العراق.. هوية منغولية

حسين درويش العادلي

استفهامات

 تبرز عدة استفهامات عريضة عن مصير العراق كأمة ودولة مع موجة التصريحات والتحركات لبعض نخب وقوى العملية السياسية الهادفة لتشكيل الأقاليم على قاعدة (الإنفصال والإستقلال) استناداً الى الخصوصيات العرقية أو المذهبية أو الإثنية.

 لست هنا بمعرض مدح أو ذم النظام الفدرالي كشكل معتمد لنظام الدولة العراقية، بقدر ما يهمني بحث قضية هوية الدولة وفق أي نظام كان للدولة، فالدولة في عمقها نظام هوية تنتجها أمة الدولة التي تختار شكل نظامها السياسي (أياً كان) ولكن على قاعدة كونها أمة وليست أمم تتلبس بلبوس الدولة تلفيقيا، وأزعم بأننا نطرح شكل نظام الدولة على قاعدة أننا أمما، أمم شيعية وسنية وكردية وتركمانية وكلدوآشورية..الخ لا يجمعنا سوى مصالح مؤقتة ما تلبث أن تزول مع تحقيق مقومات الإستقلال الذاتي والخارجي، وليس أمة وطنية تحترم هوياتها وخصوصياتها العرقية المذهبية، وتختار نظاماً سياسياً قادراً على تحقيق مصالحها العليا.

أزمة الهوية المزمنة

 وحدة العراق كدولة وأمة وطنية مهددة اليوم بفعل فشل مشروع الدولة –على امتداد تاريخها- في إنتاج هوية وطنية تعبر عن أمة سياسية قادرة على إعادة إنتاج نفسها وتجاوز مآزقها في التشكيل والإدارة للدولة،.. إنّ تضخم الهويات الفرعية العرقية الطائفية وجنوحها نحو الإستقلال لهو خير دليل على أزمة هوية دولة مزمنة التي لم تعرف حلاً بعد، وأتصور أنّ كافة أشكال التحولات والصراعات المتفجرة قيمياً وسياسياً وأمنياً واقتصادياً إنما هي تعابير عن أزمة هوية بنيوية للدولة منذ عام 1921م والى يومنا هذا، وهي أيضاً تجل لحرب هويات عرقية وطائفية ومناطقية وجهوية تتصارع لكسب مشروع هوية الدولة.

 تأريخياً فإنَّ من أهم الإشكاليات التي نحرت الدولة العراقية هي إشكالية الهوية السياسية للدولة، فمنذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921م والإشارة إلى الذات الوطنية على مستوى الهوية شكّل أزمة لدى أغلب المدارس السياسية العراقية، وما ذاك إلاّ انعكاساً للفشل في التعاطي مع استحقاق قيام الدولة الوطنية كواقع جديد بعد الإستقلال، ذلك الفشل البُنيوي أضر بهوية الدولة وبنظامها السياسي وبدورها الإقليمي.. فقاد إلى كارثة انهيار الدولة، وهي كارثة أفرزتها بالأساس المدارس والنخب المتصدية لمشروع الدولة على تنوع فعلها ونتاجها وسياساتها المتعاطية مع استحقاق قيام الدولة الوطنية عام 1921.

تعويم الهوية

 منذ قيام الدولة العراقية وصراع الهوية يتمظهر هنا وهناك في فعل الدولة وحراكها، ومديات الإشارة إلى الذات العراقية الحديثة تراوحت بين ثلاثة مديات تتنازع تعريف الذات والتأسيس على هذا التعريف، وهي: الدولة القومية، الدولة الماركسية، الدولة الدينية،.. في ظل غياب كامل لبديل الدولة الوطنية. وقد تلبّست المديات الثلاثة بمناهج بُنيوية حملت الدولة على وفق رؤاها وبرامجها وسياساتها كسلطة ومعارضة وثقافة، والأعقد هنا تداخل هذه المديات في تكوين وتشكيل الهوية لدى النخب المجتمعية والسياسية والجمهور معاً، من هنا نلحظ أنَّ مأزق هوية الدولة العراقية تتشاطره مفاهيم ووظائف وأدوار من قبيل: الوطن العربي والأمة العربية والدولة القومية، والوطن الإسلامي والأمة الإسلامية والدولة الإسلامية، الوطن البرولتاري والأممية والدولة الإشتراكية..الخ. في خلط وتنازع مفاهيمي وبرامجي أفقد معه خصوصية هوية الدولة الوطنية،.. ومعلوم أنَّ أي فشل في تأكيد الهوية الدولة ووضوح طبيعتها يضر لا محالة ببنيتها وأنظمتها وطبيعتها، وكما يفقدها وضوح الإنتماء يفقدها أيضاً رسوخ التأسيس والبقاء، وفي هذه الحالة ستنشطر الذات الوطنية وتفقد بوصلة الإتجاه وتشذ عن فلكها الوطني الخاص بها.

لقد عومت المدارس السياسية العراقية هوية الدولة فصادرت وطنيتها وخصوصيتها لصالح هويات كلية مفترضة قومية أو دينية أو أممية، أو لصالح هويات ضيقة مذهبية أو عرقية أو إثنية، وهي اليوم تصادر هوية الدولة كلياً بسبب تبني مشروع دولة يقوم على وفق مبادىء المكونات والتوافق العرقي الطائفي.. مما نحر وجود الأمة السياسية التي تشكل جوهر الدولة ومادة هويتها لصالح أمم الدولة الشيعية السنية الكردية التركمانية.. مما صادر وحدة الأمة والدولة معاً.

الدولة والهوية

 الدولة مؤسسة وطنية لا يمكن أن تنتج إلاّ على أساس الهوية السياسية المستندة الى خصوصية وطنية بحتة، وهنا فالهوية جوهر التفاعلات التي ينتجها تماهي مكونات الدولة في إطار (دستره وقوننه ومأسسه) لكافة وجودات الدولة وفاعلياتها. إنَّ الدولة كيان كلي ناتج من تمازج أربعة عناصر هي: الأُمة المكوّنة للجماعة السياسية، والقيم والقوانين المكوّنة للنظام، والإقليم المكوّن للوطن، والمؤسسات الإدارية المكوّنة للسلطات،.. وجوهر هذا الرابط والناظم الكلي المسمى بالدولة هي الهوية التي تمثل حاصل التمازج والتناغم لعناصر الدولة الأربع، وكلما تمازجت وتناغمت واتحدت هذه العناصر بعضها ببعض في الوعي والثقافة والتشريع والسياسة.. كلما قويت الدولة وتجذرت، من هنا فبقاء الدولة مرتبط بفاعلية الهوية وقدرتها على البقاء والتجدد والتطوّر.

منتجات أزمة الهوية

 لم تنجح المدارس السياسية العراقية بخلق روح وطنية مدنية صاهرة لعوامل الأصالة والحداثة والمواطنة والديمقراطية والتنوع الإجتماعي لإنتاج خصوصية وطنية عراقية في عمق محاولات إنتاج الهوية السياسية للدولة الحديثة، فأتى بناء الهوية مشوّهاً ومعوما، وهو ما قاد إلى فشل مشروع الدولة.

 مأزق الهوية هو نتاج عوامل منها: الفشل الإيديولوجي والنخبوي، فأغلب المحاولات البنيوية للهوية قامت على أسس منقطعة عن استحقاق الدولة الوطنية، ومعظم النخب والمدارس العراقية كانت نخباً مؤدجلة على النقيض من المبادىء الوطنية في عمق ثقافتها وقرارها. والأدهى أن النخب والمدارس السياسية رغم أدلجتها فإنها سقطت في فخ الهويات الفرعية العرقية الطائفية المناطقية الضيقة، ولم تنجح في تأسيس هوية وطنية تجمع بين أصالة التكوين الذاتي لمكونات المجتمع وبين الإنصهار في الجماعة السياسية الكلية المُشكّلة للدولة. لقد فقدت أغلب المدارس والنخب وعي والتزام وسياسة الإعتراف بحقيقة قيام الدولة الوطنية، وتعاملت وإياها أما على أساس من التعويم الأيديولوجي الذي صادر خصوصيتها وأما على أساس الهويات الفرعية الضيقة الذي صادر وحدتها.

 وأيضاً من مآزق إنتاج الهوية: الدمج المقصود بين الدولة والسلطة مما أفقد الهوية الوطنية جوهرها وانتماءها ووحدة فعلها وغاياتها، فعندما تبتلع السلطة الدولة وتكون السلطة عنواناً للهويات العِرقية والطائفية والسلطوية.. ينتفي جوهر الهوية الوطنية وفعلها التأريخي فتغيب الدولة بالتبع.. وبمجرد سقوط السلطة تسقط الدولة.. فتتغير ملامح الهوية السياسية للدولة.. وهكذا دواليك!! من هنا لم تثبت في العراق دولة متجذرة بهويتها الخاصة، فغدت الدولة والهوية عرضة لتغير أنماط السلطة،.. وعليه لم تنشأ دولة بالمعنى الكامل للكلمة بل نشأت سلطات اختزلت وصادرت دور الدولة.

 ومن مآزق الهوية أيضاً: اتحاد الذاكرة العراقية بين العراق التأريخي والعراق الحديث اتحاداً واضحاً في طبيعة الهوية الطائفية والعِرقية والثقافية في اللاوعي العراقي، وذلك عن طريق استدعاء الماضي بثقله وأنساقه ومحاولة فرضه على الواقع المعاصر دون القيام بعمليات إعادة القراءة والتمثيل لهذا التأريخ في تنوعاته وتقنينه وفق فروض الواقع الحديث للعراق ومرتسمات هويته الوطنية الجديدة. وكمصداق على ذلك تأتي الصراعات الطائفية (بين ما هو شيعي وسُنّي..) والعِرقية (بين ما هو عربي وكُردي وتركماني..) كإنموذج لإستدعاء فعل الذاكرة التأريخية في التعاطي مع واقع الهوية الحديثة. إنَّ الصراع على ادعاء امتلاك الوطن تأريخياً أو احتكار تمثيله لشريحة عِرقية أو طائفية أو إثنية يأتي كإنموذج لإنتاج الهوية الوطنية على أساس من الإستسلام للذاكرة التأريخية وقيادة اللاوعي في صناعة الدولة، وكان من المُفترض أن يوضع بالإعتبار التكوين الحديث للعراق المتنوع والفسيفسائي في إنتاج هوية الدولة الجديدة، وهنا فالمواطنة كمبدأ وقيمة واستحقاق كان يجب أن تكون في مقدمة الإستحقاقات المُنتجة للهوية العراقية، بينما نرى أنها تعرضت لإسقاطات عِرقية وطائفية سياسية ودينية وثقافية صادرت بالتبع استحقاق الهوية الوطنية كجوهر جامع ومظلة مُوحِدة للكل العراقي.

مآل الدولة بمآل هويتها

 في 2003م سقط مشروع الدولة العراقية التي عاشت أزمة هوية، ومآل الدولة القادمة وشكلها يتوقف على نمط الهوية المنتجة، والهوية المنتجة رهن خارطة طريق بنيوية واضحة وحاسمة تقعد مشروع الدولة برمته،.. وأزعم بأنّ هوية الدولة الحالية هي هوية (منغولية).

 من المفترض أن تكون الدولة العراقية الفعلية دولة وطنية مدنية ديمقراطية، وهذا هو جوهر هويتها،.. إلاّ أنّ الإرادة العليا لمراكز قوى العملية السياسية اعتمدت خارطة طريق خاطئة لا يمكن أن تؤدي الى إنتاج واضح ومتماسك للدولة وهويتها، فاعتماد الديمقراطية التوافقية التي تقدس مبدأ المكوّن العرقي الطائفي على حساب المواطنة، والإحتكام لمطبخ التوافق (العرقي الطائفي) على حساب الأغلبية السياسية الذي تنتجه الديمقراطية التعددية، واللجوء الى مبادىء التوازن العرقي الطائفي في تشكيل الدولة على حساب المواطنية، وابتلاع الدولة من خلال المحاصصة العرقية الطائفية الحزبية.. كل ذلك خلق هوية هجينة منغولية للدولة، فليس هناك من جوهر محدد لهوية الدولة، فلا هي مدنية ولا دينية، ولا مركزية ولا لامركزية ولا فدرالية ولا كنفدرالية،.. وليس للدولة من وحدة فعل وقرار وسياسة، والرؤى والسياسات والأجندات متعددة بتعدد قوى السلطة،.. وحال كهذا لا يمكن أن تنتج على أساسه دولة وأمة وهوية ومصالح عليا.

 لا يمكن إنتاج دولة دونما كتلة تاريخية وطنية تتوحد في رؤاها وإراداتها وسياساتها، كتلة تاريخية مدنية مشبعة بمشروع وطني مدني، متجاوزة لعقد الذاكرة التاريخية، متحررة من أسر الهويات الفرعية العرقية الطائفية، متعالية عن الإمتياز، ومترفعة عن المصالح الخاصة الضيقة.

almowatennews.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 29/أيلول/2011 - 30/شوال/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م