النظام وصناعة الحياة

علي حسين عبيد

 

شبكة النبأ: قبل أيام أنهيت رحلة سياحية ثقافية في ربوع تركيا الخضراء، وهي – كما نعرف- دولة اسلامية مجاورة لنا، اي ثمة روابط جغرافية ودينية وتأريخية بيننا وبينهم، ومن المفترَض أن تكون الفوارق بين البلدين، العراق وتركيا، قليلة، وأعني بالفوارق هنا، أنماط العيش والسلوك والتفكير، وطرق التعامل مع الحياة عموما.

كثيرة هي الملاحظات التي حملتها معي وأنا أقارن بين بلدين متجاورين منذ آلاف السنين، وعدت وفي جعبتي مشاهد كثيرة حفظتها ذاكرتي وكأنها وقائع طازجة يمكن أن أعرضها على من يحب في أية لحظة، بسبب جمال تلك المشاهد وتفردها في صناعة حياة تليق بكرامة الانسان.

وعلى الرغم من أن الكلام بات مكرورا الى حد الملل، عن النظام، وطرق العيش، وأشكال السلوك، وفقدان هذه الضوابط لدى العراقيين، إلا أننا لا يمكن أن نتخلص من ثقل الآمال والآم معا، ونحن نتمنى لشعبنا نظاما حياتيا ثقافيا سلوكيا، كذلك النظام الذي نلحظه ونعيشه في البلدان التي نسافر لها، وهذا ما حدث بالضبط معي وأنا أتابع بكثير من الارتياح والدهشة الممزوجة بالألم، حين أطالع حياة الناس في تركيا وهي تمضي –في دقتها وضبطها وسلاستها- كأميال أو عقارب الساعة.

ليس هناك تكلّف في حياة الناس هنا في أزمير التركية، وهي المدينة التي امضيت فيها قرابة الاسبوعين، والشيء نفسه لاحظته في مدن انقرة واستنبول وأضنة وغيرها، الناس في هذه المدن مجبولة على النظام، حتى بدت حياتهم قائمة على ثقافة النظام، فالجميع يحترمون القانون، والجميع يسعون لتطبيقه ليس تحت هاجس الخوف من العقاب أو الثواب، هذه القاعدة هم في غنى عنها، حتى بدت النظام لديهم منظومة ضابطة لحركة الحياة برمتها.

إذن المسألة تكمن في طريقة صناعة الحياة، فالثقافة هنا تبدو أنها ترتكن الى النظام، والاخير بدوره يبدو وكأنه يشكل العمود الفقري لسلوك الناس، وطرق تفكيرهم وتعاطيهم مع الحركة والانتاج والترفيه والسياحة والرياضة والانشطة الاخرى كافة،

بمعنى أوضح أن النظام في تركيا تحوّل الى ثقافة فاعلة، قامت بدورها بصناعة حياة لائقة، ترسخّت بين الناس بمختلف مشاربهم ومستوياتهم وتطلعاتهم كذلك.

هنا لابد أن يكون هناك دافع ومحرك للناس يدفعهم الى اتخاذ النظام كثقافة لا سبيل لتجاوزها، هذا الدافع والمحرك، هو المثقف وأشكاله المتعددة، فردا او جماعة او مؤسسات حكومية وأهلية، هناك حث على اتخاذ النظام كثقافة ونشره بين المجتمع التركي بالوسائل المتاحة.

ما يحدث لدينا نحن العراقيين، أننا غافلون عن السبل التي تجعل من النظام ثقافة عامة تنتشر بين الجميع، فالكل مشغول بنفسه ومصالحه او مصائبه في آن، وليس لديه الوقت كي يعمل مع الآخرين لانتاج ثقافة النظام، بل ما يحمل على الاسف والألم والمرارة أن الجهات المعنية التي تستلم اجورا عن عملها، لا تقوم بواجبها التثقيفي المهني للشعب، وأعني هنا المؤسسات والدوائر والمنظمات المعنية بنشر ثقافة حياة تليق بالانسان العراقي، فهي تتخذ من رفع الشعارات اللفظية واجهات برّاقة لها، وحينما يتعلق الامر بالتطبيق، فهي تلوذ باللامبالاة والتسويف، وتلجأ الى الاسلوب الذرائعي كي تتخلص من تبعات الاخفاق اداريا وقانونيا، ولأن القانون لدينا بات من الضعف والهشاشة لدرجة أن الجميع يمكنه التحايل عليه والتلاعب به، فإن الجميع في مأمن من العقاب اذا ما حدث تقصير في هذا المجال او ذاك.

وبهذا ليس غريبا، أن تشم عبير المزارع التركية الخضراء بنهم وسعادة بالغة وأنت لا تزال ضمن حدودها، لكنك ما أن تضع قدمك في ارض العراق، حتى تصفعك أبخرة عوادم السيارات وغبار التصحّر وما شابه من ملامح، تشكل بيئة العراق بما ينسجم مع فقدان النظام كثقافة راسخة بين الجميع.

إن الخلل واضح تماما، ولا يحتاج الى تأشير أو حث أو ملاحقة، فالحياة اللائقة تُصنَع ولا تُمنح، وصناعة الحياة تتطلب ثقافة النظام، وهذا الامر لن يتحقق طالما أننا نعيش في بيئة من التخلف والجهل المتوارث بغياب (أزلي) لتحمّل المسؤولية والشعور بها، فالمعنيون كما يبدو ليس لديهم سوى الكلام، والكلام وحده لا يحرك الناس الى امام قيد أنمله، إنما نحن بحاجة الى تطبيق النظام حتى يصبح ثقافة تنتشر بين الناس وتصبح ملازمة لهم، بل حاجة لهم، كالمأكل والملبس وما شابه من متطلبات العيش.

ما رأيته في تركيا، من نمط عيش راق، ينبغي أن أراه في العراق، ولا يعنيني إن كان موجودا في اوربا وامريكا، فهذه الدولة جارة للعراق وتقتسم معه صفات وروابط متشابهة كالدين والتأريخ، لهذا علينا جميعا، وقبلنا المسؤولين والنخب كافة، أن نبث النظام بين الشعب كثقافة قادرة على صناعة الحياة الاجمل والأصحّ.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 25/أيلول/2011 - 26/شوال/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م