هل تتحول ليبيا إلى عراق فاشل آخر؟

علي الأسدي

(قيل بأن السياسة هي ثاني أقدم مهنة في التاريخ، لكنني تعلمت من تجاربي بأنها تشبه إلى حد صاعق المهنة الأولى) رونالد ريغن

 

تحدث وزير الخارجية البريطاني وليام هيك يوم العاشر من الشهر الحالي إلى مراسلتي صحيفة ذي تايمز اللندنية روشيل سلفستر و أليس تومبسون حول مسيرته السياسية والأوضاع السائدة في العالم اليوم، ومن بين الموضوعات التي نوقشت معه موضوع " الحالة الليبية ". لقد ذكر السيد هيك خلال حديثه عن " ثقته المطلقة بأن ليبيا لن تكون عراقا آخر أبدا بعد التدخل الغربي فيها، فالوضع مختلف كثيرا عما حدث في العراق بعد الاطاحة بصدام حسين، وبالتأكيد لن تتطور الأحوال في ليبيا إلى عراق آخر. فالليبيون مسيطرون على الوضع، ونحن لم نتعرض لهيكلية الدولة، وليسن هناك قوى احتلال. النفايات والمزابل يتم جمعها بانتظام، والطاقة الكهربائية أعيدت للعمل، والمستشفيات تضطلع بمهماتها كما يجب. لقد اجتمعت عدة مرات مع المجلس الوطني الانتقالي، انهم جادون في تشكيل حكومة ديمقراطية ".

كنت قد قرأت مقالا في صحيفة " ذي ناسيونال " الكندية قبل أيام من اطلاعي على حديث السيد هيك، وقد استوقفتني عبارة ذات مغزى في ذلك المقال، كانت حول الانتصار الذي حققه حلف الناتو على قوات القذافي، جاء فيه: على الأرجح، إنه انتصار كافٍ حتى الآن، غير أن نجاح الثوار النهائي لا يلغي حجم الانتقادات التي استهدفت مهمة الحلف الأطلسي، حيث تُعتبر الصدمة التي شعر بها المجتمع الدولي عند الترحيب بسقوط القذافي المفاجئ دليلاً وافياً على ذلك، فلا سبب يقنعنا في أن قوات حلف الأطلسي هي مجهزة بشكل يخوّلها التدخل في أي نظام عصابات لمجرّد أن قنابلها ضربت عدداً كافياً من الأهداف الصحيحة في ليبيا ".

 العبارة هذه، عادت بذاكرتي الى الرئيس بوش وهو يعلن من على مدرج حاملة الطائرات بعد ثلاثة اسابيع من بدء غزو العراق أن " المهمة أنجزت "، وقد وجهت للرئيس بوش حينها انتقادات لاذعة بسبب تسرعه غير الحكيم. وها أنا أسمع الشيء نفسه من وزير خارجية بريطانيا الذي تشترك بلاده مع دول الناتو في حرب جوية هي في الحقيقة غزوا جويا فريدا من نوعه في تاريخ الحروب.

نحن الآن أمام انتصار غير واضح، وبعبارة أصح " انتصار وهمي ". فالقائد الليبي الذي أعلن معارضوه عن هزيمته قاوم حلف الناتو لأكثر من ستة أشهر، بينما انهارت قوات صدام حسين الأفضل اعدادا وتسليحا خلال ثلاثة أسابع، ومع ذلك ما تزال القوات الأمريكية في العراق للعام الثامن على التوالي، ولم تعد الأوضاع في البلاد الى عهدها قبل اطاحة صدام حسين. وبينما يؤكد السيد هيك أن الليبيين مهيمنون على الوضع تعم الفوضى مدينة بنغازي المقر الرسمي للمجلس الوطني الانتقالي، وهو الأمر الذي تجاهله السيد هيك أثناء حديثه. وهناك مؤشرات عن صراعات ذاتية وموضوعية بين المجاميع المسلحة بدأت بالظهور تباعا. ففي مقال نشرته مجلة " ذي ايكونوميست " البريطانية، يوم السابع من هذا الشهر بعنوان " هل يمكن أن تستمر الفرحة " جاء فيه:

تضم مدينة بنغازي 40 مليشيا خاصة مسلحة، وقد كثفت من وجودها لابتزاز الأموال بدل محاربة القذافي. وتنقل عن نائب وزير الدفاع المؤقت في المجلس الوطني الانتقالي السيد محمد تايناز تذمره من الوضع قائلا:" لا نملك جيشا وطنيا بل مليشيات، وبصراحة يجب ضبط تلك المليشيات أو ضمها الى القوات النظامية سريعا". واذا كانت الفوضى قد حصلت في بنغازي مقر المجلس الانتقالي باعتراف نائب وزير الدفاع فكيف سيكون الحال في المدن الأخرى؟

ففي مدينة طرابلس تبسط مليشيات الاسلاميين التابعة للأمين بالحاج عضو المجلس الوطني الانتقالي سيطرتها على بعض أحياء طرابلس، ويعرفه جيدا الطرابلسيون قائدا متقدما في حركة الأخوان المسلمين المتشددة، حيث يقوم أتباعه المدججون بالسلاح ببث الرعب في نفوس مواطني طرابلس، باطلاقهم النار في الهواء ليلا ونهارا لا على التعيين بدون سبب كأطفال يعبثون بألعاب نارية. وبسبب انهيار الأجهزة الحكومية بما فيها السلطات الأمنية والقانونية فقد توجه أئمة الجوامع للمسلحين بتسليم أسلحتهم غير المرخصة للسلطات الدينية بالمدينة لحين عودة الاستقرار للعاصمة. وفي طرابلس أيضا يهيمن شقيقه أحمد بالحاج على القوات العسكرية المسيطرة على العاصمة، فهو القائد العسكري الميداني في طرابلس وما حولها بعد أن قاد بنجاح الهجوم المسلح على طرابلس في 24 /8 الماضي بالتنسيق مع القوات الفرنسية الخاصة التي نظمت نقل مجموعات المسلحين الليبيين من بنغازي ومن تونس الذين تم نقلهم اليها في وقت مبكر من مايو / ايار بحوالي 23 رحلة بطائرات مدنية.

وتؤكد ذي ايكونوميست أن " الجماعة الاسلامية التي يقودها الأخوين بالحاج تتلقى الدعم من دولة قطر التي تستضيف الشيخ السلفي يوسف القرضاوي، وهو قائد للأخوان المسلمين العالمية وبرعاية قناة الجزيرة التي توجه الرأي العام العربي. ويمكن لقطر أن تلعب دور باكستان في أفغانستان لتعزيز نفوذ الاسلاميين من نمط القرضاوي في ليبيا وهي تمدهم بالمال والسلاح ".

 وينقل الكاتب في صحيفة التايمز البريطانية ليوم 10 /9 الجاري عن عصام الكاطون الذي وصل إلى طرابلس بباخرة فرنسية محملة بكميات كبيرة من الاسلحة إلى قوى المعارضة في العاصمة تمهيدا لاحتلالها قوله: " أن عملية الهجوم على طرابلس هي استثمار ضخم اشترك فيه تجار السلاح ورجال الأعمال والقوات الخاصة والمسلحين، وقد نجحوا في تحقيق الانتصار على مقاومة الموالين للقذافي، لكن النتائج ما تزال غير واضحة. فهناك منافسة وصراع بين مختلف الجماعات الليبية. المجلس العسكري الجديد في طرابلس يثير الحيرة، حيث يصعب التعامل معه، فأعضائه لاعلاقة لهم بالثوار ويحاولون السيطرة علينا، ويتجاهلوننا مع كل الذي قدمناه، بينما يجب أن يصغوا الينا، فنحن من حرر طرابلس ".

وفي مكان آخر في نفس صحيفة التايمز، كتب تريستان ماك كونيل مقالا بعنوان " الأسلحة المنهوبة يمكن أن تحول المنطقة إلى بارود مشتعل " قال فيه: الحرب في ليبيا تشكل خطرا كبيرا، فانتقال الاسلحة والمقاتلين سيكون ممكنا أكثر من أي وقت مضى عبر الصحراء إلى وسط وغرب افريقيا التي قد تتحول إلى منطقة حريق. وفي قمة المخاوف التي يجب تؤخذ في الحساب الآن كما يشرح الكاتب، هي احتمال حصول منظمة القاعدة في المغرب العربي على صواريخ أرض جو التي اختفت من مخازن السلاح العائدة لنظام القذافي. واذا ما تحقق لها ذلك بالفعل فسيشكل هذا تهديدا للطائرات المدنية واسقاطها في الصحراء الأفريقية. فآلاف الصواريخ التي تحمل على الكتف قد فقدت من مخازن الأسلحة في طرابلس هذا الأسبوع، كما أعلنته منظمة مراقبة حقوق الانسان التي مقرها نيويورك. وقد أكد مدير المنظمة السيد بيتر بوكارت هذه المخاوف بقوله:

" اذا ما وقعت هذه الأسلحة في الأيدي الخطأ فستتحول منطقة شمال أفريقيا إلى منطقة حظر للطيران ". وكان مدير المنظمة قد تحرى عن ذلك وتأكد له اختفاء تلك الأسلحة. فمنظمة القاعدة في المغرب العربي كانت قد اختطفت في الماضي القريب غربيين وطالبت بفدية، وهددت بقتلهم في حالة عدم تلبية مطالبها. وتنشط هذ المنظمة في الجزائر ومالي وموريتانيا والنيجر والسنغال وتطمح للسيطرة على كل أفريقيا. وما لم يذكره الكاتب في مقاله تلك الكميات من الأسلحة التي ألقت بها الطائرات الفرنسية والبريطانية من الجو في مناطق عديدة ليبية بهدف تشجيع أعمال المقاومة ضد أنصار القذافي. الفرنسيون والبريطانيون يعرفون جيدا تداعيات ذلك على الاستقرار في ليبيا بعد القذافي، فأعمال العنف ستتفجر ليس ضد بقايا قوات ومناصري القذافي، فالليبيون كانوا إلى فترة قصيرة مضت من مناصري القذافي، لكن العنف الذي سيتفجر وشيكا هي أعمال الانتقام والأخذ بالثأر. فالقبلية المتأصلة في المجتمع الليبي لن تتساهل في خرق تقاليدها، وبخاصة في مسألة الأخذ بالثأر من أولئك الذين تسببوا في قتل أبنائهم بصرف النظر من يكونوا.

واذا كانت الأمور ستجري بهذا الاتجاه فان الفرحة بسقوط القذافي الذي تمناها البعض لن تستمر، فما أن يحل الاسلام السياسي، أيا كانت ماركته المسجلة، ايرانيا، أم باكستانيا، أم سعوديا فسيحيل أهله الى قتلة ومنحرفين وعصابات سلب ونهب لا قيم أخلاقية ووطنية لهم. وسيجد المجتمع الليبي الموحد لحد هذا اليوم نفسه في حرب مع نفسه، بين التسامح الذي عرف به والتشدد الذي تحاول فرضه الجماعات الاسلامية الممولة خليجيا. كما سيحتدم الصراع حول المواقع الحكومية، الأراضي الزراعية والمساكن، وحول عقود اعادة البناء التي ستباع وتشترى بين الشركات المحلية والأجنبية، وحول العمولات التي تمنحها الشركات الأجنبية لشراء الذمم على حساب المصالح الوطنية.

 واذا ما رغب بعض الليبيين الباحثين عن الثراء السريع وبالمزيد من الفرص لسرقة المال العام فليذهبوا لعراق اليوم الذي حرره الأمريكان قبلهم، للاستفادة من دروس الفساد والفاسدين. اما عراق الأمس الذي أحبوه أخا وشقيقا وصديقا، نزيها ـ قويا – كريما - وشهما، فليعتبروه في عداد الموتى.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 22/أيلول/2011 - 23/شوال/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م