الشيخ المفيد... علم من علوم المعرفة ومصدر العطاء

إعداد: عبدالأمير رويح

 

شبكة النبأ: مفخرة من مفاخر الدنيا وعلم من أعلامها عرف بالتقوى والاجتهاد فأصبح نجما لامعا من نجوم المعرفة يستدل به طلبة العلم، أعطى الكثير ولازالت مدرسة تعطي وتعطي رغم كل تلك القرون، لذلك هو محمَّد بن محمَّد بن النعمان بن عبد السَّلام بن جابر بن النعمان ابن سعيد بن جبير الحارثي العكبري ثمّ يصل نسبه إلى يَعرُب بن قحطان.. كما ذكر النجاشيّ في (رجاله ص 311).

 ويُكنّى ب. أبي عبد الله ويُعرف بابن المعلِّم.. هكذا قال الشيخ الطوسيّ في (الفهرست 157.158). وقد علّق الشيخ آغا بزرگ الطهرانيّ في كتابه (النابس في أعلام القرن الخامس ص 186. من سلسلة طبقات أعلام الشيعة) بالقول: هو الشيخ السعيد أبو عبد الله المفيد، الشهير في أوائل أمره ب. (ابن المعلّم) لأن أباه كان معلّماً بواسط.

وعرف واشتهر بالمفيد، وهو أحد علماء الإمامية ومتكلّميها ولد في قرية عكبرا على بُعد عشرة فراسخ من بغداد سنة 336ه.، وقيل سنة 338ه..

ألقابه

اشتهر الشيخ المفيد بعدة القاب كان منها العُكبُريّ، والبغداديّ، والحارثيّ. ولكنّ الشهرة العلّمية هي (المفيد)، قال الشيخ آغا بزرگ الطهرانيّ: لقّبه أُستاذه عليّ بن عيسى الرمّانيّ ب. (المفيد)، كما في كتاب (تنبيه الخواطر ونزهة الناظر) لورّام. لكنّ ابن شهر آشوب يرى أنّ الإمام الحجّة المهديّ عليه السّلام هو الذي لقّبه بهذا اللقب، كما جاء في رسائله الشريفة الثلاث التي كتبها عليه السّلام، هكذا ذكر يحيى بن البِطريق الحليّ، وكان نسخة عنوان الكتاب إليه: للأخ السديد، والوليّ الرشيد، الشيخ المفيد.

مولده ونشأته

ذكر الشيخ المجلسيّ له تأريخين في مولده، فقال: وُلد قدّس الله نفسه حادي عشر ذي القعدة (أي في ذكرى مولد الإمام الرضا عليه السّلام)، سنة 336 هجريّة، وقيل: سنة 338.
وقال الطهرانيّ: ولادته بقرية تُدعى (سويقة ابن البصريّ) تتفرّع عن عُكبرى شماليّ بغداد 11/ ذي القعدة، إمّا عام 338 هجريّة. كما ذكر ابن النديم (ص 197 من الفهرست). فيكون عمره 75 سنة، أو عام 336 هجريّة. كما في رجال النجاشيّ. فيكون عمره 77 سنة.
وقال الشيخ ورّام بن أبي فراس المالكيّ الأشتريّ: إنّ الشيخ المفيد كان من أهل عُكبر، ثمّ انحدر وهو صبيّ. مع أبيه إلى بغداد، واشتغل بالقراءة على الشيخ أبي عبد الله المعروف ب. (جُعَل). وكان منزله في (درب رياح) ببغداد، وبعد ذلك اشتغل بالدرس عند أبي ياسر في باب خراسان من البلدة المذكورة (بغداد).

وتتلمذ الشيخ المفيد على يد كبار العلماء والشيوخ في ذلك العصر وبرزت مواهبه وهو لا يزال في دور التلمذة، حتّى أعجب به كبار أساتذته فدفعهم ذلك الى ان يلقبوه بالمفيد.

أخذ العلم وروى عن جماعة من الأعلام، منهم أبو القاسم جعفر بن محمد بن قولويه القمي، وأبو جعفر بن بابويه الشهير بالصدوق، وأبو الحسن أحمد بن محمد بن الوليد القمي، وأبو غالب الزراري، وأبو علي بن الجنيد، وأبو علي عبد الله محمد بن عمران المرزبان، وأبو بكر الجعاربي، وأبو عبد الله الحسين بن علي بن إبراهيم.

ويعد الشيخ المفيد أحد أوائل متكلمي الإمامية الذين وضعوا اللبنات الأولى لهذا المذهب واستخدموا الدليل العقلي في مجمل الأمور للتدليل على صحة مذهبهم.

وبلغ المفيد مرتبةً علمية عالية حتّى انتهت إليه رئاسة المذهب الشيعي الإمامي في وقته فكان بارعاً في الكلام والجدل والفقه وكان يناظر أهل كلّ عقيدة حتى عدّ من أبرز أعلام عصره في فن المناظرة.

عاصر بعض حكام بني بويه، فكانت له في هذه الدولة مكانة عظيمة خاصة من جانب عضد الدولة البويهي الذي كان يجلُّ الشيخ كثيراً حتّى إنَّه كان يزوره في داره ويعوده إذا مرض.

زخر عصره بالأحداث والمحن خاصة بالنسبة إلى الشيعة في الكرخ وباب الطاق في بغداد حيث كانت هذه المواقع مسرحاً لكثير من الرزايا والبلايا وقد تعرضت للحرق والنهب عشرات المرات، فضلاً عن قتل وحرق الرجال والصبيان والنساء، وذلك إبان الاحتفالات بعاشوراء أو يوم الغدير.

وتعرض للنفي من بغداد على أثر حوادث شغب التي حصلت سنة 392ه.، حيث كان قد زاد نشاط الشطار، فقتلوا وبدّعوا وأضلوا، ما دفع بهاء الدولة إلى تسيير عميد الجيوش إلى العراق لإعادة الأمور إلى مجراها الطبيعي كما تعرض للنفي ثانيةً في سنة 395ه..

منهجه وعلومه

كان الشيخ المفيد يتعامل مع كلِّ ما يريد أن يقدِّمه للآخرين، وكل ما يورده الآخرون عليه، بحسب ما يراه من الأدلة صالحاً ومقنعاً، ومعذراً له في الإقدام أو الإحجام، حتى إذا تبين له عدم صلاحيّته وكفايته، تدارك ذلك بالبحث عمّا هو أوضح وأجلى وأتم، وكان لا يجد حرجاً في أن يسلّم للرأي الآخر إذا كان ذلك الرأي يملك الدليل السوي، والبرهان القوي.

كان واسع الأفق، غزير المعارف، سبر أغوار العلوم الإسلامية على اختلافها، حتى ليقال: "إنه كان كثير المطالعة والتعليم، ومن أحفظ الناس" وقيل: "إنه ما ترك للمخالفين كتاباً إلاّ حفظه...".

اطّلع على العلوم المتداولة في ذلك العصر، وتتبّعها ولاحقها، ومارسها حتى أصبح لديه ملكة علمية راسخة، تتمّيز بالدقّة والعمق، فجاءت نصوصه على درجة من الخلوص والصفاء، صقلتها حساسية القضايا.

هذه الحساسية تجاه تلك القضايا، أسهمت في تعميق جذور ثقافة المفيد، ووسّعت من آفاقها، فكان المحاور للآخر دون أن يشعر بالحرج أو يحس بالضعف، أو يوجس في نفسه أدنى خيفة أو تردد، وكان "يناظر أهل كل عقيدة مع الجلالة والعظمة في الدولة البويهية".

وبعبارة أخرى، كان موسوعةً جامعةً لكل العلوم والفنون، فكان الفقيه المدقق، المؤرخ المحقق، الكلامي اللامع، المناظر البارع والمصنف، إلى جانب كونه رجالياً محدثاً، عالماً بالتفسير، وعلوم القرآن، وأصول الفقه، وغير ذلك من العلوم الإسلامية المتداولة في عصره. ولا نبالغ إن قلنا إنه قد سبق عصره بأشواط ومراحل كبيرة وكثيرة، حتى قال عنه البعض: "كان أوحد في جميع فنون العلم: الأصول والفقه، والأخبار، ومعرفة الرجال، والتفسير والنحو والشعر". ومما جاء في وصفه أيضاً: "رئيس الكلام والفقه والجدل".

قال الشيخ النجاشي: «فضله أشهر من أن يوصف في الفقه والكلام والرِّواية، والثقة والعلم».

وقال الذهبي: «كانت له جلالة عظيمة، وتقدّم في العلم، مع خشوع، وتعبّد، وتألّه».

ولكن بالرغم من ذلك، لم يسلم المفيد من النقد والتجريح من قبل مخالفيه..

تلامذته

بلغ عدد تلامذة الشيخ من الفقهاء والمجتهدين وعلماء الشيعة أكثر من 300 وقد حضر عنده أيضاً المئات من علماء أهل السنة حيث كان منزله في الكرخ ملاذا لعلماء المسلمين.

وينقل صاحب الأعيان في المجلد التاسع فيقول: ولتوضيح مدى الجهود التي بذلها المفيد في سبيل التفقه والتعلم نورد فيما يأتي ثبتاً بأسماء الرجال الذين قرأ عليهم واتصل بهم واتصلوا به ويذكر العلامة الأمين، طائفة من الأسماء وصلت إلى ستة وخمسين اسماً ثم يذكر العلامة أبرز تلامذته أمثال الشريف الرضي محمد بن الحسين المتوفى سنة406ه. والشريف المرتضى علي بن الحسين المتوفى سنة 436ه. وسالار بن عبد العزيز الديلمي المتوفى سنة 448ه. ومحمد بن علي الكراجكي المتوفى سنة 449ه. واحمد بن علي النجاشي المتوفى سنة 450ه. والشيخ الطوسي محمد بن الحسن المتوفى سنة460ه. ومحمد بن الحسن بن حمزة الجعفري المتوفى سنة 463ه. وكثيرين غيرهم.

وتنقل لنا المصادر إن الشيخ المفيد رأى في المنام ذات ليلة إن سيدة جليلة القدر بهية الطلعة وقد عرفها بانها الصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وهي مقبلة صوبه ممسكة باحد يديها الحسن وبالأخرى الحسين (عليهما السلام)، وتوجهت اليه بالخطاب: أريد أن تعلم ولداي العلوم الدينية، يقول: تعجبّت من هذا المنام، فكيف بي أعلم سيدي شباب أهل الجنة. وفي غداة اليوم رأيت إمرأة محتشمة عليها سيماء الوقار تمسك بكلتا يديها ابنيها، فقال ما شأنك؟ قالت أريد ان تعلم ولداي هذان، ثم عرف فيما أنهما السيدين الشريف الرضي والشريف المرتضى، فما كان منه إلا أن أجهش بالبكاء، وقبلهما على الفور، شاكراً هذه اللالتفاتة الكريمة من أهل البيت (عليهم السلام) والعناية لعلماء الدين.

مؤلفاته

بلغت كتب الشيخ المفيد ما يقرب من مئتَي مؤلَّف ومصنّف، صغير وكبير، منها: المُقنِعة. في الفقه، الأركان. في الفقه، الإرشاد لمن طلب الرشاد، الإيضاح. في الإمامة، الإفصاح، المسائل الصاغانيّة، العيون والمحاسن، النُّصرة لسيّد العترة، الاختصاص، المجالس، أوائل المقالات،... إلى عشرات الكتب والرسائل والشروح ذكرها الشيخ الطوسيّ في (الفهرست) ثمّ قال: سمعنا منه هذه الكتب كلّها، بعضها قراءة عليه... فيما عدّد النجاشيّ (في رجاله) 174 كتاباً ورسالةً وجواباً، في أبواب: الفقه والأحكام، والسيرة والكلام، والردّ على أهل الضلال.. وغير ذلك.

بعض أقوال العلماء بحق الشيخ المفيد

لقد كان الشيخ المفيد من علماء القرن الثالث الهجري مع بضع سنوات من القرن الرابع الهجري وحيث كانت أوضاع المسلمين في ذلك الوقت تمر في انتكاسات وفتن ومشاكل سياسية واجتماعية كان موقف الشيخ المفيد إزاء هذه التطورات موقف المدافع عن حريه الإسلام ومفاهيمه وقيمه وكان معروفاً بحنكته على المناظرة حتى قال عنه أبو بكر الباقلاني إن لك من كل قِدْر غرفة بعد ما افحمه الشيخ المفيد في مناظرة جرت بينهما فكان خبيراً بالكلام دقيقاً في مسائله قوياً ببرهانه فكان حرياً من العلماء أن يشيدوا به في مصنفاتهم.

يقول الشيخ النجاشي: شيخنا واستاذنا رضي الله عنه وفضله اشهر من أن يوصف في الفقه والكلام والرواية والثقة والعلم ثم عدد له نحواً من ثمانية عشر مصنفاً في الفقه والاصول والكلام وغيرها.

وقال العلامة الحلي في حقه كما جاء عن صاحب الأعيان: من أجلّ مشايخ الشيعة ورئيسهم واستاذهم وكل من تأخر عنه استفاد منه وفضله اشهر من أن يوصف في الفقه والكلام والرواية اوثق أهل زمانه واعلمهم انتهت رئاسة الامامية إليه في وقته وكان حسن الخاطر دقيق الفطنة حاضر الجواب له قريب من مائتي مصنف كبار وصغار وقال الشيخ - الطوسي - انتهت رئاسة الإمامية في وقته إليه في العلم وكان مقدماً في صناعة الكلام وكان فقيهاً متقدماً في حسن الخاطر واثنى عليه ابن كثير الشامي في تاريخه ثناءً بليغاً عجيباً وقال انه شيّعه يوم وفاته ثمانون الفاً وقال عنه أبو حيان التوحيدي وأما ابن المعلم فحسن اللسان والجدل صبور على الخصم كثير الحيلة ضنين السر جميل العلانية ورغم كراهية بعض العلماء له إلا انه لم يمنعهم ذلك من الثناء عليه والاشادة به فهذا الخطيب البغدادي المعروف بعدائه للامامية يقول في حق الشيخ المفيد (شيخ الرافضة والمتعلم على مذهبهم وصنف كتباً كثيرة).

أما ابن حجر العسقلاني فيقول: كان كثير التقشف والتخشع والاكباب على العلم وبرع في مقالات الإمامية حتى كان يقال له على كل امامي منة وقال ابن ثغري: فقيه الشيعة وشيخ الرافضة عالمها ومصنف الكتب في مذهبها وأما اليافعي فذكر في مرآة الجنان: توفي سنة ثلاث عشر واربعمائة عالم الشيعة صاحب التصانيف الكثيرة شيخهم المعروف بالمفيد وبابن المعلم البارع في الكلام والفقه والجدل وكان يناظر كل عقيدة بالجلالة والعظمة ومقدماً في الدولة البويهية.

وقال ابن طي: كان كثير الصدقات عظيم الخشوع كثير الصلاة حسن اللباس وكان عضد الدولة ربما زار الشيخ المفيد وكان شيخاً ربعة نحيفاً اسمر وجاء في الفهرست لابن النديم انه قال: ابن المعلم أبو عبد الله في عصرنا انتهت إليه رئاسة متكلمي الشيعة مقدم في صناعة الكلام على مذهب أصحابه دقيق الفطنة ماضي الخاطر شاهدته فرأيته بارعاً وأما ما ينقله السيد مهدي بحر العلوم فيقول: هو شيخ المشايخ الأجلة ورئيس رؤساء الملة اتفق الجميع على علمه وفضله وعدالته وثقته وجلالته وقال السيد هبة الشهرستاني هو - الشيخ المفيد - نابغة العراق ونادرة الآفاق غرة المصلحين واستاذ المحققين ركن النهضة العلمية في المائة الرابعة الهجرية آية الله في العوالم معلم الأعاظم وابن المعلم.

وفاته

توفي المفيد ببغداد في اليوم الرابع من شهر رمضان المبارك سنة 413ه.، وصلي عليه السيد الشريف المرتضي بحضور أعداد كبيرة من الناس، وكان يوم وفاته يوماً مشهوداً حيث بكاه جميع الناس المؤالف والمخالف، ودفن إلى جوار قبر الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) الواقع في مدينة الكاظمية المقدسة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 11/تشرين الأول/2011 - 13/ذو القعدة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م