح الباكر!!؟". فـَهـِمَـتْ زوجتي الدُعابة وأدركتْ النقد المُـبطن، فأجابت، بابتسامة مُـتحدية:" أترك لك مُـتعة مراقبة "نجوم الصباح" ثم "خيوط أنوار الفجر"، التي تعانق ناطحات سحاب نيويورك، وتـُشعل قممها السامقة، مقابل أن تتركني محتفظة باللقب العربي الجميل، الذي أطلقـْـته عليّ، بسبب كسلي الصباحي اللذيذ، وهو "نؤوم الضحى"(قالتها بعربية متكسرة ومُحَبَبَة)، وهو اللقب الذي قلتَ لي أنه يطلق على الأميرات العربيات المُترفات، اللواتي اعتدن النوم المتأخر حتى الضحى".

وما كادت تنهي عبارتها هذه، حتى صرختْ مذعورة: "يا إلهي، ماذا أرى! ها هو برج المركز يشتعل فعلا كما تريد أن تراه". التـفتُّ إلى الجهة التي أخذت تشير إليها زوجتي بيدها المرتجفة، حيث انتصبت قائمة باضطراب شديد. رأيت أحد الأبراج يشتعل فعلاً والدخان الأسود الكثيف يتصاعد بشدة. وفي هذه اللحظة كانت زوجتي قد انطلقت إلى الداخل وفتحت جهاز التلفزيون.

المذيع يعلن بتوتر عن خبر عاجل: اصطدام طائرة بأحد برجي مركز التجارة العالمي "وسنوافيكم بالتفصيلات فور ورودها ". أقفز عائدا إلى الحديقة لأراقب البرج المشتعل، وسحابة الدخان الأسود ترتفع وتحجب الطوابق العليا. ثم أعود أدراجي إلى الداخل لأستمع إلى المذيع يقول:" يبدو إنها طائرة ركاب كبيرة أصابت الطوابق من 94 إلى 98 من البرج الشمالي ". ( علمنا فيما بعد أنها كانت طائرة أميركان أيرلاين، الرحلة 11، من مطار بوسطن إلى لوس أنجلس، وكانت محملة بـ 24000 غالون من الوقود سريع الاشتعال، حدث ذلك في تمام الساعة الثامنة و46 دقيقة من صباح ذلك اليوم المشهود ).

 تعود زوجتي لاهثة ومضطربة وتسلمني منظاري المقرب.

 أصبح المنظر واضحا، إذ رأيت الطوابق العليا من مبنى البرج الشمالي تحترق. قـدَّرت أن عدد الضحايا الأبرياء سيكون كبيراً، بمن فيهم ركاب الطائرة وعشرات الموظفين، بكل أسف وحزن.(قــُدِّر عدد ضحايا الصدمة الأولى فيما بعد بـ 1344).

 قلت لزوجتي، بعد أن تركت لها المنظار: "إنه حادث غريب، أن تصطدم طائرة ركاب كبيرة في البرج بطريق الخطأ أو الصدفة، فهناك مسار محدد للطائرات عادة، لاسيما طائرات الركاب، إذ يحظر عليها الطيران فوق مدينة نيويورك".

 تختفي زوجتي مرة أخرى وتعود حاملة جهاز راديو ترانسستر، يمكن أن نأخذه إلى الحديقة. راح المذيع يعلن نفس الخبر، ويقول إن مندوبهم في طريقه إلى مكان الحادث لينقل الأخبار على الهواء فور وقوعها.

اصطدام الطائرة الثانية

 أراقب المشهد بالمنظار، فألاحظ طائرة كبيرة أخرى تحوم قريبا من البرجين. قلت لزوجتي" ربما تكون طائرة استطلاع أو إطفاء أو إنقاذ". وعبّرت عن إعجابي بسرعة استجابة الأمن العام الأمريكي الساهر والجاهز لكل طارئ. ولكنني هتفت فجأة وبانفعال:" يا إلهي!! إن هذا مستحيل، لأن الطائرة العمودية هي المعنية بهذه العمليات عادة، تـُرى أين تقصد هذه الطائرة الأخرى؟". وبينما كنت أمر بهذه الأفكار اللحظية، وما أن انتهيت من هذا السؤال، حتى أجابتني الطائرة فوراً، حين اصطدمت بالبرج الجنوبي السليم.( طائرة يونايتيد إيرلاين، الرحلة 175 من بوسطن إلى سان فرانسيسكو، محملة بنفس الكمية من الوقود تقريبا. الساعة التاسعة وثلاث دقائق).

كـُرةٌ نار هائلة تـتـفجر من الثلث الأعلى لهذا الصرح العظيم. نظرتُ إلى ساعتي فكانت تتجاوز التاسعة قليلا. أي بعد ربع ساعة من إصابة البرج الأول تقريبا. زوجتي تهتف: "يا ربي، هذا فضيع، ثمة شيء خطير يحدث".

ذهني يستنتج، فيقفز فورا إلى الحقيقة الـمُرّة المفجعة: أهتف قائلا لزوجتي: "هجوم انتحاري مُبـَيـَّت ودقيق ومُفجِع. تـُرى ماذا يمكن نتوقع أكثر من ذلك ربما في أماكن أخرى، هل هي بداية حرب كاسحة؟

 تمثــَلتُ في هذه اللحظة فقط، مئات الناس الأبرياء، الذين قضوا في هذه المحرقة الكبيرة، والآخرين الذين ينتظرون حتفهم في الطوابق العليا وربما السفلى. كان الوقت يمر بسرعة والأخبار تتوالى: "إن أمريكا تتعرض لهجوم كاسح"، لاسيما بعد أن أعلن المذيع عن اصطدام طائرة ثالثة في مبنى وزارة الدفاع الأمريكية ( البنتاغون)، التي تقع في شمال فيرجينيا، وذلك في الساعة التاسعة و45 دقيقة. (أميركان أيرلاين، الرحلة 77، من مطار دالاس الدولي القريب من مكان الحادث).

 زوجتي تنتحب مستندة إلى كـَتفي، ونحن مازلنا نراقب ونستمع إلى مندوب محطة الإذاعة الذي وصل إلى مكان قريب من المبنى، وهو يقول: إنه يشاهد بعض المحتجزين في الطوابق العليا يلوح بقطع قماش طلبا للنجدة، ولا يظن أن باستطاعة أحد مساعدته، بكل أسف. ثم صرخ قائلا: "يا إلهي!! إنني أشاهد عددا منهم يلقي بنفسه إلى حتفه من الطوابق العليا، ربما مفضلين ذلك على الموت حرقا"(قدر عددهم فيما بعد بمئتين).

وبينما كنت أرقب هذه المذبحة الفظيعة، وأضرب أخماسا لأسداس، عن هوية الفاعلين، وأستبعد "القاعدة"، لأنني لم أكن أتصور أنها قادرة على تنظيم مثل هذا الهجوم الدقيق والكاسح، ثم يقفز ذهني المشوش والمتحفز، إلى النتائج والتداعيات، بما فيها الحروب وضحاياها ومآسيها.

أقول بينما كنت أفكر في كل ذلك، تضاعف ذهولي عندما شاهدت البرج الجنوبي وهو يتفجر وينهار في كرة هائلة من النار والدخان،( في الساعة العاشرة وخمس دقائق). تصورت كتل الحديد والخرسانة المسلحة المتهشمة وهي تنهال من ذلك العلو الشاهق (أكثر من 1200 قدم على الأقل) تحمل معها آلاف الأشلاء المهشمة والأجساد المتفحمة، لبشر يحملون آلاف الآمال العظيمة، والعلاقات الحميمة، مع بقية الناس المحيطين بهم( الأسرة والأولاد والأصدقاء). بل يشتركون مع جميع البشر الآخرين في العالم، أينما كانوا، برابطة "الإنسانية"، التي تتجاوز وتسمو على جميع الاختلافات والروابط الأخرى، مهما كانت. أقول جميع تلك العلاقات والآمال، تحطمت بلحظة، نتيجة هذا العمل الإجرامي الفظيع.

أستمع إلى المذيع يسعل ويصرخ قائلا: "يا ربي!! أكاد أختنق من الدخان والغبار بل نحن نتعرض لشظايا الانفجار مع أننا بعيدين نسبيا عن البرجين. الناس يهربون بفزع وانهيار. العويل والبكاء والصراخ يتعالى في كل مكان، من النساء والرجال والأطفال على السواء، يتراكضون بجنون، كأنه يوم الحشر، وهم يتوجهون نحونا يكللهم الغبار الكثيف، وكأنهم كتلا من مخلوقات خرافية، وبعضهم يتساقط فلا يحفل به أحد. وأنا سأهرب مع فريقي إلى مكان آمن ".

وبعد 23 دقيقة من تداعي البرج الأول، شعرت بالانهيار وأنا أراقب تداعي وانهيار شقيقه التوأم، البرج الشمالي( في العاشرة و28 دقيقة )، وهو البرج الذي وقع فيه الاصطدام الأول(في الساعة الثامنة و 46دقيقة)، والذي يضم، مع شقيقه الذي تهاوى قبله، عددا كبيرا من مقار أهم الشركات الكبرى في العالم، التي تتجاوز ميزانية كل منها ميزانية العديد من الدول. وانهدتْ معه صارية أحد أهم مراكز الاتصالات السلكية واللاسلكية العالمية، بالإضافة إلى واحد من أشهر مطاعم العالم، الذي كان يقع في قمته.

لاحظت أن زوجتي كانت تذرف الدموع بغزارة، بينما تحاول أن تتمالك نفسها لتلتقط بعض الصور.

 وفي هذه اللحظة المأساوية بالذات، قفز إلى ذهني ذلك "العشاء الأخير"، حين دعانا أحد الأصدقاء، من رجال الأعمال، بمناسبة عيد ميلاد زوجته، قبل فترة قصيرة من ذلك الحدث. دعانا زوجتي وأنا، مع ثلة من الأصدقاء، إلى ذلك المطعم الفخم، المسمى، بحق،" نافذة على العالم"، الذي يقع فوق الطابق المائة من ذلك الصرح، الذي يتهاوى أمامي في هذه اللحظة. وتذكرت كيف قضينا واحدة من أجمل الليالي، حين كنت أشعر خلالها أننا كنا في أجمل وأكمل وأأمن مكان في العالم. ويا للمفارقة الهائلة !! ذكـّرت زوجتي بتلك الليلة، وأنا أواسيها.

تجذير وتنظير

هل هي مجرد صدفة أن تحدث هذه الثورة العربية الشعبية الكبرى الجارية والمستمرة، بعد عشرة أعوام من أحداث نيويورك وواشنطن؟ أم كان هناك قِــدْرٌ كبير، ينتصب فوق موقد تاريخ الماضي والمستقبل والحاضر، تُسَخِّنُه نار هادئة أحيانا، ومتأججة أحيانا، يحتوي على خليط من عشرات وربما المئات من المواد والعناصر المتجانسة، ظلت تتفاعل فتنضج تدريجيا، بل بدأت بالغليان حينما ارتفعت درجة حرارتها، بسبب شدة النار التي تأججت في الموقد!!؟

الأحداث التاريخية الخطيرة التي تغير مسيرة التاريخ ووجه العالم، التي تبدو للمراقب العادي غريبة أو فجائية، لم تحدث من فراغ بل لابد أن وراءها الكثير من العوامل المتكاملة والمتقاطعة والمتفاعلة. ولم ينتبه إلى هذه النقطة أحد من كبار المؤرخين العرب الذي كانوا أول من دوّن التاريخ، في التاريخ، أمثال الطبري وابن كثير والبلاذري والسيوطي، وغيرهم، باستثناء عبد الرحمن بن خلدون الذي كتب في القرن الرابع عشر الميلادي، كتابه المعروف بـ" كتاب العِبَر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر"، ودَبَّجَ "مقدمته" الشهيرة، التي فتحت أبواب "علم التاريخ"، لأنه بحث، بين أمور أخرى، في أسباب أحداث التاريخ والعوامل المختلفة والمتفاعلة التي تؤدي إلى تشكيل الحدث التاريخي.

وهكذا نحن نعتقد أن هناك أسبابا معينة  فهو أول من أدرك أن وراء أي حدث تاريخي أسباب تاريخية ونتائجها، التي تصبح بدورها أسبابا لنتائج أخرى جديدة تظهر على السطح، بأشكال مختلفة، أو تكمن في العقول الباطنة لأفراد ذلك المجتمع، فتشكل ما أسميناه بـ"العقل المجتمعي" الذي يصبح ذا سلطة قاهرة على هؤلاء الأفراد، من حيث يشعرون أو لا يشعرون، في الغالب. وهذه الأسباب قد تعود جذورها إلى عشرات أو مئات السنين، أحيانا، تتفاعل وتتكامل وتتراكم، لتشكل تدريجيا ذلك الحدث التاريخي الخطير. فالتغيرات الكمية التدريجية، تسفر، في الغالب، عن تغير نوعي مفاجئ، هائل وصادم، كما حدث مثلا في الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001. وكما حدث عند اشتعال الثورات العربية، التي نعتبها ثورة واحدة تنتشر الآن وفي المستقبل، في جميع أرجاء الوطن العربي.

مضاعفات وتداعيات أحداث نيويورك وواشنطن

1- أدت هذه العملية إلى الإضرار بسمعة العرب والمسلمين والإسلام بوجه عام. فقد أصبحت تهمة الإرهاب تلصق بجميع العرب والمسلمين تقريبا، بعد أن تحقق أن جميع الذين خططوا لتلك العمليات ونفذوها كانوا من العرب المسلمين. مع أن الإسلام يحرم بصراحة قتل الأبرياء،. "مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادْ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا" ( المائدة: 32) بل يحرم الإسلام قتل الحيوان بلا سبب. كما أن مهاجمة المدنيين الأبرياء وقتلهم عمدا، يعتبر عملا يتنافى مع جميع الأعراف والتشريعات الدولية والإنسانية، فضلا عن أنه مخالف لروح الشريعة الإسلامية ونصوصها.

2- أدت هذه الأحداث إلى شن حروب ماحقة، أسفرت عن ضحايا تقدر بـمآت الآلاف، بمن فيهم الجرحى والمشوهين والمشردين واليتامى. كما أن الحرب ظلت مستمرة في أفغانستان والعراق مايزال يعاني حتى اليوم، من الاضطرابات وفقدان الأمن والخدمات الرئيسية، والفساد الإداري والمالي...

3- بذريعة مكافحة الإرهاب أطلقت إسرائيل يدها في إخماد الانتفاضة الفلسطينية في الأراضي العربية المحتلة دون رادع من جانب المجتمع الدولي، فقتلت وأسرت واختطفت وقضت على البنى التحتية في الأرضي الفلسطينية، وحاصرت ياسر عرفات ثم قتلته. وتجاهلت مشروع السلام المطروح من القمة العربية في بيروت، في عام 2002، ثم أفرغت خارطة الطريق من محتواها.

4- أصبح العرب والمسلمون المقيمون في المهجر مهددين من جانب السلطات الرسمية. حيث أصبح كل عربي أو مسلم موضع شبهة أو اتهام حتى يثبت العكس. وخاصة في أمريكا بعد صدور "قانون المواطنة"، الذي يتيح للـ" أف بي آي" سلطات استثنائية في الاعتقال والتنصت على المكالمات الهاتفية، وما إلى ذلك.

5- بعد هذه الأحداث أجازت أمريكا لنفسها الحق في شن حروب ا ستباقية على جميع البلدان التي تشك بأنها قد تشكل خطرا على أمنها، وكان العراق الهدف الأول. مع أن فريق الأمم للتفتيش عن أسلحة الدمار الشامل أثبت خلو العراق من هذه الأسلحة، كما لا توجد أية صلات بينه وبين القاعدة

6- قامت أمريكا بتركيز وجودها في منطقة الخليج، بل فـُتحت لها أبواب المنطقة على مصراعيها أثناء الحرب الأخيرة على العراق. واستمر هدا الوجود قائما حتى اليوم وسيبقى على الأرجح إلى أجل غير مسمى.

 علاقتها بالثورات العربية القائمة

بذريعة مكافحة الإرهاب تضاعفت الضغوط السياسية والعسكرية على الأنظمة العربية، وتضاعفت القواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة العربية بوجه عام. فأصبح معظم الحُكّام العرب خاضعين للآخر بشكل كامل.

الفوضى الخلاقة أو الثورة الخلاقة

بعد أحداث سبتمبر إعلن الرئيس بوش الأبن الحرب على الإرهاب. وفي هذا السياق استخدم ما أسماه الحملة الصليبية، في عبارة مثيرة للجدل قال فيها:"هذه حملة صليبية، هذه الحرب ستستغرق وقتا طويلا" "This crusade, this war on terrorism is going to take a while." ولابد أن مستشاريه نبهوه إلى ما تحمله هذه العبارة من مضامين وجروحات وخلفيات تاريخية وذكريات كارثية وما يمكن أن تثيره من أحقاد، وكأنها تعلن الحرب على جميع المسلمين الذين يشكلون ربع سكان المعمورة. فحاول أن يتراجع عنها فيما بعد. كما شعاره الخطير "من ليس معنا فهو ضدنا"، واعلن  "من ليس معنا فهو ضدنا"، كما أعلنها وتسابق العرب لأثبات أنهم في صف بوش وخضوع الأنظمة العربية للسياسة الأمريكية بدون قيد او شرط وتسارع القذافي إلى الاستسلام للغرب بعد حرب العراق.

  وهكذا إن أردنا معالجة أي إشكالية، فالخطوة الأولى لذلك هي محاولة فهمها بدقة، بالعودة إلى جذورها، وإلا فوسائلنا في معالجتها ستكون خاطئة بل قد تؤدي إلى عكس المطلوب تماما. وبذلك يصبح الحل جزءا من تفاقم المشكلة وليس حلها. كما يحدث الآن فعلا في كل من أفغانستان والعراق وبقية المناطق الملتهبة في مختلف مناطق الشرق الأوسط.

ملاحظة مهمة: نحن ننطلق في تحليلنا هذا من افتراض أن "القاعدة" مسؤولة عن الحادث، حسب اعتراف قياداتها الصريحة. فضلا عن اعتبار نتائج التحقيقات التي أجرتها الجهات المختصة وعلى رأسها:

 The National Commission on Terrorist Attacks Upon the United States (9/11 Commission), chaired by former New Jersey Governor Thomas Kean,

وDepartment of Commerce's National Institute of Standards and Technology (NIST).

وبذلك نستبعد الآن الافتراضات التي ترى ضلوع جهات أخرى في الحادث، منها إسرائيل أو الإدارة الأمريكية نفسها(أنظر مثلا كتاب 9/11:Synthetic Terror Made in USA ).

 وهكذا سنبحث تحليل هذه الكارثة ونحاول استخلاص نتائجها القريبة والبعيدة، في عشر نقاط:

1- القلعة الآمنة تتعرض لهجوم كاسح غير متوقع

كقلعة آمنة وحصينة منعزلة، لم تهزها الأزمات ولا تمسها الحروب، التي دمرت أوروبا مرتين خلال القرن الماضي، تتعرض الولايات المتحدة، لأول مرة في تاريخها، منذ حرب الاستقلال، لهجوم طال أهم معالمها، أو بالأحرى بنيتها التحتية وخاصة المالية: مركز التجارة العالمي، والعسكرية: البنتاغون. ولا شك أن هذين البؤرتين، تشكلان أهم النقاط الحساسة في أمريكا. هذه الدولة العظمى، التي اشتركت في حربين عالميتين، وشنت منذ الحرب العالمية الثانية، عشرات الحملات العسكرية والاقتصادية والإعلامية الكاسحة، دون أن تتعرض أراضيها وسكانها، إلى أي هجوم يمس أهلها، من المدنيين، بأي أذى. خلافا لبعض البلدان الأوربية والأسيوية الأخرى، التي تعرضت أراضيها وسكانها، خلال الحرب العالمية الثانية، للإبادة الجماعية تقريبا، كما حدث لليابان وألمانيا النازية مثلا.

 لذلك يعتبر الهجوم الذي تعرضت له نيويورك وواشنطن في11 /9 /2001، أهم وأخطر وأقسى كثيرا من الهجوم الذي قامت به اليابان على قاعدة " بيرل هاربر". لأن تلك الجزيرة لا تعتبر أرضا أمريكية، بالمعنى الصحيح، بل تبعد عن أمريكا الأم آلاف الأميال. كما أن ذلك الهجوم حدث ضد قاعدة عسكرية وليس على مُجـمـَّع مدني. وعلى الرغم من ذلك، أدى ذلك العدوان على تلك القاعدة الأمريكية، إلى إعلان أمريكا الحرب على اليابان، وانتهت باستخدامها أحدث وأكثر الأسلحة دمارا في التاريخ، ألا وهو السلاح النووي.

2- آراء في آثار الحدث السلبية وتحليلاتها الجذرية

بعد مرور خمس سنوات من أحداث سبتمبر نحاول أن نلقي بعض الضوء على آثارها السلبية على المنطقة العربية، ثم نحاول أن نحلل ونطرح بعض الأسباب الجذرية لحصولها.

3- البحث عن جذور الإشكالية

 وبدون التشدق بكلمات الإدانة والاستنكار التي أصبحت مبتذلة لكثرة المزايدة على ترديدها، لاسيما ونحن بصدد التفسير والتحليل فقط، لا التبرير، نرى أن هذا الهجوم الذي تعرضت له أمريكا، وربما ستتعرض له في المستقبل حسب رأي معظم الخبراء، ترجع جذوره إلى أحداث وأسباب وملابسات كثيرة سابقة.

 فالحدث التاريخي الفجائي، الذي قد يغير وجه العالم، في أي زمان ومكان، لن يتحقق من فراغ، بل من تراكم وتفاعل سلسلة من الأسباب التاريخية ونتائجها، التي تصبح بدورها أسبابا لنتائج أخرى جديدة تظهر على السطح، بأشكال مختلفة، أو تكمن في العقول الباطنة لأفراد ذلك المجتمع، فتشكل ما أسميناه بـ"العقل المجتمعي" الذي يصبح ذا سلطة قاهرة على هؤلاء الأفراد، من حيث يشعرون أو لا يشعرون، في الغالب. وهذه الأسباب قد تعود جذورها إلى عشرات أو مئات السنين، أحيانا، تتفاعل وتتكامل وتتراكم، لتشكل تدريجيا ذلك الحدث التاريخي الخطير. فالتغيرات الكمية التدريجية، تسفر، في الغالب، عن تغير نوعي مفاجئ، هائل وصادم، كما حدث مثلا في الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001.

وهكذا إن أردنا معالجة أي إشكالية، فالخطوة الأولى لذلك هي محاولة فهمها بدقة، بالعودة إلى جذورها، وإلا فوسائلنا في معالجتها ستكون خاطئة بل قد تؤدي إلى عكس المطلوب تماما. وبذلك يصبح الحل جزءا من تفاقم المشكلة وليس حلها. كما يحدث الآن فعلا في كل من أفغانستان والعراق وبقية المناطق الملتهبة في مختلف مناطق الشرق الأوسط.

وهكذا فإن ظاهرة "ابن لادن" و"القاعدة" لم تنشأ هكذا من لا شيء، بل من تراكم أسباب وتفاعل مسببات مع نتائج. فالإدارة الأمريكية تـُخطئ أشد الخطأ حينما تعمى، أو تتعامى، عن فهم الأسباب الحقيقية لهذه الظاهرة، لمجرد أنها تريد أن تقول إنها كانت على حق في طريقة معالجتها، لاسيما بعد أن ثبت فشلها الذريع في حلّ الإشكالية، بعد مرور خمس سنوات، كما سنبين أدناه.

هذا فضلا عن أن من الممكن أن نعيد ظاهرة "القاعدة"، تاريخيا وواقعيا، إلى أمريكا نفسها، التي ساعدتها بالمال والسلاح من أجل مقاومة السوفييت في أفغانستان سابقا، كما هو معروف.

4- سياسة أمريكا الخارجية المتجبرة والمتحيزة أضرت بها

 فأمريكا، لاسيما بعد غياب الاتحاد السوفياتي، أصبحت القوة العظمى الوحيدة، المتحكمة بمصائر ورقاب الشعوب الأخرى. فهي تملك أكبر اقتصاد في العالم، وأقوى آلة عسكرية هجومية، تسمى تقليدية، ولكنها عصرية وذات تدمير شامل، تتجلى مثلا بالقنابل العنقودية ( كتلك التي تزود بها حليفتها إسرائيل والتي استخدمتها ضد السكان المدنيين في لبنان مؤخرا)، والأسلحة التي تستخدم اليورانيوم المنضب، التي تشكل أخطارا كبيرة على الإنسان والنبات والحيوان وعلى البيئة بوجه عام. فضلا عن أنها تحتفظ بأكبر ذخيرة من أسلحة التدمير الشامل، بما فيها الكيميائية والجرثومية والنووية. وهي تسيطر على أهم مراكز الطاقة في العالم وخاصة بعد حرب الخليج الثانية، حيث بنت قواعدها، التي أصبحت دائمة، في جميع بلدان الخليج. وحربها الأخيرة على العراق، التي شنتها دون أي اعتبار للشرعية الدولية، تؤكد سعيها لاستكمال سيطرتها على جميع مصادر الثروة النفطية في العالم، فضلا عن تحكمها، غالبا، بالأسواق العالمية عن طريق "منظمة التجارة العالمية" و شركاتها العابرة الكبرى( العولمة).

وهي فضلا عن ذلك تستـنـزف الموارد الطبيعية والبشرية للأصقاع والأجناس المحيطة بها، وتلوث البيئة الطبيعية، بدون أن تلتزم بالمواثيق الدولية الإنسانية( لم توقع أمريكا على ميثاق" كيوتو" مثلا)، مع أنها تستهلك بمفردها أكثر من ثلث الطاقة المستهلكة في العالم، أي أكثر من مجموع ما يستهلكه جميع سكان البلدان الفقيرة والنامية. وهكذا فإنها لا تعير اهتماما لما يحدث خارج قلعتها الباذخة، إلا بقدر ما يخدم مصالحها والمحافظة على نمط حياتها ويرفع من مستوى معيشة سكانها، ويزيد من ثروات أثريائها. ولا يعنيها بعد ذلك ما يجري هناك من مجاعات ومذابح وخلافات فئوية وعنصرية ودينية وطائفية، بل تغذيها وتشجع عليها، أحيانا، أو تبادر بشكل، مباشر أو غير مباشر، إلى دعم الأقوياء، ما داموا من أصدقائها، ضد الضعفاء، وإلى مساعدة المستبدين، ما داموا من حلفائها، ضد المستعبـَدين( بالفتح)، وتسعى إلى تعزيز دور الأغنياء ضد الفقراء، حفاظا على نفوذهم وبالتالي إحكام سيطرتها.

وفي الوقت الذي تستمر فيه أمريكا باتباع هذه السياسة المتجبرة، قد يجوز أن نطرح بعض التساؤلات، منها:

هل نستغرب، من هذه الجماهير المسحوقة، التي يمزقها الشعور الفادح بالظلم واليأس، أن تنمو لديها روح الحقد والتطرف، بل روح التمرد والثورة الذي يسمونه إرهابا؟!

وفي هذا الوضع غير الإنساني الذي يعاني منه الشعب العربي الذي يتعرض في كل يوم للقتل أو الخطف والقهر والإذلال أو الاحتلال والتجويع والحصار، سواء من الخارج: إسرائيل وحليفتها أمريكا، أو من الداخل: معظم سلطاته الحاكمة المستبدة التي تستجدي رضا الولايات المتحدة؛ أقول في هذا الوضع المأساوي الذي يتحمله معظم العرب منذ عقود، هل نندهش من تعاطف نسبة كبيرة من جماهير الشارع العربي أو الإسلامي المسحوقة، مع الحركات الإسلامية السلفية، بصرف النظر عن مشروعيتها في تمثيل الإسلام، لاسيما وإنها أثبتت وحدها نجاحها في مجابهة هذا العملاق الأمريكي المتحكم وأذنابه من حكام الدول العربية !؟

وهل نتعجب أن تصغي فئة قليلة من بضعة آلاف من الشبان، من بين ألف مليون من البشر المعدمين، الجياع والمضطهدين، (تؤكد تقارير الأمم المتحدة أن عدد الفقراء، في جميع البلدان النامية، يزيد على ألف مليون، وأكثرهم في القارتين الأفريقية والآسيوية)، أو من الأغنياء المؤمنين والواعين( من أمثال ابن لادن)، لنداء الثورة على هذه الشرور والظلم والبؤس والإذلال؟ لاسيما إذا كان هذا النداء موجها من زعيم فرد ضحى بثروته ومجده الاجتماعي، وأثبت قدرته الفذة على مقارعة أعظم قوتين متحكمتين في التاريخ، الاتحاد السوفيتي، سابقا والولايات المتحدة حاليا؟

 وبعد أن سقطت جميع المبادئ والمذاهب السياسية والاجتماعية، بما فيها الاشتراكية والليبرالية والقومية، في هاوية اليأس من إيجاد حل لتردي الأوضاع الجارية في المنطقة العربية، بوجه خاص، هل من العجيب أن تـلجأ فئة كبيرة من أفراد المجتمع إلى أحضان الحركات الدينية المتطرفة التي تعدهم بالحلول العادلة المنبثقة من صميم تراثهم وعقيدتهم،بهدف استعادة أمجاد حضارتهم البائدة وتراثهم الثـرّ؟

ولماذا نسمي الأعمال التي قامت بها القاعدة "إرهابا "، ولا نسمي أعمال قتل المدنيين وتشريدهم، التي قامت وتقوم بها إسرائيل، يوميا، في فلسطين المحتلة إزاء الشعب العربي الفلسطيني الذي سلبت منه أرضه، "إرهاباً"؟

وأخيرا هل نستغرب تعاطف الكثير من العرب المسلمين مع تنظيم القاعدة وزعيمه ابن لادن(ثبت ذلك بالاستفتاء التي نظمته الجزيرة مؤخرا)، بعد إثبات وقوفه الناجح في وجه آلة الحرب الجبارة التي شنت عليه حربا ماحقة خلال خمس سنوات، ومع ذلك لم تتمكن منه شيئا، بل خرج منها مرفوع الرأس (حسب رأيهم)، وأكثر قوة وبأسا وتهديدا، في رأي عدد المحللين حتى الأجانب؟

وهكذا فنحن هنا لسنا بصدد التبرير، بل بصدد التحذير من خلال التفسير والتنوير بحقائق ماثلة، ولكنها تـُحجب عمدا أو إهمالا، لاسيما على الشعب الأمريكي، الذي تغسل دماغه وسائط الإعلام الأمريكية الموجهة في الغالب إلى تشويه الحقائق أو تزويرها، أو التعتيم عليها.

 * * * *

5- موقف المثقف العربي من سياسة هذه الحركات السلفية

 واستدرك فأقول: أرى إن معظم أفراد الطبقة المثقفة والمتعلمة في العالم العربي والإسلامي، ترفض، على الأرجح، مواقف وحلول وتطلعات هذه الحركات السلفية، وخاصة المتطرفة،من أمثال "القاعدة". وذلك لأسباب متعددة من بينها محاولات تلك الحركات إعادة عجلة التاريخ إلى الخلف. فضلا عن تطلعات تلك الطبقة المثقفة لإطلاق الحريات الأساسية، بما فيها حرية الاعتقاد والتعبير والتفكير والانتخاب والتشريع، التي تعارضها تلك الحركات السلفية بشدة، فضلا عن أن هذه الحركات تختلف فيما بينها إلى حد التكفير والاقتتال. ولكن يبدو أن الأزمات الساحقة التي يتعرض لها العالم العربي، والتي لم تلق اهتماما كافيا من المجتمع الدولي وعلى رأسه أمريكا، تجعل تعاطف الكثير من المثقفين مع هذه الحركات وارداً أحيانا. وهكذا تقدم أمريكا أكبر خدمة للحركات التي تسميها إرهابية، بسياستها الخاطئة. أي أن بعض المثقفين العرب أصبحوا يتعاطفون مع هذه الحركات التي يرفضونها، لا حبا بها بل كرها لسياسة الإدارة الأمريكية، المتحيزة والمتجبرة.

ويمكن أن يقال في هذا الصدد أن المثقف العربي، بوجه عام، يحترق بين نارين؛ نار الغطرسة الأمريكية وعسفها وسوء تصرفها، ونار هذه الحركات الأصولية التي لو نجحت في سعيها لاستلام الحكم في بعض البلدان الإسلامية، لأصبح الوضع فيها كما كان في ظل حكم طالبان في أفغانستان.

6- أراء في تجذير ظاهرة ما يسمى بـ"الإرهاب"

"مدرسة الدفاع الاجتماعي" تعالج معضلة "الجريمة"

في الدراسات القانونية المتعلقة بعلم الإجرام، تقف" مدرسة الدفاع الاجتماعي " على رأس المدارس الحديثة، التي تعالج معضلة الجريمة ومكافحتها في المجتمع بشكل جذري. و ترى هذه المدرسة أن الفقر والبطالة والفوارق الحادة بين المتخمين والمعدمين، والقهر والاستغلال الجسدي أو الاقتصادي وسوء التربية وقلة التعليم، كلها تشكل أهم أٍسباب الجريمة في أي مجتمع. لذلك فإن على المجتمع، الذي يستهدف مكافحة الجريمة، أن يبادر إلى معالجة هذه الآفات قبل أن يشرع ببناء مزيد من السجون وينصب مزيدا من المشانق، لان ذلك لا يؤدي في الغالب إلا إلى عكس المطلوب. بدليل أن عدد السجناء في الولايات المتحدة كان مائتي ألف، في عام 1970، بينما قفز إلى أكثر من مليونين مؤخرا. كما تعتبر السجون مدارس لإعداد مزيد من المجرمين بقدرات وكفاءات أكبر، وكم من المجرمين يعودون إلى ساحة الجريمة بمجرد الخروج من السجن. كما أن اليأس يؤدي إلى ارتكاب الجريمة، مهما كان الثمن، حتى إذا كانت المشنقة بالمرصاد. فالمقبل على الموت،بعد أن يئس من حياة لا تقدم له أدنى مستويات العيش الكريم، لا يهمه أن يأخذ معه أكبر عدد ممكن من الناس إلى القبر، بل هو يسعى إلى ذلك، خاصة، إذا اعتبرهم مسؤولين عن شقائه أو إذلاله.

ولكنَّ الإدارة الأمريكية لم تأخذ بهذه النظرية، على ما يبدو، لا في سياستها الداخلية ولا في سياستها الخارجية، بدليل أنها لا تحاول أن تعالج أصل الداء الذي أدى إلى هذه الكارثة. ويتجلى أصل الداء مثلا، في الظلم الواقع على الشعب العربي الفلسطيني من جانب إسرائيل. فضلا عن البؤس والفوارق الهائلة في مستويات المعيشة، التي سنبحثها أدناه. كل هذه العوامل تؤدي إلى تفريخ الإرهاب ورعاية الإرهابيين ودعمهم.

7- الفوارق الهائلة في مستويات المعيشة

هناك شبه إجماع كامل على أن عالمنا المعاصر يفتقد الحد الأدنى للمساواة بين البشر، الذين أصبحوا يشكلون كيانا متقاربا ومتفاعلا، بعد أن تحول هذا العالم إلى قرية صغيرة. فليس من المعقول، ولا من العدالة بشيء، أن تتمتع نسبة، قد لا تزيد على 10 في المائة من سكان العالم، بقرابة 90 في المائة من الموارد، في حين يتعيش 90 في المائة من بقية البشر على10 في المائة الباقية منها. واستنادا إلى تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية، تزداد الفجوة الكمية، في حجم الثروة، اتساعا بين البلدان الغنية والبلدان الفقيرة. فبعد أن كانت الأولى أغنى من الثانية بنسبة 30 ضعفا، في عام 1960، أصبحت هذه النسبة مضاعفة 150 مرة، في بداية التسعينات، و 190 مرة في بداية الألفية الثالثة. وسترتفع هذه النسبة، إلى 230مرة، على الأقل، في عام2010، إذا سرنا على نفس المنوال، مع انه من المتوقع أن تزداد بنسبة أكثر من ذلك.

وبغية تقليل حجم هذه الفجوة، بشكل تدريجي، نرى أن تخصص البلدان المتقدمة والغنية، ولاسيما البلدان السبعة المصنعة، جزءا من ناتجها المحلي الإجمالي GDP، لا يقل عن 2 في المائة، لتنمية البلدان الفقيرة والنامية، ليس كمنة أو مساعدة، بل كحق لتلك البلدان وواجب على البلدان المتقدمة. وبذلك قد تستطيع أن تكفر عن بعض من سياساتها السابقة، وترد بعض الدين الذي في ذمتها إلى البلدان الفقيرة، التي استغلتها ونهبت ثرواتها. وهذا ما سبق أن اقترحناه في مؤتمر دولي اقتصادي وصناعي عقد في القاهرة، بإشراف منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية UNIDO، في عام 1965، وحضره كاتب السطور مع وفد العراق، ضمن وفد اتحاد الصناعات العراقي. وقد أخذت الأمم المتحدة بهذا الاقتراح فيما بعد، إلا أن البلدان الغنية التي تعهدت بنسبة أقل من الواحد في المائة فقط،من ناتجها المحلي الإجمالي، لم تف بهذا الالتزام وقللته إلى أدنى من نصف الواحد، فربع الواحد حتى عام 1999. وحتى هذه النسبة الضئيلة لم تف بها على النحو المطلوب.

وجدير بالذكر أن ميزانية الولايات المتحدة كانت قد حققت فائضا بلغ 200 بليون دولار، حينما تسلم جورج بوش الابن السلطة في بداية 2001، أما الآن فمن المقدر أن حجم العجز الذي ستظهره ميزانية هذا العام( 2006) سيتجاوز 400 بليون دولار، انفق معظمها على الحروب. وقد قام عدد من الاقتصاديين الحائزين على جائزة نوبل من جامعة هارفرد، بتقدير التكلفة الحقيقية للحرب الجارية في العراق، بـ 1000إلى 2000 بليون دولار. وكان من الأفضل استثمار هذا المبلغ، بإشراف خبراء اقتصاديين، في دعم برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، لتحسين أوضاع العالم الثالث، الذي يعاني بليون وربع من سكانه من الفقر المدقع، ولاسيما في بعض البلدان العربية والإسلامية الفقيرة، لتحسين سمعة أمريكا فيها.

 * * *

وبغية تقديم بعض الأدلة على مدى الجور والظلم الذي تعرضت له شعوب العالم الثالث، ولاسيما الشعوب العربية والإسلامية، مما أدى أخيرا إلى ظهور هذا الفريق السلفي الذي أصبح زعماؤه أبطالا يُحتذى بهم في نظر نسبة كبيرة من الشعب العربي والإسلامي،(حوالى نصفهم يؤيد بن لادن، حسب استفتاء طرحته "الجزيرة" مؤخرا، كما أسلفنا)، نقدم رأي شاهد من أهلهم:

8- توينبي: "الغرب أكبر مغتصب في العصور الحديثة"

 هذا ما يؤكده بصراحة أحد فلاسفة علم التاريخ العالميين، الذي يعتبر واحدا من أكبر وأشهر مفكري القرن العشرين، وهو الكاتب البريطاني آرنولد توينبي، مؤلف الموسوعة التاريخية المشهورة" دراسة في التاريخ" في13 مجلدا. كما أود أن أوجز موقفه إزاء القضية الفلسطينية في كتابه المرموق هذا، حيث يهاجم تصرفات السلطات الصهيونية التي تستخدم نفس الوسائل التي كان تستعملها السلطات النازية ضد اليهود أنفسهم. قال ذلك قبل قرابة خمسين عام، تـُرى ماذا سيقول عن الأعمال التي ترتكبها إسرائيل اليوم لو كان حيا !؟

 و نقـتبس شيئا مما قاله على رؤوس الملأ في أحد أهم المنابر العالمية البارزة في عام 1960، وهو إذاعة الـ BBC ثم وضعه في كتاب أسماه "العالم والغرب". قال في هذا الكتاب:" إن العالم هو الذي تحَمّـل طفرات الغرب الرهيـبة، وليس العكس. وأن على الإنسان الغربي أن يحاول الخروج من غربيته، فينظر إلى الصراع بين العالم والغرب نظرة غير الغربيين، الذين يشكلون أكثرية البشرية، الذين يرون، على اختلاف مللهم ونـِحَـلهم، أن الغرب كان أكبر مغتصب في العصور الحديثة. ويضيف إن "الحكم الذي أصدره العالم على الغرب له ما يبرره بالطبع". ويرى أن على الغرب أن يتحمل اليوم من العالم" ما كان العالم يتحمله من الغرب منذ القرن السادس عشر".(ص12 الترجمة العربية) ويقول، في مواضع مختلفة أخرى، أن على البلدان النامية أن تواجه الغرب بنفس أسلحته. ويقصد بها، في المقام الأول، العلم والتكنولوجيا، أي الفكر والإبداع والمعارف، التي تبني أسس صرح التقدم الحضاري المادي والمعنوي.

9- "البؤس لن يعيش في وفاق مع السلام"

 هذا ما قالته مديرة شركةMicro Information Systems Inc الدكتورة آلن سميث Smith.A. وهكذا فإن مكافحة العنف لن تتحقق بالعنف المعاكس، الذي قد يؤدي إلى مضاعفة العنف، بل قد تتحقق على نحو أفضل، على الأقل، إن عالجنا أسباب العنف الأساسية ومنها الفجوة الآخذة بالاتساع بين العالم المتقدم والعالم الفقير أو المتخلف، التي عرضناها أعلاه، وحاولنا حلّ أهم النزاعات الدولية التي مازالت عالقة، استنادا إلى الشرعية الدولية، وتطبيق قرارات الأمم المتحدة، على جميع الدول دون محاباة. خاصة تلك القرارات الكثيرة المتعلقة بالقضية الفلسطينية أو التي تدين إسرائيل، والتي ظلت معطلة بسبب "الفيتو" الأمريكي، فضلا عن الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية الذي يدين إسرائيل ويقضي بإزالة الجدار العازل.

 وتضيف السيدة آلن سميث "إن السلام وإرساء السلام على مستوى أكثر عمقا أيضا، يتوقفان على المعرفة". وتقترح استخدام "جيوشنا، وقوة الثورة الرقمية Digital Revolution، لنقل ما أمكن من المعلومات والقدرات المعلوماتية إلى باقي أرجاء العالم، حتى تستطيع شعوب البلدان النامية أن تصبح جزءاً من المجتمع العالمي، لما فيه مصلحة الأمن الوطني. ويجب علينا استخدام هذه المعرفة لنقل الرفاهية إلى باقي العالم، قبل أن يتحول كل سكانه إلى مهاجرين ولاجئين أو معالين بواسطة الغرب"، كما تقول. ويمكن أن نضيف:"... أو بالأحرى، قبل أن يتحول معظم سكانه إلى أصوليين ومتطرفين وثائرين ومخربين وفدائيين، كما حدث ويحدث اليوم فعلا ".

وفي رسالة مفتوحة وجهها 729 أكاديميا من خبراء الشؤون الخارجية، في 13/10/2004، من المؤسسة المعروفة باسم Security Scholars for Sensible Foreign Policy، تدين فيها سياسة إدارة بوش في العراق بأنها الأكثر ضلالا منذ فترة الحرب على فيـيتـنام. وتطلب تغيير نهج سياسة أمريكا الأمنية.

10- بعد خمس سنوات كيف فشلت أمريكا في مكافحة الإرهاب؟

 أمريكا واقعة اليوم في "حيص بيص". فهي لا تستطيع أن تنسحب من العراق ولا من أفغانستان، وفي نفس الوقت فإن استمرار وجودها يكلفها خسائر لا يمكن أن تتحملها. لذلك هناك شبه إجماع على أن سياستها في مكافحة "الإرهاب" قد فشلت. ويتجلى هذا الفشل في مجالات كثيرة منها:

 1- مازال معظم رؤوس "منظمة القاعدة" الأساسيين طلقاء، يتحدون الولايات المتحدة وإداراتها، وينذرونها بالويل والثبور، ويظهرون على شاشات الفضائيات ويتحدثون إلى الناس عن طريق الانترنيت. مثلا، ظهر أيمن الظواهري مرتين خلال الأسبوع الذي سبق 11سبتمبر. ولو فرضنا جدلا أن أمريكا استطاعت القضاء على تلك القيادات، فستحل محلها قيادات أخرى حالا، تماما كما حدث بعد مقتل الزرقاوي. وسيظهر جيل ثان وثالث ورابع من القيادات، على الأرجح، ذلك لأن الإدارة الأمريكية لم تحفل بمعالجة أصل المشكلة التي تتركز في إعادة النظر في سياستها الخارجية، وفي تجبرها وعنجهيتها التي أضرتها فأوصلتها إلى ما هي فيه من ورطة لا تدري كيف تخرج منها. فالمشكلة ليست في ابن لادن والظواهري والملا عمر، بل في الإدارة الأمريكية نفسها. ومع ذلك فإن الإدارة الأمريكية ما تزال تهتم وتطبل لأن هناك أخبارا سارة عن وفاة أسامة بن لادن. وكأن الإرهاب سيتوقف بعده، وهذا يدل على مدى جهل تلك الإدارة، إما بفهم أس الإشكالية، أو بتجاهلها عمدا أ وإهمالا.

2- أصبحت أمريكا وبريطانيا معرضة لأعمال الإرهاب اليوم أكثر من أي وقت مضى. ويكاد يتفق معظم الخبراء، بمن فيهم الكثير من المسؤولين، أن أمريكا ستتعرض عاجلا أو آجلا إلى هجوم قد يكون أكبر من الهجوم السابق. لذلك يعيش معظم الأمريكان، لاسيما في المدن الكبرى، أو القريبين من مراكز المفاعلات النووية، ومستودعات الطاقة الكبرى وغيرها من المنشآت المهمة، في قلق مقيم. خاصة بعد أن اكتشفت الخطة الجهنمية لاختطاف وتفجير عدة طائرات أمريكية متوجهة من لندن إلى أمريكا. ويعترف المسؤولون الأمريكان أنهم غير قادرين على ضمان الحماية الكاملة للأراضي الأمريكية، لاستحالة ذلك. وأصبح المواطن الأمريكي يشعر بالخطر حتى في حياته العادية وتنقلاته الجوية أو لدى مروره على الجسور وداخل الأنفاق، وفي البنايات الكبرى التي يعمل أو يعيش فيها عادة.

3- يكاد يتفق الخبراء على أن "القاعدة "، أصبحت اليوم أكثر قوة ومنعة من أي وقت مضى. فبالإضافة إلى ما تبثه قياداتها بين فترة وأخرى من رسائل وصور، متحدية أعداءها، ولاسيما أمريكا، فإنها قامت بعمليات هجومية جريئة أدت إلى مقتل العديد من القوات البريطانية والأمريكية، ولاسيما العملية الأخيرة التي أفغانستان والعراق التي أودت بحياة العشرات من القوات الأمريكية وقوات التحالف.

4- وتضاعفت قوة "القاعدة" عن طريق انتماء عدد غير معروف من الأعضاء المتحمسين والمنتشرين في كل ركن من أركان العالم، وخاصة في أوروبا وأمريكا. وذلك دون أن يرتبطوا ارتباطا مباشرا بقيادة "القاعدة"، أو يتسلمون أوامرهم منها، بأي شكل من الأشكال، مما يضاعف محنة أمريكا والأخطار المحيقة بها. وهكذا أصبحت القاعدة منظمة عنكبوتية يوجد أعضاؤها في كل مكان وهم ينتمون إليها روحيا وعقائديا، ويستوحون منها وسائل القتال. ويحدث ذلك نتيجة لاقتناع عدد من هؤلاء الأعضاء بالوسائل التي تتبعها القاعدة في المقاومة، ونتيجة اليأس الذي يشعرون به من عدم وجود أي طريقة أخرى لمقاومة السياسة الأمريكية الخاطئة.

من كل ذلك يبدو بوضوح أن أمريكا تخلق أعداءها وتشجعهم على مقاومتها وبذلك تدمر نفسها بنفسها. وهذا يذكرني بقول الشاعر:

لا يُدرك الأعداءُ من جاهلٍ     ما يُدرك الجاهلُ من نفسه

و بعد مرور خمس سنوات، إذ ألاحظ أن أمريكا قتلت وشردت في العراق وأفغانستان مئات الألوف، مقابل هذه الكارثة التي قـُتل فيها قرابة 3000 إنسان، أتذكر قول جبران خليل جبران في" الأرواح المتمردة": "

 "أنقابل الشر بشر أعظم، ونقول هذه هي الشريعة. ونقابل الفساد بفساد أعم، ونهتف هذا هو الناموس. ونغالب الجريمة بجريمة أكبر، ونصرخ هذا هو العدل؟"

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 20/تشرين الأول/2011 - 22/ذو القعدة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م