إن أسوأ ما يوجد على الأرض هو
الطاغية (أفلاطون)
سؤال يطرح نفسه بقوة وإلحاح في أدبيات الربيع العربي وهو سؤال أرق
كثيرا من المفكرين والباحثين والدارسين، ويأخذ هذا السؤال في كثير من
الأحيان طابع الإدانة للثورة الشبابية بوصفها حركة دينية في مضمونها
وجوهرها. وقد لا تخلو ندوة أو جلسة أو حوار حول من طرح واضح المعالم
لهذا السؤال الكبير حول دور المساجد في الثورات العربية في تونس ومصر
وليبيا وسوريا واليمن، وقد لا يخلو الأمر من امتعاض أو شك أو نقد يتعلق
بطبيعة هذه الثورات واتجاهاتها الفكرية. وكثيرون هم الذين يتوجسون خيفة
من هذا الأمر ويغمزون من طرفه، وقد تجلى هذا الغمز في كلام صريح للشاعر
السوري الكبير أدونيس الذي أخذ على الثورة السورية أنها تتدفق من أبواب
الجوامع وبوابات المساجد لا من أبواب الجامعات والمدارس والنقابات
والمؤسسات والأحزاب السياسية. وإنني أقدر عاليا ما يذهب إليه أدونيس إذ
كان يتمنى أن تكون الثورة ثورة وطنية شاملة تعبر عن كل الفئات والقوى
السياسية في المجتمع ,
وهكذا يريد أهل الدراية والعلم أن تخرج الثورة من حرم الجامعات قبل
أن تخرج من حرم المساجد ودور العبادة كي لا يؤخذ عليها بأنها ثورة
بنكهة أصولية، وكنا نتمنى مع المتمنين من أبناء الأمة المتنورين أن
يحدث هذا الأمر العظيم، وأن تتعانق المؤسسات التربوية والدينية
والسياسية في رحلة البحث عن الحرية والكرامة. ويبقى السؤال المزدوج
الكبير مطلا بذاته: لماذا لم تخرج الثورة من رحم الجامعات والأكاديميات
التي تنتشر في طول البلاد وعرضها؟ ولماذا خرجت وما زالت تخرج من رحم
الجوامع والمساجد؟
تتطلب الإجابة عن هذا السؤال النظر في أحوال الجامعات العربية بعامة.
وسؤالنا ماذا بقي من هذه الجامعات غير اسمها؟ هل بقي من هذه الجامعات
التي غالبا ما أطلق عليها حرم العقل والضمير بقية عقل أو ضمير؟ لقد دكّ
الاستبداد كل المعالم الفكرية والأخلاقية لهذه الجامعات فحولها إلى
مؤسسات للقهر والاستبداد جاعلا منها معتقلات للحرية لا معاقل للعقل
وعرينا للقهر لا حرما للضمير. هذه الجامعات تحولت بأهدافها ومناهج
عملها ومضامينها التربوية إلى أكثر مؤسسات الدنيا فتكا بالعقل وهدما
للحريات وانتهاكا للقيم واغتيالا للضمائر الحرة. لقد تحولت الجامعات
العربية في ظل الاستبداد إلى قوة تحاصر العقل والعقلانية وغدت مؤسسات
فاعلة اعتمدتها الأنظمة الديكتاتورية كأدوات في قهر الإنسان واعتقال
حريته ومصادرة كرامته.
لقد غيروا المناهج الجامعية وجعلوها مناهج تبجل قيم الاستبداد
ورموزه وترسخ كل معاني القهر ودلالاته. ومن ثم غيروا أعضاء الهيئة
التدريسية فجاءوا بالمخبرين وعينوهم معيدين ثم أوفدوهم إلى الخارج
وعادوا إلى الجامعة أساتذة مبجلين وعليها قائمين، ورغم السنوات الطويلة
التي قضاها هؤلاء في الجامعات الغربية فإن ذلك لم ينسهم أبدا لذة
الترصد والوشاية بالآخرين ورفع التقارير إلى أسيادهم، حيث مارسوا
مهارتهم ضد زملائهم في الإيفاد ثم عادوا إلى الجامعة للتنافس في ممارسة
هذه العادة الكريمة (الكتابة والتقارير والوشاية والترصد والاتهام ضد
كل ما يلوح لهم في ضوء النهار وفي ظلام الليل ). فتصوروا إلى أي درك من
الانحطاط وصلت بنا الحال في جامعاتنا ومؤسساتنا الأكاديمية اليوم؟
في جامعاتنا كانت مقررات التربية على حقوق الإنسان والديمقراطية
حرام بحرام وجرم يعاقب عليه القانون، وكان كل ما يتصل بهذه القيم يعد
فتنة تؤدي بصاحبها إلى التهلكة، وقد بلغ الحال في بعض البلدان العربية
أنه تمّ تعيين ضباط أمن السفارات من أعضاء الهيئة التدريسية المتفانين
في خدمة نظامهم السياسي.
في لقاء توجيهي جمع بين أعضاء هيئة التدريس في إحدى الجامعات
العربية وأحد المسؤولين كان المسؤول السياسي يحض على قيم المواطنة وخطر
له في سياق حديثه عن المواطنة وحب الوطن أن يروي هذه القصة التي يريد
أن يعبر فيها عن قيمة الوطن والمواطنة وكيف أن الإنسان يجب أن يكون
مواطنا حرا لا يثنيه شيء عن حبه لوطنه. والقصة كما يرويها فيقول "أعرف
صديقا لي أستاذ في جامعتكم المباركة، ترك البلاد وغادرها نهائيا لسبب
تافه، (ثم يضحك ويكاد يستلقي على ظهره من شدة الضحك)، ثم يعاود ليقول
للحاضرين "تصوروا أن السبب في تركه للبلاد والجامعة، أنه مرة أثناء
دخوله إلى الحرم الجامعي ولسبب ما دخل في مشادة كلامية مع الحرس
الجامعي قام على أثرها الحارس الجامعي بصفعه على وجهه وضربه على بوابة
الجامعة “ثم يردف قائلا: “تصوروا أيها الأخوة: هل يعقل من أستاذ جامعي
أن يترك بلده ووطنه وجامعته لأن تعرض لصفعة من حارس على بوابة الجامعة"،
ثم تتمازج ضحكاته العميقة هذه المرة بضحكات وقهقهات الحاضرين استهتارا
وازدراء لهذا الأستاذ الجامعي الذي هجر وطنه لسبب تافه يتمثل في صفع
على الوجه !!
وفي هذه الصورة دلالة عميقة على مدى فهم السياسيين وأهل النظام في
بلادنا لمعنى الكرامة. وهم اليوم بالتأكيد لا يفهمون ولا يستطيعون فهم
هذه الكيفية التي تدفع مئات الألوف من الناس للخروج بصدور عارية
يواجهون الموت ويقتلون من التعبير عن حريتهم والثورة لكرامتهم. والسؤال
ماذا يقي لأستاذ جامعي من الكرامة وهو يصفع على بوابة الحرم الأكاديمي
الذي يعمل فيه؟ هل بعد ذلك من ذل وقهر وإهانة؟ ولكن هذا الأمر لا يساوي
شروى نقير عند رجال النظام في بلادنا الموقرة.
جامعاتنا تعلم الذل والعبودية والخضوع والإكراه والخشوع للحكام
والمستبدين. لقد أفرغت جامعاتنا من كل المضامين الأخلاقية والإنسانية
في مناهجها وفي إعداد أساتذتها (استثنني الشرفاء منهم وهم اليوم قلة
قليلة). في جامعاتنا أيها السادة ألف طريقة للقهر فهناك الحزب القائد
وهناك الاتحاد الوطني للطلبة وهناك نقابة المعلمين وهناك الحرس الجامعي
والمعسكرات الجامعية إضافة إلى الشبيبة والشبيحة وكل هذه المنظمات
والمؤسسات تشكل طوقا أمنيا وأدوات لممارسة كل أشكال القهر والإذلال
والعبودية فأين هو المفرّ.
أمر آخر يتعلق بالمناصب العلمية هذه المناصب بقيت حكرا على سفهاء
المدرسين وأكثرهم قدرة على الولاء للنظام والخشوع لإرادته. وهناك قاعدة
ذهبية لمن يريد أن يصل إلى هذه المناصب افعل ما شئت ارتش اخرق القوانين
ولا تأبه للقيم والأخلاق، خذ ما شئت، ولكن كن للنظام وليا وله وفيا،
عبر عن تماهيك بالمتسلط، وافعل ما شئت،وستصل إلى أعلى المراتب في
الجامعة، لا بل ستحظى بأعلى المناصب وليس في هذا القول مبالغة فالضمير
في الجامعة بضاعة رخيصة قيمته أن تتفانى في حب النظام والولاء له،
والأخلاق تتمثل في أن تتماهى بالنظام وكل رموزه، أي: أن تخضع وأن تركع
فقط ولك ما شئت!
وسؤالي كيف يمكن لمثل هذه الجامعات أن تكون معقلا للحرية ومنتجعا
للثوار ومنطلقا للأحرار؟ كيف يمكن لمثل هذه الجامعات أن تخرج جيلا يؤمن
بالحرية والكرامة وحقوق الإنسان؟ وإنني لعلى يقين بأن أكثر خريجي هذه
الجامعة لم يقرؤوا كلمة واحدة عن حقوق الإنسان، أو عن الديمقراطية، أو
عن تاريخ الفكر السياسي والأخلاقي.
أليس غريبا ألا نرى في الثورة واحدا من أساتذة الجامعات ينضم إلى
صفوف المنافحين عن الثورة أو أن يكتب كلمة يراعي فيها الحق والحقيقة؟
أليس مألوفا اليوم أن نجد عشرات من هؤلاء الأساتذة يتصدرون الشاشات
ليناهضوا عن الاستبداد والمستبدين عن الظلم والظالمين عن القهر
والقاهرين؟ وعلى حين غرة تصبح هذه الجامعات من أكثر الجامعات تفريخا
للمستبدين من المفكرين وفقهاء السلاطين؟
وهنا نكون قد أجبنا عن الشطر الأول من السؤال وهو لماذا لم تخرج
الثورة من بوابات الجامعات وحرمها. فالجامعات باختصار مؤسسات للقهر
والعبودية والإكراه ـ أنها أدوات للهيمنة والسيطرة في أيدي النظام
السياسي، وليس غريبا أن يقوم طلاب الجامعة بإخماد تظاهرات المحامين
والحقوقيين في كثير من الحالات التي شهدناها في الربيع العربي. لقد
تحول الطلاب في جامعاتنا الموقرة إلى عبيد وأقنان وأدوات خرساء ضد
الثورة والحق والقانون.
أما السؤال الثاني فهو لماذا خرجت الثورة من حرم المساجد وبهو
المعابد؟
لم يكن المسجد نائيا عن استراتيجيات القهر والتسلط. بل كان في عمق
التفكير الاستراتيجي للأنظمة السياسية. ولم تأل هذه الأنظمة جهدا في
تحويل مساجد الله إلى مكان للعبودية والقهر والاستلاب والاغتراب. لقد
نجحت بعض الأنظمة في تحويل المساجد إلى مؤسسات جديدة للقهر والاستلاب؟
فتم إغراء العلماء وشراء الفقهاء، ففي قصور الحكام يتم استقبالهم حيث
يتصدرون المجالس والموائد الرمضانية، فحظوا بالامتيازات وأغدقت عليهم
المنح والإكراميات، فأفسدتهم الأنظمة بمطامع الاستبداد والتسلط على
العباد، لقد شكلت الأنظمة العربية الاستبدادية جيشا جرارا من فقهاء
السلطان الذين أفسدوا في البلاد وعبثوا بالقيم ولامسوا الاعتقاد. فكانت
دور الإفتاء ووزارات الأوقاف التي أوقفت على حب النظام والعبودية فأصبح
لسان حالهم يجاهر بحب السلطان، وجيوبهم تنتفخ بماله، وقلوبهم تنافح عنه،
وخطبهم تدك عقول البسطاء، ولولاهم لدُكَّ النظام دكّاً وفتك به فتكاً.
وما أكثر هؤلاء الفقهاء الذين لعبوا دورهم الكبير في كسر إرادة الثورة
وإبطاء مسارها ولو إلى حين. وكلنا يعرف الجهود الكبيرة التي بذلها
هؤلاء الفقهاء في تخدير الناس وإصدار الفتاوى التي تحض على الرضوخ
والاستسلام "والاستزلام" حتى أن مدناً بكاملها رضخت وانحنت لإرادة
النظام فما قامت فيها ثورة ولا انتفض منها بشر.
ولكن المشكلة الكبرى التي واجهتها الأنظمة تمثلت في عدم قدرتها على
تغيير القرآن الكريم، كما لا يمكنها تغيير الأحاديث النبوية الكريمة
وسنة النبي الأطهر وأحاديثه النبوية، إذ لا يمكن تغييرها وتبديلها كما
تم تغيير مناهج الجامعات ومقررات المدارس والمؤسسات، فبقيت هذه المصادر
المقدسة مصدر إلهام للثورة بما فيها من قيم الحق والعدالة والخير
والمساواة والرحمة، فكانت هذه القيم على السلطان وبالا وعلى المستبدين
نزالا، فاندفع الشباب المسلم بطاقة روحية خلاقة إلى مواجهة الموت طلبا
للحرية والعزة والكرامة. فالجامع ليس جامعة ومنهجه لا يقبل التغيير،
إنه يمتلك طاقة روحية كبرى دفعت بالملايين إلى الساحات، وبالشرفاء من
الشباب إلى مواجهة الملمات، فخرجوا من مساجدهم يطلبون الموت من أجل
الحياة الحرة الكريمة التي لا تنفع فيها أيديولوجيا الضالين وهمجية
القتلة والسفاحين.
نعم لقد لعب المسجد دورا حضاريا وتنويريا ولولاه لكان قدر هذه
الأمة أن ترفل في العبودية إلى حين وحين، وفي هذا فضل من الله على
المؤمنين جميعا.
إذا كان الجامع يغير إلى الأفضل، فما الضير في مسجد يدفع إلى الثورة
والتغير، وما الضير في جامع ينهضنا إلى الحق ويحض على الخير والعزة
والكرامة. فالأحرار والعلمانيون والمتنورون يجب أن يقدموا كل العرفان
والتقدير للمسجد والدين والمؤمنين، فأهل الإيمان الذين انطلقوا بهذه
الثورات المباركة أسقطوا رموز القهر والاستبداد والاستعباد وهم في
طريقهم إلى إسقاط المزيد. وسيذكر التاريخ أن المسجد لعب دورا حضاريا
إنسانيا خلاقا. ولنفترض بأن الثورة ستأخذ طابعا دينيا فلما لا يكون إذا
كان في ذلك صونا لكرامة الناس وحقوقهم وإنني لعلى يقين بأن الحرية تومض
في الأفق وأن عهدها لقريب.
وباختصار الثورة ليست دينية لأنها تخرج من المساجد، بل هي دينية لأن
الشعب مؤمن بطبيعته وسجيته فمجتمعاتنا مجتمعات مؤمنة وهذا شيء من
طبيعتها وما كان الإيمان بالله يوما وبالا. فالإيمان بالله جمال وحق
وخير وعدل فلما القلق من ثورة المؤمنين وانتفاضة أهل الإيمان. ويكفي
المسجد فخرا أنه أدى الأمانة وأنجز الرسالة وشكل منطلقا روحيا للثورة
والتغيير نحو مستقبل أفضل وأشمل وأجمل.
وإذا كان من كلمة ختام تقال فإننا نقول إن الجامع سيشكل ربما منطلقا
لتحرير الجامعة من قهرها وإطلاقها من دائرة عبوديتها واستلابها. ربما
ستكون للجامع رسالة تاريخية في تحرير الجامعة والمجتمع من أدران القهر
والذل والعبودية والانحدار والانحطاط.
* جامعة الكويت/مركز دمشق للدراسات النظرية
والحقوق المدنية
watfaali@hotmail.com |