أمراض الثقافة والوعي وآثارها الخطرة في المجتمع

علي كاظم داود

من المشاكل الثقافية المجتمعية التي كثيراً ما يشار إلى أن مجتمعنا العراقي على وجه الخصوص مصاب بها، بل إنها قد تعتبر المرض الأخطر المحدق به، هي تلك الأزمة في الوعي وعلى أصعدة مختلفة، ثقافية كانت أو دينية أو سياسية، وما إليها من جوانب منتهكة بنسب متفاوتة في تفكير الفرد.

الأسباب لتلك المشاكل معروفة للجميع منها النخر المُمنهج للعقل الجمعي والإقصاء والفقر وضعف التعليم وغيرها من مسببات الأمراض الثقافية.. ووسائل المعالجة أيضا تبدو واضحة من أبرزها إصلاح طرائق التعليم ومناهجه وبث الثقافة الصحيحة وتحسين الوضع المعيشي وربط الأفراد بمصادر استقاء الوعي السليم..

 لكنها ـ إن كان ثمة من يمارسها ويعمل على نشرها ـ لن تجدي نفعا إلا بعد فترة زمنية ليست بالقصيرة فهذا الجيل الذي أصيب بنكبات وصدمات ومرّ بحروب وفواجع مدمرة للإنسان ربما لن تجدي فيه العلاجات بنسبة كبيرة، ولكن الاجيال القادمة يجب السعي لتحصينها مسبقا، فالمعالجات وقائية في المقام الأول لان الأوان قد فات على من عاصروا الدكتاتورية المنقرضة وتمكنت أدرانها من النيل منهم.

هناك مشكلة اجتماعية متوارثة وأزلية ربما، وقد أشار لها إمام البلغاء الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) عندما صنّف المجتمع إلى أصناف ثلاث: العلماء الربانيون، والمتعلمون الذين هم على سبيل نجاة، والصنف الثالث وهم الهمج الرعاع الناعقون خلف كل ناعق.. فما يظهر من مشكلات ترجع في سببها الأساس إلى أزمة الوعي، لا يمكن أن يكون حيز تأثيرها إلا في الصنف الثالث، أولئك الذين لم تتحصن عقولهم بأسس التفكير الصحيحة ومناهج التحليل العقلية، فلا يستطيعون التمييز بين ما هو خرافة أو وهم أو بدعة أو استدراج نحو الهاوية وبين ما هو حقيقي وواقعي ويمتلك قواعد وأسس رصينة ويسير على جادة سوية وأرض صلبة.

إنه لأمر خطر حقا أن يتهرأ الوعي المجتمعي أو الفردي مما يستتبع ايجاد خرق أو مرض ثقافي، وقد رأينا الكثير من النتائج الكارثية لهذا الانحطاط الذي أصاب التفكير عند العديد من أفراد مجتمعاتنا الإسلامية ومجتمعنا العراقي، تبعاً لخلل ما في الادراك الثقافي، فمن الانجراف في التيارات العلمانية والإلحادية التي حكمت أو شاعت في البلدان الإسلامية والعربية عقودا طويلة، إلى الانخراط في التنظيمات التكفيرية والإرهابية والعنفية، إلى اتّباع الضالين والمضلين من أصحاب البدع والافتراءات والأكاذيب الواضحة وضوح الشمس، إلى.. إلى.. مما يؤشر لضرورة مكافحة الأفكار التخريبية والعمل على بناء الوعي الحقيقي وإعادة الاعتبار لأسس التفكير السليمة ونشر العلاجات الناجعة لأمراض الثقافة التي يمكن تأشيرها من قبل المختصين.

قد يعتبر بعض علماء الاجتماع ان إشكاليات الواقع العراقي تنبع من أمراض نفسية شاملة وتناقضات بين القناعات والممارسات، الا ان هكذا تعميم ينطوي على تعسّف ومزاجية او عدائية في الحكم، فلا يمكن تبرير وجود عيّنات تنطبق عليها هذه المقدمات لكي يصدر حكم عام يشمل جميع أفراد المجتمع ويجعلهم كلهم تحت طائلة مصداقيته.

نعلم يقيناً أن ثمة أمراض اجتماعية تصيب الثقافة ولكنها حتماً بنسب متفاوتة قد لا يكون لها وجود او تأثير ملموس عند شرائح واسعة في المجتمع.. وكلامنا حول وجود هذه الأمراض أو العقد النفسية والتناقضات بقدر تأثيرها على وعي وادراك الأفراد للقضايا الثقافية والسياسية والاجتماعية وغيرها من مجالات يكون فيها مدى دقة تفكير الانسان وصواب احكامه وقراراته على المحك.

ترصين الثقافة النقية من الشوائب من اجل خلق وعي سليم أمر لا بد من العمل الجهيد لتوطيده عبر برامج عمل مخطط لها بشكل علمي وشراكة بين مؤسسات الدولة المتخصصة والمعنية بهذا المجال وبين المؤسسات الثقافية الموثوق بها للوصول بالأجيال القادمة إلى مرحلة متقدمة من الرقي الثقافي.

ما يشهده الوضع العراقي اليوم من انفتاح إعلامي وتزايد مستمر لأعداد وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة وكذلك انتشار وسائل الاتصال بشبكة الإنترنت له تأثيرات إيجابية كبيرة على الثقافة الاجتماعية ومديات الوعي، مثلما ان له في ذات الوقت أيضا تكريس لبعض المظاهر الثقافية السيئة لدى بعض الأفراد.. ففي الوقت الذي تهيأ للجميع الاطلاع وبشكل مستمر، رؤيةً أو سماعاً، فضلاً عن القراءة، على آراء وتحليلات وتجارب حياتية وبرامج مختلفة وثقافات متنوعة وما إلى ذلك من أمور تثري الرصيد المعرفي الشخصي، اضافة إلى ممارسة الكتابة عبر مواقع التواصل الاجتماعي وبرامج "الماسنجر والبالتوك والدردشة والمنتديات" والبحث عن التميز دائماً كما هو المفترض، مما يدفع دائما لزيادة الثقافة، إلا ان هذه الوسائل قد تخترق وعي الفرد عبر مناطق واهنة لم يتم تحصينها أو ترصينها فتدفع به إلى مناطق محظورة أو محذورة أو إلى اعتناق أو تبني قناعات خاطئة أو شاذة واحياناً العمل على بثّها في المجتمع.

مواجهة الأمراض والأوبئة الثقافية أمر صعب جداً لانه يتعامل مع قناعات الناس التي يكون من العسير جداً تغييرها في الغالب، الا أن السعي لذلك ولو لتحصين الأجيال القادمة أمر لابد منه، وليس من الصحيح اهمال الجانب التوعوي والتثقيفي من قبل مؤسسات الدولة بحجة ان البلد يعيش أزمات أمنية أو اقتصادية هي أجدر وأولى بالاهتمام.

alidawwd@yahoo.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 26/أيلول/2011 - 27/شوال/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م