المساواة... ركن الاستقرار في المجتمعات

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

شبكة النبأ: المساواة تعني في أبسط تعاريفها، أنها نظرة المسؤول الى الرعية بعين واحدة، لا تفرق بين هذا وذاك في شؤون الحياة كافة، وهي بذلك طريق واضح للعدالة الشاملة، كونها لا تتحدد بالكلام فقط، إنما الفعل على الارض هو الذي يثبت واقعية المساواة، وهو الذي يطوّر نتائحها نحو الافضل على الدوام.

الشعوب التي تصدرت ملامح المعاصرة والتطور، تنظر الى هذا الركن - المساواة- باهتمام بالغ، وتتعامل مع المساواة عل أنها منهج حياة لا يجوز التخلي عنه، وهناك منظومات عرفية وقيمية وقانونية ايضا، تحمي المساواة من الانتهاك سواء من لدن الحكام والمسؤولين كافة تجاه الافراد، او من لدن الافراد في تعاملهم بعضهم مع بعض، وبذا صارت المساواة معْلما مهما من معالم المجتمعات المعاصرة المستقرة المتطورة، والسبب دائما هو نهج التساوي بين الجميع، في الفرص التي تتعلق بشؤون العيش والحياة برمتها.

معيار المساواة

الحكام العظام تنبّهوا مبكرا الى أهمية هذا الركن، في حفظ التوازن المطلوب بين شرائح المجتمع، وتنبّهوا ايضا الى أهمية جعل المساواة، معيارا دقيقا في ادارة شؤون الناس، لهذا السبب بدأ الامام علي بن ابي طالب -عليه السلام- بتطبيق هذا الركن، في اوائل أيام تسلمه لقيادة الدولة الاسلامية، وهو الامر الذي أزعج المتنفذين الاقوياء في ذلك الوقت، وهم اولئك الذين يرون بأنهم اكبر وأهم من الآخرين، وأحق منهم بالتفضيل سواء بالمناصب والاموال او حتى الكلام.

لكن الامام علي عليه السلام كقائد إنموذج للدولة الاسلامية، كان له منهجه المعروف للجميع، حيث المساواة مبدأ حياة، لايمكن تجاوزه مهما كانت قوة المعترضين على تطبيقه، اذ من المعروف ان انتهاج هذا المبدأ يعني ضربا لمصالح ونفوذ الاقوياء والمتنفذين، وهؤلاء لن يقبلوا بالتساوي مع عامة الناس وفقراء الشعب، لكن الامر ليس بأيديهم ولا يخضع لرغباتهم وطموحاتهم.

يقول سماحة المرجع الديني، آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) في كتابه القيّم الموسوم بـ (السياسة من واقع الاسلام) بهذا الخصوص: لقد (بنى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام سياسته ـ كنبي الإسلام صلی الله عليه و آله ـ على المساواة العادلة بين مختلف أفراد الأمّة في تقسيم أموال الأمّة ـ التي هم فيها سواء ـ عليهم بالسوية..).

القاسم بالسوية

وبدا واضحا منذ البداية للجميع، لاسيما لأولئك الذين يرغبون بتفيضيلهم لذواتهم على الآخرين، أن الامام علي -عليه السلام- لن يحيد عن تطبيق المساواة كمنهج اسلامي انساني يحفظ للجميع حقوقهم من دون غبن او تجاوز، خاصة ما يتعلق بتوزيع الاموال على المسلمين، ويذكر سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الموضوع في كتابه نفسه: لقد كانت المساواة (من السمات البارزة له -عليه السلام- حتى ورد في عدّ صفاته النادرة في بعض زيارته: القاسم بالسوية، والعادل في الرعية-1-.

وتطبيق ذلك كلّف الإمام عليه السلام الكثير من المتاعب، والانشقاقات والحروب وتفرق بعض الرؤوس عنه. لكن أمير المؤمنين عليه السلام لم يعبأ بكل ذلك مقابل تطبيق الإسلام، تطبيقاً كاملاً).

نعم لابد أن يهبّ المتضررين من مبدأ المساواة، لمعارضة قائد الاسلام الامام علي –عليه السلام- والسبب واضح وضوح الشمس، أن المتنفذين كانوا يرون أنهم أحق من المسلمين الاخرين، لهذا كانوا يعترضون ويحتجون على سياسة المساواة، كونها تضعهم على مسافة واحدة مع عامة الشعب، وهو أمر لا يرتضونه، لذا قاموا بصنع الكثير من المتاعب والانشقاقات والحروب ضد قائد الدولة الاسلامية، أملا بتراجعه عن تطبيق سياسته التي تقضي بتساوي الجميع في ثروات الامة وفي فرص الحياة عموما، لكن النهج السياسي للامام علي –عليه السلام- كان امتدادا لحكومة الرسول الاكرم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولم يكن يعنيهم قط أن المساواة ترتقي بالامة الى مصاف عليا، بل كان همهم مصالحهم التي جعلوها فوق كل نظام او اعتبار.

البداية بالنفس

ولعل من أعظم وأهم العوامل التي آزرت سياسة الامام علي -عليه السلام-، وعاضدت منهجه في المساواة، وتطبيقها على المسلمين جميعا، أنه بدأ بنفسه أولا، فكان القائد الاعلى للدولة الاسلامية، لا يختلف في المنافع والاموال وما شابه، عن أبسط الناس منزلة، وهذه هي الخطوة الجبارة التي قوَّضت دسائس وخبث المعارضين واستقطت حججهم واعتراضاتهم.

فيذكر لنا سماحة المرجع الشيرازي في هذا الصدد قائلا: لقد (بدأ أمير المؤمنين عليه السلام في المساواة بنفسه الكريمة أوّلاً، ثم طبقّها على غيره، لكي لا يكون للناس حجّة).

ولهذا لم ينجح المعارضون لسياسة المساواة، ويتضح ذلك مما ذكره لنا سماحة المرجع الشيرازي، إذ نقرأ في المجال نفسه: لقد امتعض (طلحة والزبير لصنع أمير المؤمنين عليه السلام معهما في المساواة بينهما وبين غيرهما من المسلمين في العطاء، وناقشا أمير المؤمنين عليه السلام في ذلك، ولكن الحق كان أقوى منهما، وأولى بالاتباع في منطق أمير المؤمنين عليه السلام. نُقل في - مناقب آل أبي طالب- عن أبي الهيثم بن التيهان، وعبد الله بن أبي رافع قالا: إنّ طلحة والزبير جاءا إلى أمير المؤمنين عليه السلام وقالا: ليس كذلك كان يعطينا عمر.

قال عليه السلام : فما كان يعطيكما رسول الله صلی الله عليه و آله؟ فسكتا! قال عليه السلام : أليس كان رسول الله صلی الله عليه و آله يقسم بالسوية بين المسلمين؟ قالا: نعم. قال عليه السلام : فسنّة رسول الله صلی الله عليه و آله أولى بالاتباع عندكم أم سنّة عمر؟).

تجاوزات حكّام العصر الراهن

هكذا كانت السيرة العلوية مؤطرة بحقائق لا تقبل اللبس قط، حيث الوقائع تثبت اثباتا قاطعا، بأن مبدأ المساواة لم يكن للكلام فقط، او الاستهلاك الشعبي من اجل تخدير الناس، وإشغالهم عن المطالبة بحقوقهم، كما يفعل حكام الحاضر، الذي يدّعون الاسلام ويضعونه دينا رسميا لدولهم، لكنهم في حقيقة الامر لا يطبقون من الاسلام شيئا، بل يتخذون منه ذريعة لتمرير مشاريعهم وحماية مصالحهم، وهم بذلك يخطئون بحق أنفسهم، ويرتكبون أشد الاضرار والمحرمات بحق شعوبهم، متناسين السيرة العظيمة لقادة الاسلام العظام، الرسول الاعظم، صلى الله عليه وآله وسلم، وابن عمه الامام علي بن ابي طالب -عليه السلام- حامل السيرة التي تشرّفت بها الانسانية على مدى الازمان والدهور المتتابعة.

لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي بكتابه نفسه: (وهكذا جرت سيرة علي أمير المؤمنين -عليه السلام- لتكون نبراساً للأجيال الصاعدة وأملاً للمظلومين والمستضعفين، وكبحاً لجماح المستكبرين والطغاة، فلا يفضل غني على فقير، ولا أبيض على أسود، ولا عربي على عجمي، ولا شريف على وضيع.. إلا عند الله في القيامة بالتقوى.. لا بالمال في العطاء الذي جعلهم الله فيه سواءً في الدنيا).

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 13/تشرين الأول/2011 - 15/ذو القعدة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م