الفلسفة بين الأدلجة والتسييس

زهير الخويلدي

التسييس هو بعيد أن يكون مجرد انعكاس للمصالح الاجتماعية هو أيضا مواصلة للثقافة بطرق أخرى

 

لا نستطيع أن نتفلسف دون أن نعير اهتماما بالواقع الاجتماعي ونسهم في تغييره ولن ندخل الى رحاب الفلسفة بالمعنى الملموس للكلمة اذا ما أدرنا ظهرنا الى المشاكل السياسية لعصرنا وذهبنا بعيدا في تفكيرنا خارج الأطر الاجتماعية للمعرفة.

لقد كان جيل دولوز مخلصا الى هذه الفكرة حينما بيّن أن السياسة تأتي قبل الوجود الانساني وبالتالي وجود انساني دون فعل سياسي ومشاركة ميدانية وتحمل للمسؤولية لا يستحق أن يعاش ويكون فاقدا للمعنى.

 أما ميشيل فوكو فإنه جعل من الاهتمامات السياسية المادة المفضلة للفيلسوف وكأن الفلسفة تنتعش عند الأزمات النفسية والاقتصادية ويتزايد الاقبال عليها حيث تتفاقم المشاكل الاجتماعية وتظهر العديد من الوضعيات القصوى مثل الفقر والبطالة والحرمان والقهر والمنع.

من المعلوم أن الفلسفة تطبخ في عقول المفكرين الأحرار عند اقبالهم وادبارهم ويتلقفها الباحثون عن الحكمة والتائقون الى الوجود الأشرف ولكنها تتكلس في مخابر الجامعة وتتعرض الى قولبة وتدجين.

ومن المعلوم أيضا أن السياسة تصنع في الشارع والساحات من قبل العمال والثوار وتحفظ في قلوب الرجال وربات الحجور ولكنها تصادر وتحتكر من قبل محترفي الخداع والكذب وصائدي المصالح والفرص.

بيد أن المتفلسف لا يقف عند تحليل الوضعيات المتأزمة وتشخيص الأمراض وطرح الاشكاليات بل هو كذلك يساهم من موقعه النظري وانتمائه الثقافي في ايجاد مخرج وتقديم أجوبة واقتراح تصورات والعناية بالذات وتقديم استراتيجيات بديلة لجماعته السياسية ويضع نفسه على ذمة الكوكب الذي يسكنه.

يمكن أن نميز بين ظاهرتين وهما تسييس الفلسفة بمعنى توظيفها حزبيا وسلطويا وذلك عندما تعمد جهة معينة الى توظيف الفلسفة لمصالحها الضيقة ومحاولة تطويع الأفكار الفلسفية لبرامجها ومخططاتها الخاصة، ثم انخراط الفيلسوف في الشأن العام وممارسة مواطنته والاسهام في تشريع القوانين واحترامها.

ان المتفلسف الحقيقي هو الذي ينتصر الى التاريخ على حساب البنية وينغمس في التجربة اليومية عوض الاحتماء بالنظرية المجردة ويضع الانسان نصب عيني عوض التركيز على الأشياء والمادة ويكون واعيا بأهمية الحياة بدل الخوف من الموت والتنظير الى العدم ويقوم بتثوير طرق انتاج المعرفة بدل المحافظة على الآليات القديمة وتكرار نفس المقولات واجترار الآراء الشائعة والانسياق وراء الثقافة المعولمة.

ان اقتحام المجال السياسي من طرف مريدي الحكمة لا يعني بالضرورة أدلجة المعرفة وتسييس الفلسفة بقدر ما يدل على الاحتكام الى العقل في الخلافات بين وجهات النظر المتصارعة واعطاء الكلمة الى الفلاسفة من أجل أن يفصلوا المقال في ما بين الناس من خلاف واتصال وأن يحددوا وجهة المجتمع عند المنعطفات ويضعوا له برنامج عمل المرحلة القادمة ويساهموا في التأسيس والاسترجاع واعادة البناء.

لكن هل يقتضي كل الانخراط في العملية السياسية التزاما حزبيا معينا؟ وماهي المخاطر التي يقع فيها الفيلسوف جراء الالتزام الحزبي؟ وما العمل لتفادي ما وقع فيه هايدغار زمن الحكم النازي؟ وكيف يكون الفيلسوف مثقفا عضويا بالمعنى الذي يقصده أنطونيو غرامشي؟ وهل المطلوب هو استكمال الثورة أم المشاركة في الانتخابات والفعل النضالي الميداني في اطار اللعبة السياسية؟ ولماذا يمثل الترشح ضمن قائمات مستقلة ضرورة وطنية؟

المستقلون غير المنتمين الى الأحزاب والمنشغلون بمستقبل البلاد ومسار استكمال الثورة من شعراء وكتاب وصحفيين ومحامين وعاطلين وطلبة وشباب ومثقفين وعاملين مطلوب منهم اليوم وليس غدا الاصطفاف ضمن قوائم مستقلة والترشح لانتخاب المجلس التأسيسي وذلك لعدة اعتبارات أهمها:

- الحلم بتنظيم أول مرة انتخابات حرة ونزيهة في الوطن وعدم تفويت هذه الفرصة التاريخية التي وهبها الشعب للمهتمين بالشأن العام والمشاركة الفعالة فيها والمساهمة الايجابية في الانتقال الديمقراطي من لحظة الثورة الشبابية الى لحظة بناء الدولة العصرية.

- مرونة القانون الانتخابي وسماحه للمستقلين بالمشاركة ضمن قوائم عن كل الدوائر والترشح بشكل فردي مع ضمان نفس الحظوظ مع بقية الأحزاب والهيئات السياسية.

- التصدي للثوريين الجدد والملتفين على منجزات قيامة 14 جانفي من قوى الارتداد والمتسلقين والمتزلفين صائدي المواقع وقانصي الغنائم والزعامات الفارغة والعمل على ارادة الحياة وتكريس الاختلاف والتنوع والتعددية فعليا والحيلولة دون اعادة انتاج نفس المنظومة التسلطية والقطع مع الشمولية.

- الايمان بقدرة شباب الثورة ونسائها على العطاء والبذل وفسح المجال أمامهم من أجل الترشح بشكل مستقل وتعزيز الثقة لديهم في امكانية التعاون على صناعة المستقبل بالنسبة للوطن وخلق نخب سياسية جديدة تمثل تونس العماق وتعبر عن جميع الشرائح ومختلف الجهات والأطياف.

- العمل على تكوين قوة جذب مضادة لمشاريع الهيمنة واستراتيجية السيطرة والأدلجة الزائفة والنظريات القديمة التي بين التاريخ فشلها وبدأت تتهاوى أمام الأنظار وتحقيق المصالحة مع الدين وحماية المقدسات والدفاع عن الطبقة العاملة والقوى الثورية و اعادة الاعتبار الى القومية العربية والنهج الوحدوي ضمن رؤية جديدة و ضمان الحريات الشخصية واعطاء الحقوق الثقافية للأقليات.

- اقتراح جملة من الأفكار المبتكرة والمبادئ التجديدية التي تعكس الحراك الشعبي والثورة الثقافية والمساهمة في كتابة دستور عقلاني يواكب التطورات الحضارية ويحترم روح الهوية والمدنية.

لكن الى أي يمثل الابقاء على وضع الاستقلالية التنظيمية حلا للورطة الحزبي وحفظ ماء الوجه من التلوث فصائلي وتوجها نحو الفعل السياسي بالمعنى النبيل للكلمة؟

* كاتب فلسفي

.....................................

المرجع:

Louis Pinto, la théorie souveraine, les éditions du CERF, Paris, 2009

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 18/أيلول/2011 - 19/شوال/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م