العالم والديكتاتور

محمد علي جواد تقي

شكى أحد المقربين من زعيم عربي من تزايد الاتهامات ضده بالديكتاتورية والفردية من الاوساط العامة والمثقفة، وقال متبرّماً، (هل من دليل ملموس على أن صاحبي ديكتاتوراً...؟ ان هذا ليس سوى كلام الناس العاديين)!!

أثارني حقاً هذا الكلام وتذكرت على الفور المثل العراقي المأثور (الله يُرى بالعقل لا بالعين). لا علينا... فقد عثرت شخصياً على ما يطلبه هذا المقرب لكن بالرؤية المعاكسة، وهو عن شخص لم يكن ديكتاتوراً بالدليل الملموس، وذلك خلال حفل التأبين الذي أقيم لذكرى رحيل المرجع الديني الكبير والمجاهد السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره).

 فعندما أجلت النظر على الحاضرين وهم من أطياف مختلفة من علماء دين وطلبة الحوزة العلمية ومن طلبة الجامعات ورجال بالزي العربي وشباب ونساء وآخرين، لم أعثر إلا على اشخاص معدودين شاهدوا المرجع الراحل وسمعوا كلامه عن قرب او التقوا به وتعاملوا معه، بينما الآخرون أخذوا نصيبهم من المعرفة من خلال هذه المهرجانات الخطابية وبعض المؤلفات والندوات التي تحدثت عن شخصية هذا الراحل الكبير الذي مرت عشر سنوات على غيابه عن دار الدنيا.

 والحقيقة – وقبل ان أدون هذه السطور- كنت اتسائل عن سبب هذا الاقبال والتفاعل والانجذاب من هذه الجماهير حول هذا الرجل في مماته بعد ان حجبته غيوم التهميش في حياته، فتذكرت ما روى عنه نجله الراحل آية الله السيد محمد رضا الشيرازي (قدس سره) ذات مرة رفضه الشديد لاتخاذ أريكة له أو كرسي في غرفة الاستقبال لحاجته الضرورية لذلك من الناحية الصحية، وهو المطلب الذي طالما ألحّ عليه الكثير من المحبين والمقربين، أما السبب فينقله نجله الراحل بهذه الكيفية: (أي بُني...! أتعرف ان هناك من لا يجد قرص الخبز ليأكل وتتوقع من أباك ان يجلس على أريكة مريحة...؟! ثم اذا انا جلست على الأريكة وهو عمل مباح، فان الناس سيقتدون بنا وسيتركون الواجب).

ان جلوس المرجع الشيرازي الراحل على (البطانية) ومنها كان يضخ عطاءً ثقافياً ودينياً وتربوياً للرجل والمرأة والطفل وكل شرائح المجتمع، هو الذي جعله شعلة متوهجة في القلوب، بينما لنلقي نظرة على الجانب الآخر ونسمع الطنين والرنين بالشعارات؛ (الديمقراطية)... (البناء)... (مكافحة الحرمان)، وغيرها من جرعات التخدير التي تصدر من الغرف المكيفة والسيارات المظللة والقصور الفارهة المحاطة بجيوش الحماية والاسلاك الشائكة. نعم... قد يبذل هذا الحاكم أو ذاك المال للناس كما فعل المرجع الشيرازي وما يزال يفعل غيره من علماء الدين، لكن شتّان بين الاثنين؛ فذاك ينفق وينثر ليكسب مصلحته السياسية ويضمن بقائه في السلطة، بينما هذا ينفق وينثر ليحقق مصلحة الناس ويضمن سعادتهم في الدنيا قبل الآخرة. حتى وإن كان ذلك على حساب مصلحته وسمعته او حتى حياته.

ليعلم أهل الحكم؛ كما انهم ناضلوا وعملوا سنوات من عمرهم لتحقيق حلم الجلوس على كرسي الحكم، فان الديكتاتورية والفردية هي الاخرى تنمو وتترعرع في محيطها المناسب مع مرور الايام، وإلا لا يولد الانسان وبيده عصا الديكتاتورية، ومعروف عن كثير من الطغاة والحكام المستبدين ان بداية حياتهم كانت مليئة بالحرمان والفقر.

كذلك الحال بالنسبة لعالم الدين الذي يضع قدماه منذ صباه على طريق الزهد والتواضع ومخافة الله تعالى، فلا يمكن لاحد اتهامه بالفردية والديكتاتورية لانه بالاساس بين الناس ومنهم واليهم.

وهذا هو حال المرجع الشيرازي الراحل الذي مرت قبل أيام ذكرى رحيله، فهو مثير في اذهان الاكاديميين الذين لا يبرحون يدرسون حياته وفكره ومؤلفاته، وهو حيٌ نابض في قلوب عامة الناس تهفو اليه كلما جاء ذكره، أما الجانب الآخر، وهو ما يدعونا للأسف حقاً ان يتوقع الناس دائماً موت هذا الزعيم او ذاك. وكيل الاتهام الى هذا بالفساد والمحسوبية والى ذاك بالفردية و... غير ذلك كثير. "والعاقبة للمتقين".

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 19/آب/2011 - 20/شوال/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م