
شبكة النبأ: الحرائق الكبيرة تبدأ
بشرارة صغيرة، هذا ينطبق على الانتفاضات أيضا، فالثورات الشعبية
العارمة والانتفاضات الكبيرة تبدأ بخطوة واحدة، كما بدأت إنتفاضات
الشرق الاوسط الراهنة بخطوة الشاب الشهيد بو عزيزي في تونس.
لكن الملاحَظ على انتفاضات الشرق الاوسط الحالية، لاسيما في بلادنا
العربية، أنها تهدف الى التغيير السياسي حصرا، فتطالب بوضوح بتغيير
الحكام والحكومات ومن ثم تغيير السياسات القائمة، ومع أن هذا الهدف مهم
وجوهري، إلا أنه يؤشر بوضوح غياب التفكير والتخطيط الاستراتيجي بشأن
نتائج هذه الانتفاضات وأهدافها ايضا.
الحياة ليست سياسة فقط، هي تعليم وصحة واقتصاد، وأنهاج متعددة في
السلوك والتفكير، السياسة وإن كانت تتصدر أنشطة الانسان الفرد والجماعة،
لكنها لا تمثل عموم أعماله وأفكاره، بل هي جزء من كل شامل وتعدد المهام،
تدخل فيه أنشطة الناس المتنوعة، لهذا ليس صحيحا أن تكون الاهداف التي
تذهب إليها الاحتجاجات والانتفاضات ذات طابع أحادي بالنتيجة.
بمعنى أوضح، لا نريد لهذه الانتفاضات الجماهيرية المباركة، أن تزيل
طاغية وتأتي بحاكم ديمقراطي شكلي يمتص ردود الافعال، ثم سرعان ما يتغير
ليصبح طاغية بدوره، والسبب واضح أشد الوضوح، لأن التغيير لابد أن يكون
شاملا، بمعنى لا يصح أن نطالب بالتغيير السياسي حصرا، لأننا سنبقى ندور
في الحلقة المفرغة نفسها، لنصل الى نقطة البداية التي ستعيدنا الى
المربع الاول، لنلتقي ثانية، بشبيه النظام السياسي الذي أزلناه بقوة
الاحتجاجات.
السبب واضح، فالنظام السياسي الفردي الذي تمت إزاحته هنا أو هناك،
او تلك الانظمة التي لا تزال تنتظر بهلع التغيير الحتمي، تقوم على أسس
متعددة لا تتعلق بالسياسة وحدها، فطبيعة الاقتصاد قد تدعم الحكم
التسلطي المتفرد، كذلك الحال مع التعليم والثقافة والاجتماع، وسوى ذلك
من انشطة الناس اليومية، فهي في ظل النظام السياسي المستبد غالبا ما
تشكل عوامل مساعدة للسياسي.
لهذا السبب لابد أن يكون هناك تخطيط مسبق، وبناء استراتيجي محايث
لتطور الانتفاضات منذ لحظة اندلاعها، ولا ينبغي ترك النتائج المرتقبة
للتغيير، بمواجهة غير متكافئة مع العشوائية، التي ستطيح بثمار
الانتفاضات، وتحرف مساراتها أو بوصلتها نحو تكوين النظام القمعي ثانية،
وهذا الامر يحتّم التخطيط المسبق لما ستؤول إليه النتائج، مع مراقبة
دقيقة لمسار الامور من لدن المعنيين.
باختصار ووضوح، حين بدأت انتفاضة تونس بالشاب بو عزيزي، لم يكن هناك
تخطيط واضح لما ستؤول إليه الامور، ولهذا السبب كان التركيز منصبّا على
تغيير النظام السياسي القائم أولاً، والحال نفسه يتكرر في مصر وليبيا
واليمن وغيرها، لكن المطلوب هو تغيير شامل للبنى الحركية المتعددة،
فحين تطالب الانتفاضات او المنتفضون بتغيير الانظمة السياسة، لا يصح أن
يقتصر ذلك على الجانب السياسي فحسب، لأننا نحتاج الى تغيير اقتصادي
وتعليمي وصحي واجتماعي وسوى ذلك من مجالات الحياة الكبيرة والكثيرة
التي تتحرك فيها المجتمعات العربية وسواها، الامر الذي يتطلب بوضوح
تغييرا كليا لمنظومات العمل التفكير.
بكلمة أوضح، الانتفاضات ينبغي أن تتمخض عن تغييرات في المنهج
السياسي وفي سواه أيضا، وهذا الهدف يتطلب سعيا تخطيطيا مستمرا، يرافق
الانتفاضات نفسها، أما القول بأولوية التغيير السياسي وازاحة العروش
المخضرمة، ثم النظر بما ستؤول إليه النتائج من أمور في مجمل عمليات
التغيير، فهو قول لا ينطوي على نظرة صحيحة، بل ينطوي هذا الرأي نفسه في
طياته خطر الانحراف نحو الدكتاتورية عاجلا أم آجلا، وهذا ما يدعو
المعنيين الى أهمية التخطيط لصنع حالة شاملة من التغيير السياسي وسواه.
عكس ذلك، سيبقى التعليم قاصرا، مثلما تبقى التركيبة الاجتماعية
متهافتة، فيما يظل الاقتصاد عشوائيا، أو فرديا منحرفا وممثلا لمصالح
فردية أو جهوية، أكثر مما يمثل مصالح الدولة والشعب برمته، من هنا تبدأ
خطورة التغيير الأحادي (السياسي حصرا)، حيث العمل على إسقاط العروش
والكراسي من دون وضع الخطط الاستراتيجية التي تبحث في ما ستصل إليه
الامور لاحقا.
ولابد أن يعي المعنيون، أن هناك خطرا ماثلا على الانتفاضات
ونتائجها، يتمثل بانقضاض الانتهازيين الذين غالبا ما يركبون الموجة
لتحقيق مآرب فردية سلطوية تبحث عن المال والجاه والسلطة، وتضع مصالح
الشعب خلف ظهرها، يحدث هذا وغيره بغياب التخطيط المسبق.
لذا يبقى المطلوب أن يكون التغيير شاملا، تغييرا في السياسة
والاقتصاد والتعليم والصحة وسواها، مع مراقبة دائمة من لدن المختصين
(الامناء)، لمتابعة اتجاه بوصلة الاحداث نحو مرفأ الامان، من خلال رصد
العناصر والجهات التي تفضل مصالحها الضيقة على مصالح الجميع. |