الشرطة العراقية من (المدننة) الى (العسكرة)

رياض هاني بهار

أتيحت لي الفرصة للاطلاع على أنظمة الشرطة بالعالم عندما كنت مديراً لأنتربول بغداد، وخلاصة مشاهداتي وقراءاتي أن تشكيلات الشرطة في دول العالم المتحضر تسير باتجاه المدننة (Urbanization) أما الانظمة الشمولية والمتخلفة والدكتاتورية او المحكومة من قبل العسكر فإنها تميل الى (عسكرة أجهزة الشرطة) (militarization of the police).

 وبنظرة سريعة لتاريخ الشرطة العراقية، نلاحظ بأن هذه المؤسسة كانت مدنية عنذ نشأتها مع تشكيل الحكومة العراقية 1921 ولغاية عام 1969 حيث كانت بداية عسكرتها من خلال (عسكرة رتبها) و(عسكرة قوانينها) وبالتالي (عسكرة سلوكها من المدني الى خشونة وصرامة السلوك العسكري)، فقد كانت الشرطة قبل صدور قانون 1969 تخضع لذات ضوابط ونظم الخدمة المدنية، وإنضباط موظفي الدولة. وكانت رتب ضباطها تتلائم مع التسميات الوظيفية المدنية (معاون مدير شرطة، مدير شرطة، الخ..).

 وسأعرض بشكل موجز التحولات الكبيرة التي حصلت في الجهاز بالإنتقال من المهام الاساسية، الى غياب المهام الحقيقية للشرطة، بحيث لم يتم التفريق بين السياسة الدفاعية عن السياسة الامنية عن السياسة الجنائية بسبب غياب المهنية والعمل الاحترافي واستحواذ مؤسسة على مؤسسة اخرى. وبتقديري انها الفوضى في المهام.

 ان تكريس المفاهيم والقيم العسكرية في جهاز الشرطة كانت اكبر كارثة، حيث أنّ المهام المحددة لوزارة الداخلية من خلال قوانينها تهدف بشكل عام الى "تنفيذ السياسة العامة للدولة في حفظ الأمن الداخلي لجمهورية العراق وتوطيد النظام العام وحماية الحقوق الدستورية"، وبشكل خاص تهدف إلى "حماية أرواح الناس وحرياتهم والأموال العامة والخاصة وضمان سلامتها من اي خطر يهددها ومنع ارتكاب الجرائم واتخاذ الإجراءات القانونية بحق مرتكبيها" والسعي لانجاز التشريعات من اجل تأطير الأداء بالنص القانوني، وكان الدستور العراقي ينص على:

 (اولا أـ تتكون القوات المسلحة العراقية والاجهزة الامنية من مكونات الشعب العراقي، بما يراعي توازنها وتماثلها دون تمييزٍ او اقصاء، وتخضع لقيادة السلطة المدنية، وتدافع عن العراق، ولا تكون أداةً لقمع الشعب العراقي، ولا تتدخل في الشؤون السياسية، ولا دور لها في تداول السلطة.)

 اما قــانون وزارة الداخـلــــية لاقـلـــــيم كــوردســـتان ـ العــــراق رقم (6) لسـنة 2009 المادة 2 منه فقد حددت أهداف ومهام الوزارة تتولى الوزارة تحقيق الاهداف والمهام التالية:

أولاً: تنفيذ السياسة العامة لحكومة الاقليم والمحافظة على وحدته وحماية امنة الداخلي.

ثانياً: العمل على تطبيق مبدأ سيادة القانون والمحافظة على النظام العام وحماية الاموال العامة والخاصة.

ثالثاً: العمل من اجل حماية وضمان ممارسة الحريات الديمقراطية و حقوق الانسان وتجسيد دور مؤسسات المجتمع المدني في الاقليم.

رابعاً: العمل على منع وقوع الجريمة والعنف ضد المرأة ومكافحته بهدف تحقيق الامن والاستقرار والسلامة العامة.

خامساً: التعاون والتنسيق مع الوزارات و المرافق العامة المختصة بشأن المهام والواجبات المتعلقة بحماية الامن وحفظ النظام العام والتنسيق مع وزارة الداخلية الاتحادية أو أية منظمة عراقية أو دولية ضمن اختصاصات الوزارة.

سادساً: نشر الوعي الثقافي والامني وخلق مناخ آمن بين قوى الامن الداخلي مع مختلف فئات المجتمع المدني والافراد لتوجيههم بالتعاون والتنسيق لحماية المصلحة العامة المشتركة.

سابعاً: رعاية النازحين والمهجرين والمرحلين واللاجئين والسعي لتحسين اوضاعهم وتقديم الحلول وتوفير الخدمات و التنسيق مع الوزارات و الجهات المعنية بشأنهم.

 ويُعَدّ جهاز الشرطة في أي دولة هو المُنفّذ لقرارات السلطة التنفيذية ويكلف في أحيان كثيرة بأداء واجبات قضائية وإدارية تكلفه بها الأجهزة القضائية (المحاكم على اختلاف أنواعها ) أو السلطات الإدارية (رئيس الوزراء والوزراء و المحافظين والقائممقامين ومدراء النواحي) وقد نصت المادة (1) من قانون واجبات رجل الشرطة في مكافحة الجريمة رقم (176) لسنة 1980 على أن (تختص قوى الأمن الداخلي بالمحافظة على النظام والأمن الداخلي، ومنع ارتكاب الجرائم، وتعقيب مرتكبيها، والقبض عليهم، والقيام بالمراقبة المقتضاة لها، وحماية الأنفس والأموال، وجمع المعلومات المتعلقة بأمن الدولة الداخلي وسياستها العامة، وضمان تنفيذ الواجبات التي تفرضها عليها القوانين والأنظمة)، وجاء تفسير المقصود بقوى الأمن الداخلي في الفقرة (5) من المادة الأولى من قانون الخدمة والتقاعد لقوى الأمن الداخلي رقم (1) لسنة 1978 بأنها (الشرطة والأمن والجنسية والمرور).

 وينبغي لكلِّ مجتمع أن يتجهز بجهاز شرطة يكلِّفه بمهمةَ "حفظ النظام" و"فرض احترام القانون". وإن كلمة police "شُرْطة" الأصلَ الاشتقاقي نفسَة لكلمة politique "سياسة"، وهي ذات صلة بحُكْم "المدينة" polis باليونانية. فمرمى العمل الشُّرَطي، كمرمى العمل السياسي، هو إحلال السلام في الحياة الاجتماعية، أي بناء مجتمع متحرر من سطوة العنف. ووظيفة الشرطة هي المساهمة في ضمانة حريات المواطنين وفرض احترام حقوقهم وضمان أمنهم. وينبغي على عناصر الشرطة أن يكونوا حرفيًّا "عناصر سلام"، أي أنهم ينبغي أن "يصنعوا السلام" بين الأفراد والجماعات التي تعيش في المدينة نفسها. لذا ينبغي على الشرطة تحييدُ مثيري العنف وكفُّ أذاهم. إنَّ وظيفة الشرطة هي أساسًا وظيفة "مضادة للعنف"، وينبغي إذنْ إعمال الوسائل الأكثر فعالية لبلوغ الغاية المنشودة. والوسائل الأنسب لصنع السلام هي وسائل "سلمية". نقع هنا على مبدأ فعالية إستراتيجية العمل اللاعنفي: ينبغي على الوسائل المعمول بها أن تنسجم مع الغاية وأن تتناغم معها.

إذًا فالمهمة الرئيسية للشرطة هي درء النزاعات، وحلها عند الاقتضاء، وذلك باللجوء إلى الطرائق اللاعنفية للتوسط والوساطة والمصالحة. لذا فمن الضرورة الماسة أن يتضمن التأهيلُ المقدَّم في مدارس الشرطة تدريبًا على هذه الطرائق كلما كان ذلك ممكنًا.

وقد وجدنا أن منطق وزارة الداخلية في العراق بالصورة التي نراها هو أن "الأمن قوة ضاربة"، وهو مفهوم لا علاقة له بفكرة الشرطة في الدول المدنية المتحضرة، ففي الدول الغربية نجد أن دور الشرطة لايقتصر على تحقيق الأمن ولكن المساعدة على تنفيذ قرارات العدالة (enforcement). فالأساس هو القانون الذي تنفذه الشرطة. أي منطق الدولة وهو الدستور والقانون، ودور الشرطة أنها أداة من أدوات تنفيذ القوانين. أما في العراق وفي ظل الديكتاتوريات المتعاقبة منذ يوليو (تموز) 1958 نجد أن الشرطة قد تحولت إلى قوة شبة عسكرية، والتدريب العسكري الذي تتلقاة قوى الأمن الداخلي يأخذها بعيداً عن دور الشرطة ليجعلها تمارس دور الجيوش. حيث الجيوش لها عقيدة، وفي الغالب تتنوع من دولة إلى دولة، ولكن القاسم المشترك بينها هو استخدام العنف ضد الأعداء لحماية أمن الوطن.

العسكرة (militarization) هنا هي غير العسكرتارية، فالعسكرتارية (militarism) هي حكومة العسكر، او "سلطات الجند"، وهي مظهر عسكري للحكم الاستبدادي، من أشكاله الاجتماعية والتاريخية: هيمنة الجند على السلطة المركزية دون تحمل مسؤولياتها مباشرة.- كما وان من مظاهرها– سيطرة الجيش على مؤسسات الدولة الاخرى، لاسيما التشريعية والاجرائية والقضائية، بإنقلاب، وسرعان ما يسمى ثورة أو حركة انقاذ او خلاص...الخ ، واما (العسكرة) فهي عملية إلباس المجتمع لباس العسكر وتحويل وتنميط سلوكة الى سلوك عسكري يختلف عن الطابع المدني او العادي في الغالب، وتعد العسكرة أحد أوجه وحلقات الانظمة الشمولية واشاعة الشعارات والاناشيد التي تمجد الحياة العسكرية ومظاهرها، كما ان هناك تقليد اسبوعي يتم تطبيقه في المدارس الابتدائية والثانوية والمهنية يتمثل بإطلاق الرصاص في الاصطفاف (أو الطابور) الاسبوعي للتلاميذ، ويدرب الطلبة (بنين وبنات) عادة على تنفيذ هذه الممارسات، ويتم بث وتجريع الروح العسكرية وتشريبها لهؤلاء التلاميذ اضافة الى تلقينهم مقولات رأس النظام، حيث يلزم التلاميذ بحفظ مقولات نابعة من قيم بدوية ومفاهيم قبلية تنشئ الجيل الجديد على سلوك (التنمر) العدواني، والبعيد عن المفاهيم الحضارية والانسانية.

 وقد منح الكثير من الاشخاص المدنيين الذين يتمتعون بمؤهلات علمية رتبا عسكرية مثل الاطباء التكنوقراط، والمهندسين والاعلاميين وغير ذلك. الامر الذي يعني عسكرة سلوكهم المهني والحياتي من جانب واخضاعهم لسلم (الطاعة) التسلطي الذي يرغبه رأس النظام محاولة ترويضهم وتطويعهم نتيجة هوسه بالهاجس الامني وريبته المستمرة حتى من أقرب المقربين منه، وما ترتب عليه من صعوبة او ضعف الخدمات المقدمة بصورة عامة، ومعلوم ان النتيجة الطبيعة للعسكرة هي تخلف البنى الحياتية والحيوية الاخرى ولنا في كوريا الشمالية مثال حي على ذلك.

 لقد حدد أمر سلطة الائتلاف رقم 67 لسنة 2004 القسم 4 (المهمة والتنظيم) 3 منه (تكون مهمة وزارة الدفاع هي تأمين وحماية وضمان امن الحدود العراقية والدفاع عن العراق )..

نستطيع من خلال العرض للقوانين السارية آنفة الذكر أن نستخلص بأن الشرطة مهامها واضحة بمنع ومكافحة الجريمة والتصدي لفاعليها، بينما مهام الجيش تتركز في الدفاع عن الحدود العراقية، وان هناك اختلافا واضحا من حيث طبيعة المهام المناطة بكل واحدة من المؤسستين، ولاشك أن زحف الجيش على مهام الشرطة والانابة عنها، غاية من الخطورة لايدركها السياسيون الحاليون بالوقت الحاضر لانشغالهم بصراعات حزبية وشخصية.

 إن عسكرة الشرطة العراقية وتسلطها أدى إلى عسكر المجتمع برمته، فجعل العنف مكونا أساسيا في الشخصية العراقية. هذا المرض العضال لن ينتفي إلا بقرار يمنع الشرطة من استخدام رتب الجيش، وتغيير المسميات إلى مسميات عالمية للشرطة، هنا تنتهي الهالة المحيطة بلواء الشرطة، وتنتهي الرغبة العارمة في المجتمع في التسلط. البداية تبدأ من تفكيك الجيش الموازي، وتحويل قطاع الشرطة الوطنية إلى قوة صغيرة ولكن مدربة بمهارات عالية تستخدم فقط وقت الضرورات الأمنية القصوى مثل الـ«إف بي آي» أو الـ«إم آي فايف».

 إن الامن والنظام والسلم الاجتماعي لاتفرضه مظاهر العسكر واجواء الثكنات، وانما تفرضه وتضمنه الخطط والاجراءات المهنية والسليمة، مقترنا معها تسليح للدولة وفق مقتضيات ومتطلبات الامن الوطني للبلاد، دون ان يكون على حساب رفاهية وازدهار وتقدم وتنمية المجتمع علميا وثقافيا واقتصاديا.

 ولاشك في أنّ (تغول) القطاع الأمني بشكل مذهل في عهد (استيزار السيد البولاني) حيث أطلق على (وزارة الداخلية) تسمية (وزارة الدفاع الثانية) من باب التهكم والسخرية بما يحصل، بحيث أصبحت جيشا رديفا، فبينما تصل قوة الجيش العراقي العامل إلى 350 ألف فرد، نجد أن قوة الداخلية تجاوزت المليون اذا احتسبنا اقليم كردستان، أي أكبر من حجم الجيش بثلاث مرات وكانت اسبابها سياسية وانتخابية بعيدة عن اية مهنية لان الدائرة المحيطة به اغلبهم من العسكر، وان التشكيلات المستحدثة بوقته كانت ذات طابع عسكري، وإنَّ المعادين للخدمة من الجيش تبوأ اغلبهم مناصب قيادية بالشرطة. ففي حالات السيناريوهات السيئة جدا، وفي وجود قوتين بهذا الحجم في بلد واحد، ليس بمستبعد أبدا أن تحدث مواجهة بين القوتين لا سيما ان القوتين تنفذان مهام داخلية واحدة، إضافة لسوء إدارة الأمن واختيار قياداته مما سبب الخروقات والكوارث الامنية.

 ختاماً أقول وبصراحة ومهنية صرفة، إذا كنا جادين، في نقل العراق من مرحلة الديكتاتورية إلى أفق الديمقراطية، فلا يتم ذلك إلا من خلال تفكيك الجيش الموازي الذي بنته وزارة الداخلية، متمثلا في قوى الأمن المختلفة التي تجاوز تعدادها المليون، وإذا أضفنا إلى هذا العدد عائلات الضباط والمجندين وأقربائهم من المستفيدين، فنحن نتحدث عما يقرب من خمسة إلى سبعة ملايين عراقي مصالحهم مرتبطة ارتباطاً مباشراً بوزارة الداخلية بوضعها المتعسكر الحالي، ونقول بصراحة أن من الضروري إعادة العسكريين الى وزارة الدفاع، لتستفيد من خبراتهم وخدماتهم، أو إلى الشرطة الوطنية وافواج الطوارئ، كما لابد من زيادة القبول بكلية الشرطة العراقية، واعادة النظر بالتشريعات وجعلها بما يتوائم مع الدستور وحقوق الانسان والاتجاه الديمقراطي بالعراق، وتحديد واضح للسياسة الامنية والسياسة الدفاعية والسياسة الجنائية بعيدا عن العسكرة والتجييش، فالعسكر للدفاع والشرطة لفرض الأمن المدني في المجتمع.

* خبير بالشؤون الامنية والجنائية

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 11/تشرين الأول/2011 - 13/ذو القعدة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م