في تركيبة نظام الحكم والسلطات الثلاثة

الشيخ فاضل الصفّار

يتركب نظام الحكم غالبا من سلطات ثلاثة هي: السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية، والسلطة القضائية، وهذا التقسيم ناشئ من حاجة المجتمع، فإن تنظيم أمور الناس يستدعي التقنين، والتقنين لا يحقق غرضه إلا بالتنفيذ، ولكن حيث إن التنفيذ يستدعي التضارب بين المصالح، وربما التجاوز والعدوان من جهة، ومن جهة أخرى القصور في الدنيا وفي البشر من حيث الفرص والإمكانات والقدرات من أن يصل كل إنسان إلى حقه بلا منازعة أو حرمان استدعى الأمر وجود قوة قضائية تفصل بين ذلك، وتطبق القانون بصورة عادلة، وقبل التفصيل في بيان هذه السلطات نشير إلى تنبيهات:

التنبيه الأول: في منشأ السلطات الثلاث

إن هذه السلطات متفرعة عن السلطة العليا للدولة، وهي في الحكومة الإسلامية متفرعة عن سلطة المعصوم (صلوات الله وسلامه عليه) في زمان النص والحضور التي هي الأخرى متفرعة عن سلطة الباري عز وجل الذي هو الخالق والمكون والمدبر، وفي زمن الغيبة متفرعة عن سلطة الفقيه الجامع للشرائط. نعم يمكن أن تجتمع طراً بيد المعصوم (صلوات الله وسلامه عليه) لمكان العصمة فيه التي هي الضمان الكامل لتطبيق العدالة، بخلافه في زمن الغيبة، فإنه لا بد وأن تتخذ الإجراءات الكافية لضمان العدالة الاجتماعية، إذ إن عدالة الفقيه النفسية وحدها غير كافية لضمان العدالة الاجتماعية؛ بداهة أنه غير معصوم، وغير المعصوم لا يؤمن عليه الخطأ أو الجهل أو النسيان وان أمن عليه من العمد، وعليه فإنه وإن كان ربما لا يتعمد الظلم أو الإساءة تقصيراً إلا أنه قد يقع فيها قصوراً، فيستقل العقل بلزوم تهيئة المقدمات والأسباب التي يتحرز فيها عن الوقوع في ذلك، ومن هذه الأسباب ما يلي:

1- الأخذ بنظام الشورى في التقنين والتخطيط والتنفيذ.

2- توزيع السلطات بين قوى مختلفة، وجعلها مستقلة عن بعضها البعض، وهو ما يعبر عنه بالفصل بين السلطات.

3- إشراك الأمة في انتخاب الحاكم الأعلى من الفقهاء، وكذلك إشراكها في اختيار المقننين والمنفذين والقضاة.

وهذه السبل وإن كانت غير محرزة للعدالة دائما إلا أنها من حيث المجموع أقرب إلى الواقع، وأبعد عن الخطأ، وأضمن للمصالح وتطبيق العدالة، كما أنها طريق الجمع بين الأدلة والحقوق، فإن هذه جميعاً مطلوبة من باب الطريقية؛ لأن الموضوعية للعدل والنظام وحفظ الحقوق كما عرفته مما تقدم.

هذا في الحكومة والإسلامية، وأما في الحكومات غير الإسلامية وهي ما يصطلح عليها بالديمقراطية فهذه السلطات الثلاث متفرعة عن سيادة الأمة على ما ستعرفه.

التنبيه الثاني: في صلاحيات السلطة التشريعية

القوة التشريعية هي قوة التشخيص والتطبيق والتخطيط، لا التأسيس والجعل، فإن من الواضح أن الحكم لله سبحانه وحده، ولا مشرّع غيره، وأما الرسول والإمام المعصوم (عليهم السلام) ففي كونهما مشرعين أو لا؟ احتمالان:

 أحدهما: أنهما مشرعان، وهذا ما ربما يستفاد من الآيات والروايات الدالة على تفويض الدين إليهما، وقد قدمنا لك بعض الشيء عنه في المبحث الثاني.

 ثانيهما: أنهما مبيّنان ومفصّلان لامشرّعان، والتفصيل غير التشريع، وعليه تحمل أدلة تفويض الدين، فإنه إذا لم ينهض دليل على حق التشريع لغير الله سبحانه وتعالى يحمل ما ظاهره ذلك على خلافه، وأقرب المحامل هو الحمل على تفويض أمر البيان والشرح إلى المعصوم وإن كان هناك احتمال ثالث يسعى للجمع بين القولين؛ لإمكان القول بعدم وجود المانع العقلي أو الشرعي في أن يؤدب الله سبحانه وتعالى حججه المعصومة، ويعلمهم بملاكاته الواقعية، ويطلعهم على أغراضه، ثم يفوض إليهم أمر التشريع في أصله أو في بيانه، ولا محظور في ذلك؛ لأنه لا ينتهي إلى جعلهم مشرعين في عرض إرادة الله سبحانه وقدرته، بل في طولها وبإذنه ومشيئته، وهذا ما ربما يستفاد من ظواهر جملة من الأدلة.

 قال سبحانه وتعالى:{ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}[1] وقال عز وجل:{وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحي}[2] وقال تبارك وتعالى:{ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما}[3] حيث نسبت الآيات الشريفة التشريع والنطق والقضاء إليه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهي ظاهرة في المباشرة.

وعليه فمثل الرسول والإمام مثل المعلم الذي يربي تلميذه على القواعد والضوابط والأصول والملاكات، ثم يفوض إليه الأمور، وهكذا في تعليم الرئيس أو الحاكم أو الملك لجمع من تلامذته، ثم يفوض إليهم الأمور، وهذا ما قامت عليه السيرة العقلائية في تدبير أمورها التقنينية والتدبيرية، بل في الرسول والإمام عليهما السلام أبلغ وأقوى؛ لمكان العصمة، فإن الله سبحانه وتعالى عصمهم، ثم فوض إليهم أمر الدين، والمعصوم لا يخطأ ولا ينسى ولا يجهل ولا يخرج عن حيطة طاعة الله سبحانه وإرادته.

وكيف كان، فإن التفويض بهذا المعنى غير ممتنع ذاتا، فيكفي في إثباته وقوعاً قيام الأدلة عليه بعد عدم المحذور العقلي أو الشرعي منه، ولو فرضت المناقشة في تفويض التأسيس فإنه لا مانع من تفويض الشرح والبيان، وحينئذ تحمل الأدلة الظاهرة في أن الدين لله، والحكم منحصر به على الأصل. أما البيان ففوض إلى الرسول والإمام عليهما السلام، وأما الفقيه الجامع للشرائط فلا إشكال في أنه ليس بمشرع، بل انعقد الإجماع على ذلك، وإنما هو يجتهد في تطبيق الكليات على مصاديقها، ويفرع من الأحكام الكلية العامة مواردها الجزئية.

 وعليه فإن الفقيه مطبق ومشخص للمصاديق والجزئيات، وليس بمشرع، فالتعبير عنه بالمشرع وعن سلطته في ذلك بالسلطة التشريعية تعبير مسامحي، وإن عبرنا نحن أيضاً عن ذلك أحياناً فمن باب المجاراة في الاصطلاح؛ لعدم المشاحة فيه بعد معلومية الغرض وفهم المقصود وإن كنا نميل إلى التعبير عنه بالسلطة التقنينية، وبذلك تظهر حدود السلطة التشريعية ومدى صلاحياتها، فإنها:

 أولاً: ليس لها حق التأسيس للقانون والحكم ما دام هناك نص موجود من الكتاب والسنة بمعناهما الأعم الشامل للسيرة ونحوها؛ إذ لا اجتهاد في مقابل النص.

 ثانياً: ليس لها أن تغير حكما أو تبدله أو تزيد أو تنقص منه بعد أن نص عليه الشرع، فإن حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة[4]، وإنما مهمتها تكمن في أمور:

 أحدها: تشخيص الموضوعات المستنبطة التي تحتاج إلى دقة نظر وفحص وتمحيص.

ثانيها: تطبيق الكليات التي جاءت بها الشريعة على موضوعاتها.

ثالثها: التخطيط ووضع البرامج لتطبيق الأحكام الشرعية في الخارج.

فمثلاً بعد أن نص الشارع على أن الخمر حرام لا مجال للفقيه أو للقوة المقننة أن تضع قانوناً تحلل فيه الخمرة، أو تحصر حرمة الخمر في الخمر التمري دون العنبي، أو تحرمه على أبناء العراق دون الحجاز، ونحو ذلك، لكن لها أن تشخص الموضوعات كالماء المأخوذ من الشعير مثلاً تحكم بأنه من قبيل الخمر فتحكم بحرمته، أو لا فتحكم بحليته، ومن الواضح أن هذا ليس من قبيل التشريع، بل هو تطبيق للقانون الكلي القائم على حرمة الخمر على موضوعه الخارجي إذا رأت انطباق هذا العنوان على مثل ماء الشعير ونحوه، كما لها أن تشخص أن الظروف التي يتعرض لها البلد الآن مثلاً تنتهي إلى الاستعمار الاقتصادي الموجب لذلة المسلمين، وسلب حقوقهم لو أقامت الدولة الإسلامية اتفاقات اقتصادية مع بعض الدول او الشركات ونحو ذلك، فبعد أن شخصت الموضوع لها حق إصدار قانون المنع من إقامة الاتفاقات الاقتصادية بنحو كلي، أو مع بعض الدول التي تخشى منها ذلك، وكذلك بعد أن أمر الإسلام بالتعليم والتعلم وفرضه على كل مسلم ومسلمة[5] فإنه لا مجال للقوة التشريعية في أن تمنع ذلك، لكن لها المجال في أن تضع الخطة اللازمة لإجراء هذا الحكم وتطبيقه وإيصاله إلى أهدافه.

 وعليه فإن السلطة التقنينية سلطة تطبيقية تشخيصية تخطيطية لا تشريعية تؤسس الأحكام في قبال الكتاب أو السنة، فإن الأساس في الحكومة الإسلامية هي النصوص الإلهية وبيانات المعصومين (عليهم السلام). قال تبارك وتعالى:{إن الحكم إلا لله}[6] وقال عز وجل:{ألا له الحكم}[7] وقال عز من قائل:{وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فان تولوا فاعلم انما يريد الله ان يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون}[8] فإن المستفاد من هذه الآيات حصر الحكم به عز وجل، فكل حكم لا يرجع إليه هو من أحكام الجاهلية، خصوصاً وقد بين الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرون (عليهم السلام) كل ما ورد ويحتاج إليه البشر من أحكام وتشريعات.

ففي خطبة الوداع عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم): «يا أيها الناس، والله ما من شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أمرتكم به، وما من شيء يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلا وقد نهيتكم عنه»[9].

وفي صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (صلوات الله وسلامه عليه) قال:

«قال أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه): الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا حتى بينت للأمة جميع ما تحتاج إليه»[10].

 وفي خبر حماد عن أبي عبد الله (صلوات الله وسلامه عليه) قال: سمعته يقول: «ما من شيء إلا وفيه كتاب أو سنة»[11].

وفي خبر المعلى بن خنيس قال: قال أبو عبد الله (صلوات الله وسلامه عليه): «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلا وله أصل في كتاب الله عز وجل، ولكن لا تبلغه عقول الرجال»[12] إلى غير ذلك من الأخبار الدالة على أن أصل التشريع من الله سبحانه، ثم من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام (صلوات الله وسلامه عليه)، وأما مهمة الفقيه الجامع للشرائط وما يرتبط به من قوى ومن سلطات في التقنين وما أشبه ذلك فهي ترجع إلى التطبيق والتشخيص والتخطيط.

التنبيه الثالث: في لزوم مشاورة اهل الخبرة

ينبغي الرجوع إلى أهل الخبرة في كل مورد من الموارد التي يتوقف تشخيص الموضوع عليه؛ لبناء العقلاء على رجوع الجاهل إلى العالم فيما يعلم به، وعليه لا يجوز للقوة التقنينية أن تضع القوانين أو البرامج والخطط دون أن ترجع لأهل الخبرة، كما لا يجوز للفقيه أن يفتي قبل تشخيص الموضوع والفحص عنه إن كان من الموضوعات المستنبطة أو العرفية الخفية التي تحتاج إلى دقة نظر؛ لأن ذلك يستلزم الإفتاء بغير علم، والإقدام على الحكم بغير ما أنزل الله سبحانه، وهي محرمة بذاتها؛ للنصوص الخاصة الدالة على عدم جواز الفتوى بغير علم، وكذا الحكم والقضاء، وأنه من أحكام الجاهلية، سواء طابقت الواقع أو خالفته. نعم قد يقال بشدة العقوبة في صورة المخالفة في الاجتماع التجري والعصيان فيها بناء على انحصار معنى العصيان؛ لمخالفة المولى واقعاً، بخلاف صورة المطابقة للواقع، فإن حرمتها من جهة التجري لا العصيان. نعم تشتد الحرمة على القول بحرمة التجري وأنه عنوان محرم بذاته.

* فصل من كتاب فقه الدولة

وهو بحث مقارن في الدولة ونظام الحكم على ضوء الكتاب والسنة والأنظمة الوضعية

** استاذ البحث الخارج في حوزة كربلاء المقدسة

*** للاطلاع على فصول الكتاب الاخرى

http://www.annabaa.org/news/maqalat/writeres/fadelalsafar.htm

................................................

[1] سورة الحشر: الاية 7.

[2] سورة النجم: الاية 3.

[3] سورة النساء: الاية 65.

[4] البحار: ج86 ص 148 ؛ البحار: ج2 ص 260 ح 17.

[5] انظر تحف العقول: ص 27 ؛ البحار: ج1 ص172 ح 26 وح27.

[6] سورة الانعام: الاية 57.

[7] سورة الانعام: الاية 62.

[8] سورة المائدة: الاية 49-50.

[9] الكافي: ج2 ص74 ح2.

[10] التهذيب: ج6 ص319 ح879.

[11] الكافي: ج1 ص59 ح4.

[12] الكافي: ج1 ص60 ح6.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 3/تشرين الأول/2011 - 5/ذو القعدة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م