قصص قصيرة جداً

نهار حسب الله/بغداد

تقسيم

في زمن  قديم.. حيث كانت الحياة ربيعاً دائماً.

كان الجمال ينساب في قلب الطبيعة.. يرسمها أنغاماً وألحاناً وألواناً ووروداً.

ويوم خلقت النار وإبليس والجنة وطين آدم.. والفصول الاربعة؛ دخل الكون في أزمة جدلية لم يعرفها من قبل.. وهي إشكالية تقسيم الفصول وبات كل فصل يبتكر سبله لدعم تشبثه وبقائه لأطول مدة ممكنة.. صارت الفصول الاربعة تعمل على تهميش بعضها الآخر.. مما أثار حفيظة وغضب السماء وإرغامها على تقديم كل الفصول في يوم واحد، غير آبهة للنزاعات الناشبة بينهم.

تابعت الخليقة خطى تكوينها المتعثرة من دون وضع نهاية لذلك الصراع، حتى خلق قابيل وهابيل يتبعهما فصل جديد.. فصل له حق التسيد والتسلط على الجميع من دون السماح لاعتراض اي فصل منهم، ذلك لقدرته على نفي من لا يرغب بوجوده.

كشف جبروته واعلن تفرده بقانون رسم حدوده لما يناسب بطشه وبسط إرادته..

استهل ظهوره بارغام الشتاء على زيادة منسوب امطاره وتكثيف سرعتها.. لتكون قبوراً على الارض تحضيراً لما ستنجبه الحياة مستقبلاً، واستغل حرارة الصيف ليحول دفئه الى محرقة للمعارضين، فيما أمر الخريف باقتلاع جذور الشجر وتدمير الحشائش، واكتفى بحجب الربيع عن الظهور، ليفصح عن اسمه بتفاخر وتعالي قائلاً عن نفسه (انا فصل الدم الخالد) فاطيعوني بلا تقسيم.

 

المُصور

يعشق حد الوله والجنون تصوير الطبيعة والابحار في عالم أسرارها، كان يحلم بزيارة بلادنا على وجه الخصوص ليكشف جمالها وتاريخها الماجد وتراثها الاغر.

جَهز معداته وكامراته الاحترافية على أمل ان تسنح له الفرصة لتحقيق مبتغاه، صبر وانتظر حتى يحقق مناه.

التقط آلاف المشاهد التعبيرية، رصد صوراً نادرة لم يسبق لغيره ان صَوّر شبيهاً لها، ليعود إلى بلاده معلنا عن إقامة معرض فوتوغرافي بعنوان (هدوءاً ايها العنف)..

ضم المعرض صورة لطفل يحتضن يده الصناعية برفق بعد ان فصلها عن كتفه، وأخرى لشابة يستحي ضياء القمر من بهائها كانت تحمل اصبعها من على الرصيف بعد ان طمعت به شظية سيارة مفخخة، وصورة أخرى لعربة (حِمل) خشبية تحمل جثة صاحبها غاطسة بالدم.

وتميز المعرض بصور نادرة كصورة مسجد سجد على مصليه غير آبه بتضرعاتهم ومناجاتهم  الى السماء، واخرى لأسد يبكي خوفاً من فريسته وصورة لاحقة تتعلق بحذاء قديم كان قد ارتداه صاحبه ووضعه فوق وجهه ليفضح عوزه.

حقق المعرض شهرة واسعة وكون لصاحبه أرباحاً طائلة.. معلناً تجاوزه الصور الطبيعة واصفاً إياها بالمستهلكة، ليغير مسار عمله الى مصور حربي، ومن ثم ليزور بلادي مرة أخرى وعلى متن طائرة مقاتلة هذه المرة.

 

هي في مكان آخر..

عاشت في صميم قلبي قبل مولدي وكإن الرب أسكنها فيه قبل أن أرى النور.. لافتح عيني واكتشف وجودي على رؤياها.

اشعر بأني لم أخلقْ إلا من أجل حبها.. من أجل ضياء عينيها وأنغام صوتها الانثوي الخريري العذب.

غير إنها وَلتْ الى مكان آخر.. مكان اكثر بعداً من الاساطير.. مَضت دونما إشارة او تنبيه وغابت في آفاق مجهولة.. تلاشت كنجمة في السماء دهمها واخفاها النهار.

فتشت عنها في الشوارع والازقة.. في نفسي وفي فكري وأحلامي واوهامي، ولم اجد لها وجوداً إلا في دمعي ومناجاتي.

توسلت بكل من له سلطة وجاه.. تمنيت الوصول إليها ولو كانت في جهنم... الى ان وصلت الى ذلك المَلكِ الشيطاني الذي اُعد لزهق الارواح وكبت الانفاس ليس إلا.. توسلت مساعدته وأهديت روحي ثمناً لطيفها، تحملت عجرفته ولامبالاته.

وبعد طول عناء لم يكشف لي مكان وجودها مع ذلك الكم من التوسل.. لكنه قال:

- اطمئن... إنها في مكان آمن.. ولكن اكرهْ ان تكون معها الآن.. لأنك لازلت على قيد الحياة.

 

معزوفة

سأرقص على أيام ذاكرتي.. واغتسل بانهار دموعي، لاجعل من جسدي عشباً اخضراً متجدداً.

سأغظ النظر عن أوجاع الوجود، وأصم آذاني عن آهات الألم، وابتعد عن الاحياء الذين حولي..

كل هذا لأني مشغول بتأليف معزوفة تطرب الموتى وتحول سكون قبورهم الى صخب موسيقي قلما نشهده.. سأفتتح من لحودهم حانات صغيرة، واغير عتمتهم الموحشة الى رومانسية تفتقر الى العتمة والهدوء..

سنرقص.. سنشرب.. سنضحك جميعاً في المقبرة على معزوفة جديدة تحتفي بكل قادم.

 

صدأ الورد

ذات مساء مترب خانق.. استولت عصابة مسلحة على داري..

نهبوا وعبثوا واغتصبوا كل شيء حتى عرضي ومقدساتي، سرقوا كتبي وأقلامي ودفاتر ذكرياتي.. اقتلعوا ورود حديقتي التي ارتوت من ماء وجهي.

انجلت الايام وطواها الزمن.. وبيعت كتبي وايامي بابخس ثمن.. وزُرعت الورود في حديقة اخرى، إلا انها كانت أكثر وفاءً من تاريخي، لانها ظلت ترفض العيش في تربة مغتصبة وكانت ترغم نفسها وتسترجع دموعي التي روتها لتحولها الى صدأ ابيض مالح يطغي على جمالها ويقتل وجودها.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 18/أيلول/2011 - 19/شوال/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م