السياسة الجنائية في العراق.. من يرسمها؟

رياض هاني بهار

لفت انتباهي في كثير من ملتقيات الاصدقاء ممن يعملون بالسياسة أو ممن يشغلون مراكز قيادية بدوائر الامن العراقي الحالي، أو من البرلمانيين، أنهم لا يميّزون بين مفهومي: السياسة الامنية والسياسة الجنائية، وأنَّ هناك فقراً معرفياً بهذا الجانب، مما اضطرني أن أخصص مقالتي الحالية لذلك الموضوع.

 يمكننا تعريف السياسة الجنائية بصفة عامة بأنها: "مجموعة الوسائل والتدابير التي تُحدثها الدولة في حقبة زمنية معينة لمكافحة الجريمة وحفظ الأمن والاستقرار داخل ربوعها"، ويلاحظ في هذا الشأن أن هناك مفهومين للسياسة الجنائية أحدهما ضيق والآخر واسع، لكن قبل التطرق لهذين المفهومين، نورد تعريفا شاملا ومختصرا للسياسة الجنائية والذي يراها بأنها "ذلك الإطار النظري المحدد لكيفية حل الصراع الحتمي بين الجريمة والمجتمع".

 فالسياسة الجنائية بالمفهوم الضيق: هي "مجموعة الوسائل والتدابير التي ينبغي على الدولة تسخيرها لزجر الجريمة بأكبر قدر من الفعالية"، وبذلك فالمفهوم التقليدي للسياسة الجنائية ظل يتأرجح ما بين التجريم والعقاب من جهة، وما يتعلق بالتدابير والإجراءات المسطرية، حيث لا يخلو الأمر من معالجة ظاهرة الإجرام على المستويين الموضوعي والشكلي، فكلما تعلق الأمر بتجريم فعل أو تركه وتحديد العقاب المناسب له، إلا وكان مدار ذلك هو "القانون الجنائي"، وكلما تعلق الأمر بإجراءات البحث والمتابعة والمحاكمة والتنفيذ إلا وكان موضوع ذلك قانون الإجراءات الجنائية" أو مانسميه نحن في العراق "قانون اصول المحاكمات الجزائية".

 أما المفهوم الواسع للسياسة الجنائية والسائد في الوقت المعاصر، فهو لا يقتصر على مواجهة الجريمة بسن تشريعات جزائية وتشديد العقوبات، بل تجاوز الأمر إلى الاهتمام بالأسباب المؤدية إلى استفحال ظاهرة الإجرام بغية التصدي لها والحد من ارتفاعها، لأن القانون الجنائي فضلا عن طبيعته الفقهية Nature Jurisprudence التي تقتضي تكوين المشتغلين به تكوينا فقهيا يؤهلهم لمعرفة وتفسير قوانين العقوبات في الحدود المرسومة للعقاب، فهو أي القانون الجنائي: علم اجتماعي Social Science يدخل في مجموعة العلوم الجنائية Criminal Sciences والتي تبحث في أسباب الإجرام وطرق علاجه.

 لذا فإن السياسة الجنائية تُعنىَ بالمرحلة التي تسبق ارتكاب الجريمة وذلك من خلال سن سياسة وقائية شاملة من شأنها أن تحول دون وقوع الجرائم، وهذا الأمر يقتضي من الدولة اعتماد خطة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتحسين مستوى المعيشة لدى ساكنيها، فإجبارية التعليم من شأنها أن تحد من ظاهرة الأمية وانعدام الشعور بالمسؤولية والوعي لدى الناس، وتوفير السكن اللائق من شأنه هو الآخر أن يساهم في معالجة ظاهرة الإجرام، إذ الإحصائيات تفيد أن الجريمة تنبع من الأحياء الهامشية Marginalized districts التي لا تتوفر على أدنى شروط الصحة، ومحاربة الإدمان على الخمور والمخدرات والقضاء على دور الدعارة والفساد والقمار التي تعتبر سبباً رئيسياً في استفحال ظاهرة الإجرام.

وكذلك الاهتمام بالأطفال واليافعين لتحصينهم من الانحراف والانزلاق إلى عالم الرذيلة، إسوة بالمختلين عقليا وما يشكلونه من مخاطر على المجتمع حيث ينبغي التكفل بهم وتتبع حالاتهم إلى حين تماثلهم للشفاء الكامل.

 كما يدخل ضمن التدابير الوقائية في السياسة الجنائية تشديد العقوبة المقررة لبعض الجرائم التي استفحلت وتنامت في وقت معين، ومنها الاعتداء الجنسي على الأطفال حيث أوجب كذلك القيام بنفس الخطوة.

 كما إن إتساع ظاهرة الدخول غير المشروع إلى نظام للمعالجة الآلية للمعطيات الرقمية عن طريق الاحتيال أو حذفه أو تغييره أو إحداث اضطراب في سيره وغير ذلك من الأفعال الماسة بهذا النظام دفعت بالمشرع لتجريمها والمعاقبة عليها بالحبس والغرامة المكلفة بما من شأن ذلك أن يحد من ظاهرة الإجرام الإلكتروني.

 أما الجرائم التي جاءتنا مع مطلع القرن الحادي والعشرين الحالي، والتي أصبحت تدخل في زمرة الأفعال الإرهابية وتنفذ بشكل جماعي أو فردي وتستهدف المس بالنظام العام في أي بلد بواسطة التخويف والترهيب والعنف بالاعتداء على حياة الأشخاص أو على سلامتهم أو على حرياتهم أو اختطافهم أو احتجازهم، والقيام بأعمال التخريب أو الإتلاف وصنع وحيازة أو نقل المتفجرات والأسلحة، فقد حدَت بالمشرع إلى التدخل لسن قوانين صارمة لزجر مرتكبي هذه الأفعال وللحد من هذه الظواهر الإجرامية.

 كما وجد فقهاء السياسة الجنائية أن (التصالح بين الأطراف في القضايا التي تحتمل ذلك) هذا الإجراء يمكن أن يشكل لبّ العدالة وجوهرها ومبتغاها في إشاعة السلم الإجتماعي، لأنه إجراء يرأب الصدع بين المتخاصمين، ويجبر ضرر الضحية، ويُجنّب المدعى عليه المتابعات وما يترتب عنها من تلطيخ لسمعته، كما أنه يقلل من الهدر في الجهود القضائية، كما أن (إيقاف سير الدعوى) في بعض الجنح في حال تنازل المتضرر أثناء سريان الدعوى العمومية يمكن للمحكمة أن تأمر بإيقاف سير إجراءاتها بناء على إلتماس من المشتكي أو المتضرر، مالم يكن هناك حق عام للمجتمع.

 ولابد من ذكر العرفان للدكتور اكرم عبدالرزاق جاسم المشهداني حيث أغنى المكتبة العربية ( بموسوعته في علم الجريمة) التي تناولت السياسة الجنائية بشكل واسع وارست المفاهيم الحديثة لتلك السياسة، ومن المؤلم أنَّ هذه المفاهيم غيِّبَتْ من المناهج الدراسية لكلية الشرطة والمعهد العالي لضباط الشرطة، ومراكز التدريب والتأهيل الشُرَطي، حتى أنَّ اكبر مؤسسة أكاديمية أمنية دفاعية وهي (كلية الدفاع الوطني) تكاد تخلو من منهاج يغطي السياسة الجنائية والتي هي أساس من أسس الأمن الوطني.

 خلاصة القول إن النظرية الحديثة للسياسة الجنائية ترمي إلى رؤية شاملة لظاهرة الإجرام بالبحث والتقصي عن أسبابها ودوافعها من خلال دراسات إحصائية هادفة لكل منطقة داخل الدولة، وإيجاد الحلول والتدابير الناجحة للحد من تفشيها ومحاربتها واجتثاتها من جذورها للحفاظ على استقرار المجتمع، وما تطوير النصوص التشريعية بالتغيير والإتمام والإلغاء والتعديل، سواء نصوص القانون الجنائي أو نصوص قانون أصول المحاكمات وغيرها من القوانين الخاصة التي تشتمل على مواد عقابية، إلا ضرب من ضروب التدابير التي ينبغي التفكير فيها من خلال ما يتحصل من ملاحظات ومعطيات، وبيانات يتم رصدها في المجتمع والتي من شأنها رسم خطة رشيدة للوقاية من الجريمة أي الحيلولة دون وقوعها، ومعالجة آثارها بعد ارتكابها.

* خبير بالشؤون الأمنية

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 3/تشرين الأول/2011 - 5/ذو القعدة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م