نظام القذافي.. نظرة من الداخل بعيون عراقية

علي الأسدي

" العبد هو من ينتظر من يحرره "

(الشاعر عزرا باوند )

 

عندما ابتهج العراقيون بسقوط النظام الصدامي وهلل بعضهم بالقوات الأمريكية التي أسقطته استنكر الليبيون التصرف العراقي، وكانت اشارات عدم الرضا قد وجهت للمواطنين العراقيين العاملين في ليبيا حينها، بعد أن كانوا يحظون بتقديرهم حتى تلك اللحظة، فصدام بالنسبة لأولئك الليبيين بطلا قوميا لخوضه الحرب ضد الفرس دفاعا عن البوابة الشرقية للوطن العربي.

الآن يقترب المسلحون الليبيون من النصر على آخر معاقل القذافي، بفضل صواريخ وقذائف طائرات الناتو، وبمساعدة قوات خاصة بريطانية وفرنسية على الأراضي الليبية لإرشاد قيادة الناتو الى المواقع المستهدفة على الأرض. نشوة النصر على القذافي ربما ستجعلهم يشعرون بالاثم لإساءتهم معاملة العراقيين عام 2003 وما بعدها، وربما سيعبرون عن اعتذارهم لهم، لكنهم لن يجدوا من يعتذرون له فقد غادروا ليبيا بعد أن خدشت مشاعرهم وامتهنت حقوقهم. ليس هذا موضوع المقال، انما كانت الاشارة إلى ذلك ضرورية قبل الخوض في الحديث عن الحالة الليبية وتعقيداتها إبان حكم القذافي ومابعدها.

قوى المعارضة الليبية تستعد هذه الأيام لشن هجومها على آخر معاقل القذافي في سرت وسبها والجفرة وجيوبا صغيرة أخرى أقل أهمية، إنما الأهم فيما تحقق لحد الآن هو طرابلس العاصمة التي أصبحت تحت هيمنة طائرات حلف الناتو بعد سلسلة من الغارات على مواقع عسكرية ومدنية كان يتحصن فيها بعضا من أنصار القذافي من مدنيين وعسكريين. لكن ما يزال الغموض يحيط بحجم تأييد الطرابلسيين للمسلحين الذين انطلقوا من مدينة بنغازي خاصة، وفيما اذا كان دخولهم طرابلس يشكل تحولا مهما في العمليات العسكرية التي بدأت في 17 آذار/مارس الماضي. ويظل السؤال المهم بدون اجابة واضحة أو شافية، وهو: هل دخول طرابلس شكل انعطافة كبيرة لصالح قيادة المجلس الانتقالي باعتباره الممثل الشرعي للمعارضة الليبية، أم بداية لانتكاسة سياسية لم يتوقعها قادة المجلس، وكذلك أولئك الذين احتفلوا في الساحة الخضراء بانتصارهم على مقاومة الطرابلسيين؟

قد تعتبر المعركة التي خاضها مسلحو الشرق على الطرابلسيين " بأم المعارك " على غرار " أم المعارك " التي خاضها صدام حسين في حرب الثماني سنوات مع الايرانيين في الثمانينيات من القرن الماضي. لكن معركة صدام حينها كانت مع " الفرس المجوس " التي حظيت حينها بمباركة أكثرية الليبيين سواء كانوا من الشرق أو الغرب الليبي، أما معركة طرابلس فبين الليبيين أنفسهم، ولا يمكنهم ولا يحق لهم أيضا أن يعتبروها انتصارا، فالدماء التي سالت في شوارع طرابلس كانت ليبية وعلى الأرض الليبية وبين ليبيين كلا منهم يعتقد انه على صواب في الدفاع عن مصير بلاده، فليس هناك عدوا أجنبيا يحاربونه، وبالتالي فمن سقط في معركة طرابلس ومصراته وبن وليد والبريقة وتاجوراء وترهونة وغيرها من المدن هم شهداء ليبيين سيتذكرهم أهاليهم وأقاربهم وأصدقائهم بالحزن وبالاعتزاز والذكر الحسن.

وحتى تنجلي الأمور أكثر يجب علينا الانتظار بعض الوقت لنعرف تبعات ما جرى، فللقبلية والبداوة رأيا أخر فيما حدث، وبعدها سيكون بامكاننا قول ما لم يكن بوسعنا قوله الآن. فما جرى في ليبيا خلال الشهور الستة الماضية سيكون موضوع تقييم المؤرخين والمحللين السياسيين، وسيكشف المستقبل عن حقائق، ويزاح اللثام عما جرى خلف الكواليس في واشنطن وباريس ولندن وقطر والرياض وأنقرا، عند ذلك تسود وجوه وتبيض أخرى.

أوردنا هذه المقدمة تمهيدا لمحاولة التعرف على ما يمكن أن تتمخض عنه الانتفاضة الحالية، وفيما اذا ستحقق السلطة الجديدة ما لم تحققه السلطة خلال الحقبة القذافية التي ستؤول قريبا إلى الماضي. المجتمع الليبي أكثر المجتمعات العربية في المغرب العربي تعلقا بالقبلية، لكنه بنفس الوقت يماثلهم في التفاني بحب الوطن والعقيدة الدينية والمذهبية السائدة وتأديته للطقوس الدينية والتزامه بأصول الدين الاسلامي من حج وعمرة وصلاة وصوم وزكاة، لكن من دون التزمت الذي يتميز به مسلمو بعض بلدان المشرق العربي.

شكل الطلبة والأساتذة في الفترة التي سبقت انقلاب القذافي النواة لحركة ديمقراطية فتية كانت تعمل بأسلوب سلمي لنقل بلادها إلى نظام ديمقراطي تترسخ فيه تقاليد التداول السلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع. وحينها حاول بعض أساتذة الجامعات تكوين تنظيما ماركسيا كخطوة أولى لتأسيس حزبا شيوعيا ينطلق تنظيمه ونشاطه من ثاني مدينة ليبية بعد طرابلس وهي بنغازي على غرار البلدان العربية المجاورة، فليبيا البلد الوحيد في المغرب العربي الذي ليس لها حزبا شيوعيا. وقد مهدوا لذلك من خلال اتصالهم بعراقيين مقيمين مؤقتا للعمل في التدريس الجامعي، كانوا موضع ثقة أخوانهم الليبين. وكان لتلك المجموعة علاقة ببعض زملائهم من العاملين في طرابلس ممن كانوا على صلة بهم أثناء دراستهم في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا الغربية سابقا. لكن تلك المحاولات أحبطت بعد انقلاب القذافي في عام 1969 قبل أن ترى الحياة، حيث تم التنكيل بهم واعتقال العديد منهم، وهرب آخرون إلى خارج البلاد، وتخلى البعض الآخر عن مواصلة نشاطه، ولم يكتفى بذلك بل قامت الجرافات بازالة بيوتهم وتحويلها إلى أرض فضاء. وايغالا في فرض سلطته الفردية ابتكر القذافي أسلوبا غوغائيا لغسل أدمغة المجتمع الليبي، وبخاصة الأجيال الشابة منه، فأشاد نظاما شبه بوليسي يعتمد على اجبار الشبيبة للانخراط في تركيبته ونشاطه والترويج له داخل ليبيا وخارجها. وعبر الترغيب والتخويف اضطرت الحركات الفكرية والسياسية المحدودة جدا إلى العمل تحت الأرض أو خارج البلاد، بينما انصاع آخرون وساروا مع المهرجين، ومع كل الحذر الشديد من قبل من أصروا على الاستمرار وقع بعضها في أفخاخ النظام الذي كانت له عيون في كل زاوية من زوايا المجتمع الليبي.

 وخلال فترة حكم القذافي ومنذ استلامه السلطة عام 1969 وعلى غرار ما كان يتبعه قدوته ومثله الأعلى حينها الرئيس جمال عبد الناصر، شن القذافي دعايته وركز جهوده بشكل مكثف لمحاربة الشيوعية، لا لخشيته من حزب شيوعي قوي قد يهدد سلطته، ولكن ليثبت للغرب وللولايات المتحدة بشكل خاص أن انقلابه والسلطة المنبثقة عنه لا تمت للشيوعية بصلة، وأنه عدوا لدودا لها، وبناء عليه يمكنهم الثقة به والتعويل عليه في محاربتها في المنطقة. وقد صدق، فعندما حدث الانقلاب العسكري ذي التوجه اليساري ضد رئيس السودان حينها جعفر النميري عام 1971، كان بعض المشاركين فيه في بعثة تدريبية في بريطانيا وقت الانقلاب قفلوا عائدين للوطن بناء على طلب رفاقهم قادة الانقلاب. عندها تلقى القذافي أوامر من سادته في واشنطن ذلك الوقت بالتصدي للطائرة التي يسافر على متنها الضباط السودانيون الشباب، فلم يتردد، فقام على الفور بارسال طائراته العسكرية صوب الطائرة المدنية التي كانت في الأجواء الليبية باتجاه بلدهم السودان المجاور وأجبروها على الهبوط في مطار طرابلس. كانت الخطة هي تأخير وصولهم إلى السودان، ريثما تنجح محاولات افشال الانقلاب، لأن الضباط العائدين يعتبرون مصدر قوة لقادة الانقلاب.

 لقد أصيبت الدول الرجعية العربية بالرعب منذ لحظة الاعلان عن الانقلاب، فبذلوا ما استطاعوا لانقاذ نظام النميري بأي صورة ومنع وصول الضباط إلى العاصمة السودانية، وهذا ما حصل بالفعل. فبعد فشل الانقلاب لم يطلق القذافي سراحهم، او يعيد الطائرة إلى مطار هيثرو في بريطانيا كما تنص على ذلك قوانين الطيران المدني، بل أراد أن يثبت بالدليل القاطع أنه عبد مخلص لا يضاهيه في عمالته أحد وأنه يمكن الاعتماد عليه، فقام بتسليمهم يدا بيد للنميري وهو على علم بالمصير الذي ينتصرهم، وبتصرفه ذاك أثبت خروجه حتى عن التقاليد العربية وقيمها، ولم يثنيه عن جريمته تلك طلب بريطانيا منه في أخر لحظة بأن لا يفعل. لقد تم اعدام الضابطين بعد فترة وصولهم بفترة قصيرة، برغم احتجاج منظمات دولية عديدة وزعماء دول ومسئولين كبارا في العديد من دول العالم.

لقد نجح القذافي نجاحا باهرا في مهمته التي جاء من أجلها، وهي تصوير الشيوعية في مخيلة الليبيين بكونها الشر الأعظم، والأثم الأعظم، والكفر الأعظم، وجريمة لا تكفي جهنم عقابا لمرتكبيها. وما تزال أفكار القذافي التي بثها خلال حكمه سارية ومتفشية في عقول الليبيين لحد اليوم بما فيهم المسلحون ومعارضيه، والغريب أنه فعل ذلك في بلده الذي لم يتأسس فيه حزبا شيوعيا أو ديمقراطيا قد يكون مصدرا لانتشار الشيوعية، فهو كان يحارب عدوا غير موجود أصلا.

لقد عمل القذافي في بداية حكمه على تأسيس تنظيم مماثل لذلك الذي أقامه الراحل عبد الناصر باسم الاتحاد الاشتراكي في مصر، لكن وفاة عبد الناصر أفشل ما كان ينوي تأسيسه. فحاول القذافي أن يحتل موقع الراحل عبد الناصر بتقمصه شخصيته، ورفع شعاراته، والسير بالاعلام الليبي بالاتجاه نفسه الذي سار عليه عبد الناصر، فلم يحظى بقدر ولو ضئيل من تراثه وقدراته وشخصيته المؤثرة التي فاقت خيال القوميين العرب المهووسين حينها بالوحدة العربية والقومية العربية التي كان عبد الناصر يرددها في خطاباته التي تستمر ساعات. لم يكن القذافي الوحيد الذي حاول البناء على الأرض نفسها التي سبقه فيها عبد الناصر، بل كان للقذافي الكثير من المنافسين في الغوغائية، حيث سبقه بذلك البعثيون والناصريون والقوميون العرب في البلدان العربية وبخاصة في سوريا والعراق الذين تصدروا المسرح السياسي على حساب الخطاب الناصري.

وبعد سقوط ورقة عبد الناصر الذي حاول القذافي لعبها وفشل بادر إلى تقديم نفسه كمنظر وثائر عابر للحدود، فاطلق بداية السبعينيات كتابه الأخضر ورؤيته الفنطازية الشاملة " النظرية العالمية الثالثة " كبديل للنظام الاشتراكي والراسمالي الذي أعلن عن موتهما بصدور نظريته الثالثة الجديدة.

 لقد شكل القذافي جهازا اعلاميا كبيرا للدعاية لنظريته، وخصص لها الملايين من الدولارات عبر النشر المقروء والمسموع والمرئي، ولشراء الناس من ذوي الاختصاص في الاقتصاد والأدب والشعر والتاريخ والسياسة، فكانت فرصة للارتزاق للكثير من باعة القلم والضمير عربا وأجانبا، وعدلت البرامج التعليمية في المدارس والجامعات لتتضمن شروحا ونصوصا من ذلك الكتاب الأخضر والنظرية العالمية الثالثة. كان الغرض هو غسل الأدمغة بوسائل ساذجة وبدائية أريد بها دحر الفكر الاشتراكي الذي كان قد لقي قبولا بين فئة المثقفين وطلبة الجامعات واساتذتها في بداية الستينيات وبداية السبعينيات. وشنت حملة هستيرية داخل الجامعتين الوحيدتين في طرابلس وبنغازي حينها، ألقي القبض خلالها على عدد من الطلبة والأساتذة والتشهير بهم علنا في المدارس والجامعات لبث الرعب في نفوس الشباب الذي كان يخشاه هو أكثر من أي عدو آخر. وفي الثمانينيات شنت حملة ارهابية جديدة أشد همجية لتصفية قادة طلابيين ونقابين وكتابا وشعراء وغيرهم، انتهت أما بزجهم في السجون بدون محاكمة، وتنفيذ أحكام الموت بالبعض الآخر في الحرم الجامعي، حيث نصبت المشانق في أروقتها في مشهد لم يماثله في وحشيته ما مارسته الهتلرية خلال حقبتها في أوربا بعد مجيئ هتلر إلى السلطة، والأكثر همجية من ذلك كله هو اجبار الطلبة على تنفيذ عملية تنفيذ حكم الموت بزملائهم والتهليل لها تحت اشراف مرتزقة هيئوا لهذا الغرض.

أما الحركة النقابية فقد قمعت هي الأخرى، وأجبر العمال على الدخول في لجان ادعي أنها تمتلك المشاريع التي تعمل فيها، وأصبحوا شركاء يتقاسمون عوائدها ولم يعودوا عمالا بل شركاء. وهكذا أنهيت الاتحادات الطلابية والتدريسية والأدباء والفنانين وأصحاب المهن الحرفية واتحادات الفلاحين وغيرها. وتأكيدا على ذلك قامت الجرافات الحكومية بالزحف على الرمز الوحيد المتبقي من فترة الديمقراطية القصيرة التي أتاحتها آخر حكومة من العهد السنوسي السابق، وهي بناية اتحاد النقابات التي سويت بالأرض واختفى اسمها من الخارطة الليبية، واختفت تماما مصطلحات اتحاد ونقابة ورابطة ومعمل وشركة ووزارة ومديرية وأزيل مصطلح الجمهورية ليحل محله الجماهيرية، وأصبح الشعب كله مؤتمرا عاما يكون بديلا لمجلس نواب منتخب من قبل الشعب. اسلوب مبتكر في تزييف الارادة وتشويه المفاهيم والثقافة السياسية، والاستهانة بالمكونات الطبقية والاثنية والقومية والدينية والاجتماعية للمجتمع الليبي، وقمع أي حركة تنزع لنيل حقوقها القومية في اللغة والثقافة والتقاليد التاريخية، كما كان الحال مع الأقلية الأمازيغية ذات اللغة والديانة والتاريخ والتقاليد والثقافة المتميزة السائدة في المغرب العربي. ومع أن نسبتهم داخل المجتمع الليبي قد تصل إلى 15 %، وربما أكثر من ذلك، فقد جرى تهميشهم تماما. عدد الأمازيغ قد يتجاوز المليون نسمة، ومع ذلك لم تكن لهم مدارسهم الخاصة التي يتعلم فيها أطفالهم لغتهم القومية وتراثهم الثقافي وتاريخهم.

ملامح النظام القادم

وقد يلاحظ القارئ العزيز نقدي غير المساوم لنزعته وعدائه المريض للفكر الماركسي وللاشتراكية التي تهتدي بذلك الفكر، ذلك العداء الذي جعله مبررا المبرر لكبت أي فكر أو نشاط سياسي أو ثقافي خارج الأطر التي صاغها وفرضها كقوانين سماوية ملزمة لا يمكن الخروج عنها. هذا الجانب من سياسته لم يجلب له أصدقاء حقيقيون، وانما منتفعون وانتهازيون يعملون لصالحه بالأجرة، أما الأصدقاء الحقيقيون فقد افتقدهم تماما، وهذا ما أثبتته الستة أشهر الأخيرة من صراعه مع المعارضة، فلم يمد له أحد يد الصداقة، لا من الأحزاب التقدمية والاشتراكية، ولا من الزعماء العرب " أهل الشهامة المفقودة "، ولا من الغرب الذين لا يعرفونها، وهو الذي قدم لهم خدمات لا تقدر بثمن، فهؤلاء كما يعترفون هم أنفسهم " لا صداقة دائمة عندهم، بل مصالح دائمة ". وما يواجهه القذافي حاليا تنفيذا حرفيا للمقولة هذه، فمصالحهم اليوم مع القوى الجديدة الصاعدة في المنطقة، سواء في المشرق العربي بدء من صدام حسين وشاه ايران، أوفي المغرب العربي، بن علي ومبارك والآن هو ذاته، علما بأن أولئك " القادة التاريخيين " كانوا من نفس مدرسة مكافحة الشيوعية التي ينتمي لها القذافي.

ما يجري الآن في العالم ظاهرة لم تشهدها أي منطقة في العالم غير الدول الاشتراكية السابقة وعالمنا العربي، ففي الأولى تم التغيير في السياسات الخارجية والتحالفات والبرامج الاقتصادية مع بقاء نفس الوجوه تقريبا في قمة السلطات الجديدة، أما في العالم العربي فيجري تغيير الوجوه والتحالفات السياسية فحسب، أما البرامج التغييرية الجذرية لاحداث تنمية حقيقية تنقذ المجتمع في بلداننا من الأمية والفقر والبطالة والجهل والخرافة فلم يحن وقتها بعد. وما يجري حاليا هو استبدال الوجوه القديمة بأخرى من الأحزاب والجماعات الدينية الرجعية المضطهدة وتسليمها السلطة. وهي تعرف أن صعود هذه القوى على رأس السلطة سيؤدي إلى صراعات على النفوذ والثروة. فظروف عدم الاستقرار والفساد المالي هي الحالة الأنسب للتفاوض وتوقيع العقود لاستثمار الثروات الطبيعية وبالشروط التي تضعها هي، هذا عدا الشروط السياسية التي ستتم بين السلطات الحاكمة الجديدة وحكومات الناتو التي ساعدت على الاطاحة بالنظام.

وهذا ما حصل في العراق منذ الاطاحة بنظام صدام حسين عام 2003، فقد انتظرت شركات النفط والغاز حتى عام 2008 قبل أن تضغط لعقد اتفاقات استغلال النفط والغاز بعد أن شهد العراق أعنف اضطرابات اجتماعية في تاريخه، وقد تمت بالفعل بشروط ملائمة جدا لصالح الشركات. وقد كتبت عن هذا الموضوع أكثر من عشرة مقالات وضحت فيها عيوب تلك الاتفاقات التي عقد أكثرها مع احتكارات نفطية متعددة الجنسيات تعود لنفس الدول التي تحالفت على اسقاط النظام السابق، وهو دليل واضح على أنها كانت المكافئة الكبرى التي سعت اليها بعد عملية غزو العراق.

نظام القذافي ورغم كل سيئاته السياسية قدم لفقراء شعبه مالم تقدمه أغنى الملكيات المطلقة والديكتاتوريات الشمولية المتبقية في العالم العربي أو النامي. وباعتراف الكثير من المحللين السياسيين والاجتماعيين المنصفين كانت سياسة توزيع الدخل والثروة التي اتبعها هي الأكثر تحقيقا للعدالة، وأن موارد النفط والغاز الليبي قد استثمرت بعقلانية لصالح النمو والاستقرار الاقتصادي. وتعتبر العقود الموقعة مع شركات النفط والغاز هي الأفضل بين البلدان المنتجة للنفط والغاز، حيث بين حين وآخر كان يطلب من تلك الشركات اجراء تعديلات على شروط التعاقد بسبب التغيرات التي تحدث في سوق الخام والمنتجات النفطية، ومقارنة بعقود أخرى تم الاتفاق عليها في دول أخرى، ومن بينها، تعويض ليبيا عن الفارق النوعي الذي يتميز به النفط الليبي، حيث يعتبر من بين الأفضل نقاوة في العالم وان يتم التعويض بأثر رجعي. كما قام بالمطالبة بعلاوة اضافية عن فارق تكاليف نقل الغاز والنفط الليبي إلى الأسواق الأجنبية حيث تقع ليبيا على بعد مئات قليلة من الأميال عن مناطق التسويق في أوربا، بينما تتضاعف المسافة عدة مرات بالنسبة لمصدرين آخرين. وهذا يعني مئات الملايين من الدولارات الاضافية استحصلت من الشركات الأجنبية لصالح المواطن الليبي، وهي مكاسب قد تمر مر الكرام دون أن يعلم بها المواطن العادي، لكنها بالمعايير الوطنية تعتبر انجازا كبيرا.

هناك مكتسبات تحصل عليها الشعب الليبي لم تتكرم بها حكومات بلدان نفطية أكثر غنا من ليبيا، مثل العراق والسعودية وامارات الخليج وبقية الدول النفطية في العالم النامي، ومن بين تلك المكتسبات خطط الاسكان الشعبي التي بدءها القذافي منذ مجيئه للسلطة عام 1969. لقد نقلت تلك الخطط سكنة بيوت الصفيح التي كانت تعم البلاد جميعها إلى مساكن حديثة وصحية، هذا عدا تعميم الخدمات الطبية والتعليمية المجانية للجميع. فقد وزع الأراضي الزراعية بعد استصلاحها على المزارعين، وبعضها كان مزارع جاهزة بوسائل ارواء حديثة وبيوت سكنية لعائلات المزارعين، اضافة للمعدات الزراعية، وجميعها موصولة بشبكة من الطرق الحديثة بالمدن ومراكز التسويق لمنتجاتهم الزراعية.

يجدر بنا الآن أن نناقش التطورات الجارية في ليبيا، للخروج بتصور عن ملامح النظام الذي سينبثق بعد الهدوء الذي سيلي الاضطراب السياسي الحالي، وفيما اذا سنكون شهودا على تغييرات جدية وجذرية، وليست فوقية تتلاشى بسرعة قد لا تتجاوز الفترة التي استغرقتها الانتفاضة الشبابية، عندها ستكون كفقاعة هوائية لا تبقي أثرا يذكر، فهل ستسير الأمور في ليبيا بالاتجاه الصحيح الذي يحقق المنجزات للشعب الليبي؟؟

 قبل القاء نظرة مفصلة حول ما يجري حاليا من تطورات متسارعة، وقبل أن نتعرض لموازين القوى الاجتماعية والسياسية داخل المجتمع الليبي يكون من الضروري استعراض ما نشرته صحيفة الغارديان البريطانية في الأول من أيلول / سبتمبر الحالي بقلم كاتبها السيد جعفر حسين الذي أقتربت وجهات نظره كثيرا من الواقع الحالي للمجتمع الليبي، وهو من وجهة نظر مقالنا هذا لم يأتي باكتشاف جديد. يشير الكاتب في مقاله في الغارديان الى أربعة مجموعات يتشكل منها الرأي العام الليبي، وهي:

 القوميون والاسلاميون والليبراليون والعلمانيون، ومع أن هذه القوى موجودة بالفعل في أي مجتمع، انما الأهم هو كم تشكل هذه المجموعات من ثقل في التطورات المتسارعة الجارية في الوضع السياسي الليبي. الطبقة العاملة الليبية تعاني من غيبوبة في الوعي بعد أكثر من أربعين عاما من الفقر الثقافي والكبت السياسي والفكري، فقد تقطعت صلاتها بين بعضها البعض جغرافيا، ومهنيا ونضاليا، فلم تمارس حقوقها في تحسين ظروف العمل والأجور والتدريب وما إلى ذلك عبر النشاطات المطلبية في ورش العمل. ولهذه الأسباب فهي ضعيفة وغير مؤهلة لخوض غمار السياسة والدخول في معارك مع السلطات أو أرباب العمل الجدد خلال الفترة الانتقالية بين النظامين القديم بقطاعيه الحكومي الواسع المهيمن، والخاص المشرذم والمحدود. ضعف الطبقة العاملة الناتج عن قلة وعيها من جانب، وضعفها بسبب خضوعها الطويل لسطوة رب العمل ( الدولة) ساعد على نمو القوى القبلية كمحام ومدعيا عاما يمثلها ويدافع عنها أمام أجهزة السلطة، الجهة الوحيدة التي لها حق الفصل في المشاكل التي تحدث بين العمال وأرباب العمل. فالقوى القبلية تعتبر عاملا قائما بذاته، وفعالا يعمل بشكل مستقل عن الصراع الطبقي الذي يضعف دوره أكثر، ضآلة حجم التجمعات الصناعية الوطنية الضخمة، فهذه ماتزال جنينا لم يكتمل نموه بعد، اما الصناعة النفطية المتطورة فتعتمد على العمالة الأجنبية بنسبة كبيرة، ولا يشكل الليبيون فيها نسبة تذكر.

 العامل القبلي الذي يدخل في تكوين أي مجموعة من المجموعات الأربعة المار ذكرها له تأثير سحري في المجتمع الليبي المحافظ، لما له من تأثير في حل الخلافات التي يستعصي على السياسيين معالجتها على طاولة المحادثات بين الأطراف المختلفة من شتى الخلفيات الفكرية والانتماءات السياسية.

 وما لم يأخذه الكاتب بنظر الاعتبار في تحليله للحالة السياسية الراهنة هي القوى والشخصيات العسكرية داخل القوات المسلحة والتي ما يزال دورها غير واضح في الأزمة الحالية بين المعارضة وبقايا نظام القذافي، وسيكون لها دورا متميزا في دعم الاستقرار في ليبيا بعد ذهاب القذافي في حالة انفراط العقد الاجتماعي الذي يجمع التحالف الحالي المعبر عنه بالمجلس الانتقالي المؤقت بزعامة السيد مصطفى عبد الجليل. ويمكن ايراد أمثلة على ذلك، فشخصيات مهمة من مثل القائد العام للقوات المسلحة أبو بكر يونس جابر، والخويلدي الحميدي، وعبد السلام جلود الذي وصل في الأيام الأخيرة إلى أبي ضبي بعد غيابه عن المسرح السياسي لمدة طويلة والذي لا يزال يتمتع بتقدير المعارضة، ومحمد دريدة وآخرون ممن لم ينشقوا عن القذافي، لكنهم بنفس الوقت يتمتعون باحترام الرأي العام الليبي.

 فبحسب ما أورده المقال يشكل القوميون ما بين 40 % إلى 50 % من مجموع القوى السياسية الفعالة على الساحة الليبية، لكنه لم يورد تعريفا دقيقا لهم يعطي للقارئ صورة واضحة عن برنامجهم وعلاقاتهم السياسية الداخلية والخارجية قبلا وحاليا. لم يشر ايضا الى فلسفتهم السياسية وطموحاتهم، مع أن المعروف عن القوميين في بلدان المشرق العربي أنهم أنصار وحدة عربية تضم البلدان العربية الناطقة باللغة العربية ويجمعها مع بعضها البعض تاريخا مشتركا. لكن موضوع الوحدة بالنسبة لهذه المجموعة غامض ولا دليل عليه، وبخاصة أن أكثر التجارب الوحدوية التي مر بها العالم العربي قد فشلت في الماضي، ولا توجد قاعدة مادية رصينة تبرر العودة اليها أو اثارتها من جديد والعمل من أجلها. وبناء عليه فان تصنيف أعضاء هذه المجموعة " بالقوميين " لم يكن موفقا، ولا ينفي هذا اعتبار الوحدة العربية أمنية رغم فشل تجاربها السابقة، وانها بالنسبة لهم هوية تعريف يعتزون بها. تشكل هذه المجموعة ونفضل تسميتها " بأرباب الأعمال " لأنها تعتبر النشاط الاقتصادي الخاص عنصرا أساسيا في تطور الاقتصاد والمجتمع،اضافة إلى أكثرية الليبيون يميلون لهذا الرأي.

 المجموعة الثانية، وهم الليبراليون الذين يشكلون بحسب تقديرات الغارديان ما بين 20 % إلى 25 % من الرأي العام الليبي فيما لو أجريت الانتخابات العامة في فترة قصيرة قادمة. ويطمح هؤلاء بدولة مدنية ديمقراطية، تعتمد النظام السياسي والاقتصادي السائد في الدول الصناعية. لكن هذه المجموعة بحسب الغارديان محدودة التأثير على الرأي العام الليبي، لكونها أقلية مقارنة بمجموعة القوميين ( 40% إلى 50 % ) وليس لها القوة لبلورة سياسة يمكن أن تحظى بتأييد أكثر الليبيين. وفي رأينا لا توجد فروقا جوهرية بين المجموعتين، بل فروقا شكلية تماما، فمجموعة " رجال الأعمال " ومجموعة " الليبراليون " توحدهم المصالح الاقتصادية، فهم مجموعة لها نفس المنطلقات الاقتصادية وان اختلفوا سياسيا، وبالتالي فهما يشكلان الطبقة البرجوازية الأكبر المرشحة لقيادة التغيرات القادمة برغم قاعدتها المادية الضعيفة حاليا بسبب محدودية رأس المال الصناعي، لكنها ذات امتدادات كومبرادورية واسعة في التجارة، هي في الوقت الراهن مرشحة للقيام بدور " البازار " في ليبيا، كما دور " البازار " في ايران حاليا. وسيكون لهذه الطبقة التأثير الأقوى في صياغة التشريعات القانونية و السياسية في النظام الجديد، ما يعني الغاء الأسس التي بنيت عليها اشتراكية نظام القذافي التي قيدت وأضعفت إلى الحدود الدنيا من دور وحجم القطاع الخاص، تجاريا كان أم صناعيا.

المجموعة الثالثة وهم الاسلاميون، وتقدر نسبتهم بحدود 20 % من المجتمع الليبي، وجرى تصنيفهم تحت هذا العنوان إلى: الجهاديين بنسبة 2 %، والسلفيين بنسبة 12 %، وجماعة الاسلام السياسي وهم الأخوان المسلمون الذي يقدر حجمهم بنسبة 6 % من مجموع الاسلاميين ككل. وينظر إلى الجهاديين ( 2 % ) باعتبارهم القوة الأكثر تهديدا للنظام السياسي القادم فيما لو رموا بثقلهم في الصراع على السلطة، رغم كونهم أقلية معزولة وهامشية. فهم باعتبارهم متشددون ومتزمتون في وجهات نظرهم ومواقفهم، فمن غير المحتمل أن يشاركوا في الانتخابات النيابية القادمة، أو أن يكونوا جزء من التحالف السياسي في البلاد. وبحسب الصحيفة فان الجهاديين يمكن أن يشكلوا خطرا أمنيا أكثر من خطرهم كقوة سياسية معارضة.

السلفيون الذين يشاركون الجهاديين في أكثر آرائهم يطمحون لاخضاع المجتمع إلى تعاليم متشددة، ولا يساومون على فهمهم وتفسيرهم للعقيدة الاسلامية، لكنهم مع ذلك لايشجعون النشاطات الارهابية. ماعدا ذلك فانهم يعتقدون أنهم قادرون على التأثير على الجماهير الليبية وقيادتها ناحية تعاليمهم.

أما القوى غير المتدينة ودعاة التحرر الاجتماعي والسياسي ( العلمانيون ) فلا يحتلون حيزا واسعا داخل المجتمع الليبي، وتتراوح نسبتهم وفق تقديرات الغارديان الأولية بين 2 % إلى 5 %، ولعل مثال تركيا الأتاتوركية أقرب الى رؤيتهم عن الدولة اللادينية. حيث ترى المجموعة أن الدولة يجب أن تظل بعيدة عن أي ديانة، وأن لا يلعب الدين أي دور في الشؤون الادارية والسياسية والمالية للدولة. ولا يحتمل أن تحقق هذه المجموعة حضورا جماهيريا في التحولات البنيوية السياسية والثقافية القريبة القادمة بسبب الكبت السياسي الذي مارسه النظام السابق على أي نشاط مستقل، لكنها بدون أدنى شك، وبسبب قرب ليبيا من أوربا، وانتشار التعليم والانفتاح على الثقافات العالمية يمكن أن يكون لها دورا مهما مستقبلا. التحولات القادمة السياسية والاقتصادية والتشريعية ستتيح حريات لم يتحها النظام السياسي السابق، فحرية تأسيس الأحزاب والجمعيات وحرية النشر والمعتقد، واحترام حقوق الانسان، ستفتح آفاقا بقيت مغلقة خلال حقبة القذافي، وفي حال اتاحتها من جديد فسيكون أمام المجتمع الليبي فرصة ذهبية للتقدم والنمو الاقتصادي، وتحسين حياة الجماهير المعاشية.

الذي يتألم أكثر يتعلم أكثر (حكمة يونانية)

نهاية عهد القذافي وتواري نظامه الجماهيري يترك شعورا بعدم اليقين بالمستقبل السياسي لليبيا. فالمجلس الوطني الانتقالي ليس حزبا سياسيا، ولا جبهة أحزاب سياسية، وليس للمجلس رؤية متكاملة عن الطريق الذي ينبغي على ليبيا الاتجاه نحوه. أكثر أعضائه موظفون سابقون في نظام القذافي، اضافة إلى رجال أعمال يبحثون في الأغلب عن مواقع سياسية مهمة في النظام القادم. رئيس المجلس الانتقالي كان قاضيا ووزيرا للعدل في حكومة القذافي قبل أن ينشق عنه ويشكل المجلس الانتقالي في بنغازي. وكما تبين سيرة حياته المنشورة على الموقع الإلكتروني للمجلس أنه متخرج من المعهد الليبي للشريعة الاسلامية والقانون عام 1975 في طرابلس. والمعروف عن السيد عبد الجليل أنه كان يسعى خلال وجوده في منصبه لترسيخ استقلالية القضاء ويبعد وزارة العدل عن التسييس والتأثر بالسلطة. وبحسب تقرير الصحيفة الأمريكية وول ستريت جورنال، أن السيد عبد الجليل كان خلال ممارسته وظيفته ينفذ قناعاته مع أنه يعرف أنها تتعارض مع سياسة السلطة. وفي برقية دبلوماسية أمريكية تم كشفها من قبل موقع ويكيليكس في كانون الثاني 2010، أن السفير الأمريكي جين غريتز في ليبيا قد قيم السيد عبد الجليل كشخص يمكن الثقة به ومواقفه مشجعة جدا، وتنص البرقية على أن منظمة مراقبة حقوق الانسان تعتقد أنه بسبب آرائه المحافظة قد أجرى تغييرات في النظام القضائي تتطابق ومعتقداته الدينية وليس بغرض تحديث النظام. وكان السيد عبد الجليل قد اعلن استقالته من منصبه اثناء القاء كلمته في اجتماع كان منقولا على الهواء وبحضور القذافي نفسه. وكان حينها قد احتج على تنفيذ أحكام الاعدام بحق 300 سجينا دون اعلام عائلاتهم بذلك، ودون اجراءات أصولية قانونية. وهو لهذا السبب نال ثقة المواطنين به، وخاصة عندما أعلن عن انشقاقه عن النظام بعد أن قامت الشرطة باطلاق النار على التظاهرات السلمية التي انطلقت في بنغازي.

الشخصية الثانية في المجلس الانتقالي ذات التاريخ العسكري الطويل هو السيد الأمين عبد الوهاب الحريري عضو المجلس العسكري للقوات المسلحة المعارضة لنظام القذافي، وهو من الضباط الذين شاركوا في انقلاب 1969 مع القذافي، ويعود نسبه لقبيلة الفرجان من غرب ليبيا، وله سمعة حميدة بين الليبيين، وقد كان سجينا فترة لاتهامه بمحاولة الانقلاب على القذافي، ويحظى بتأييد الدائرة المحيطة به في سرت المحصنة، وقد اشادت صحيفة الوول ستريت جورنال بتعيينه في المجلس العسكري من اجل كسب قبائل الفرجان. وفي مقابلة له مع الصحافة في 2 /مارس الماضي قال الحريري: انه يشعر بالأسف لأن الضباط في ذلك الوقت لم تكن لهم رؤية واضحة عن ليبيا جديدة، ولا يريد أن يرتكب نفس الخطأ. لقد حان الوقت لأن يأخذ الشعب زمام الأمور، فهو من سينتخب رئيسه لمدة محدودة، ويمكن ان ينحيه متى وجد انه لم يخدمه كما يجب. وبطبيعة الحال سنحتاج إلى مجلس نيابي وتعددية حزبية. في عام 1975 بينما كان سكرتيرا عاما لمجلس قيادة الثورة بدأ بالعمل لاطاحة القذافي بالتعاون مع بعض من أصدقائه الضباط، لكن المحاولة اكتشفت وتم اعتقال 300 ضابطا، أربعة منهم ماتوا تحت التعذيب، بينما حكم بالاعدام على 21 ضابطا بينهم الحريري نفسه. وقد انتظر 15 عاما في السجن بانتظار تنفيذ الحكم، أربعة أعوام منها كانت سجنا انفراديا في كهف معتم. وفي عام 1990 اطلق سراحه بصورة مفاجئة، ووضع تحت الاقامة الجبرية في داره في طبرق حتى الانتفاضة الأخيرة في شباط / فبراير الماضي. المتظاهرون استقبلوه كبطل وطني عندما ظهر لأول مرة. يقول الحريري: أن الشباب الذين ثاروا على النظام يجب أن يمنحوا الفرصة لخدمة بلادهم. أنا أقول لهم الآن " أن الحرية لا تقدر بثمن، وأن لا شيئ أثمن من دماء الليبيين ".

أما نائب رئيس المجلس الوطني الانتقالي فهو الناشط الحقوقي الشاب في مجال حركة حقوق الانسان السيد عبد الحافظ الخوجة الذي عمل بمعية مجموعة من المحامين الذين مثلوا عائلات ضحايا مجزرة سجن أبوسليم عام 1996، وله الفضل في كسب التأييد الدولي لقضية بني سليم. ويضم المجلس ايضا الأمين بالحاج من طرابلس وهو من قادة الإخوان المسلمين المحظورة، وقد أمضى شطرا طويلا من حياته لاجئا سياسيا في بريطانيا. ويقود شقيقه عبد الحكيم بالحاج حاليا العمليات العسكرية التي سيطرت على العاصمة أخيرا. وكما نشرت الصحافة أخيرا عنه، فقد كان سجينا لفترة طويلة في سجون القذافي، وتم اعتقاله في ماليزيا من قبل الاستخبارت الأمريكية والبريطانية، أعيد بعدها إلى ليبيا، حيث أمضى فترة سجنه الأخيرة قبل أن يطلق سراحه بعد عفو عام بمبادرة من سيف الاسلام القذافي.

أحد أعضاء المجلس الوطني الانتقالي وهو أكبرهم سنا 77 عاما، كان أحد سجناء الرأي، وهو السيد أحمد الزبير احمد السنوسي الذي أمضى في السجن اطول فترة يقضيها سجين سياسي في العالم العربي، والأفريقي، وربما في العالم. فقد قضى 31 عاما في سجن انفرادي بانتظار تنفيذ حكم الاعدام به، حيث كان من ضمن الكثيرين ممن حكم عليهم بهذه العقوبة. زنزانته التي قضى فترة سجنه فيها مصممة على شكل كهف يصعب على المقيم فيها الوقوف بكامل قامته، إمعانا في تعذيب السجناء وإذلالهم. لقد تجاوزت فترة سجن السنوسي الفترة التي أمضاها المناضل نلسون مانديلا في سجون النظام العنصري في اتحاد جنوب أفريقيا. العقيد القذافي استحدث في الثمانينيات جائزة حقوق الانسان العالمية ليمنحها للمكافحين في سبيل حرية بلادهم، وقد منحها لأول مرة للمناضل من أجل حرية شعبه نلسون مانديلا الذي كان حينها ما يزال سجينا، ليعطي الانطباع للرأي العام العالمي بأنه يناصر المكافحين في سبيل الحرية، لكن لا المناضل مانديلا ولا حركة الدفاع عن حقوق الانسان كانت على علم بحقيقة حرية الانسان في ليبيا. وكيف كان لهم أن يعرفوا ما كان يجري في الخفاء بعيدا عن عيون الصحافة، وحتى دون علم أبناء شعبه وذوي السجناء.

 كان للقذافي عالما سفليا تمضي الحياة فوقه وكأن شيئا لم يكن، وكان في ذلك العالم السفلي كهوفا ابتكرها القذافي للمنادين الحقيقيين بحقوق الانسان من أبناء وطنه، لسجناء الرأي من المناضلين الأبرار من أجل الديمقراطية وحق المعتقد والعيش بسلام دون خوف، شبابا وكهولا، متدينون وغير متدينين. ولو علم المناضل الكبير نلسون مانديلا بمناورة " القائد العالمي ومفبرك النظرية العالمية الثالثة " لردها اليه طالبا منه أن يكافئ مناضلي الحرية من أبناء شعبه من المنسيين في أقبية سجونه السرية، وأن لا يستغل تضحيات الأخرين لتبييض صفحته الملطخة بدماء ودموع أبناء شعبه.

قال المناضل السيد أحمد السنوسي لمراسل البي بي سي، " في كل مرة، وخلال الواحد والثلاثين عاما، كنت كلما تفتح باب زنزانتي أتوقع أن أحدا جاء ليأخذني إلى ساحة الاعدام.. الآن ونحن نبدأ صفحة جديدة من التاريخ نريد بناء بلدنا من جديد تحت حكم القانون، نحن موحدون، طرابلس عاصمة بلادنا وبنغازي مدينتنا، ستكون اعادة البناء مهمة صعبة بعد أثنين وأربعين عاما من الخراب تحت حكم القذافي. ستاخذ وقتا طويلا، لكن تصميم الليبيين سيتجاوز المصاعب، وهم على علم بأن عليهم الانتظار". الزبير هو الوحيد على قيد الحياة من عائلة السنوسي ملك ليبيا السابق.

 المجلس الانتقالي الحالي بعد توسيع عضويته اصبح يضم ممثلي أكثر المدن الليبية، طرابلس وبنغازي ومصراته والزاوية ونالوت وجادو وترهونة ومرزوق والجفرة وسرت وسبها وسورمان والشاطي والزنتان والكوفرة وزوارة والمرج ودرنة والبيضاء وطبرق وبن وليد وغدامس والبطمان، وهناك عددا من الأعضاء لم تعلن هوياتهم لأسباب أمنية. وقد أعلن المجلس أخيرا عن دستور مؤقت يعتمد الشريعة الاسلامية كقاعدة أساسية للتشريع، وأن نظام الحكم القادم سيكون ديمقراطيا يعتمد التعددية الحزبية. ورغم الحماس الذي يبديه رئيس وأعضاء المجلس الانتقالي حول المستقبل فان التحديات القادمة ثقيلة وكثيرة، وتحتاج إلى شعور الجميع بالمسئولية الوطنية والجماعية، والاصرار على التوحد والتغاضي عن الخلافات الجانبية، وبالالتزام ببرنامج للعمل يشارك فيه كل الأطراف بصرف النظر عن انتماءاتهم الفكرية والقبلية. فالقوى المندحرة ستلعب على المشاعر القبلية، لبث الانشقاقات داخل فريق العمل الذي يمثله المجلس بتركيبته الجديدة. فقد عبرت بعض وسائل الاعلام الأجنبية أخيرا، عن وجود خلافات عميقة بين اعضاء المجلس الانتقالي، وهو ما لا يتمناه المخلصون المتضامنون مع انتفاضة الشعب الليبي.

 فممثل قناة البي بي سي البريطانية الذي حضر أحد اجتماعات المجلس وصف الاجتماع بالفوضى، وينقل عن البروفيسور فواز جرجيس، استاذ سياسات الشرق الأوسط في مدرسة لندن للاقتصاد قوله: " المعارضة لم توحد بيتها وتحكم ادارته، فهي لم تحل خلافاتها العقائدية العشائرية والسياسية، ولم تظهر جدارتها كسلطة جاهزة لحكم البلاد. فمصراته وهي ثالث مدينة ليبية لم تعترف بالمجلس الانتقالي ممثلا شرعيا لليبيا. وان الخلافات العشائرية بين غرب ليبيا وشرقها مهولة، وهناك أيضا خلافات عشائرية بين من هم من شرق ليبيا وبين هم من غربها، اضافة الى خلافات عقائدية بين الاسلاميين والقوميين. ان المجلس الانتقالي قد أعاد النظر في تركيبته ليكون ممثلا حقيقيا عن ليبيا جميعها، وفي النية توسيعه ليضم ممثلين للمناطق التي لم تمثل بعد، حيث يتوقع أن يصل عدد أعضاءه 80 ممثلا. نتمنى أن يكون المجلس قد أخذ بنظر الاعتبار ثاني أكبر مكون ليبي بعد العرب ليكون له ممثلا فيه. لقد حاول النظام السابق على تجاهلهم تماما واجبارهم على التخلي عن تاريخم وثقافتهم ولغتهم وعاداتهم التي تعود إلى آلاف السنين.

الكبت السياسي لمنظمات المجتمع المدني ومنع أي نشاط سياسي معارض في ظل نظام القذافي انتج وعيا سياسيا وفكريا خاويا وهشا. فالاشارات القادمة من قوى المعارضة التي تقود العمليات المسلحة في عدد من المدن غير سارة، وتثير عدة تساؤلات عن الأفكار السياسية التي تهيمن على النشاط المعارض. فقد كتب الصحفي والكاتب في الغارديان البريطانية ريتشارد سي مور في 30 /8 / الماضي من طرابلس مقالا بعنوان " عند النصر فشل مأساوي " يقول فيه:

" أن الوقت غير مناسب لتكون مواطنا أسودا في ليبيا." وينقل عن تقرير أرسله أليكس تومبسون المراسل الصحفي للقناة الرابعة البريطانية يوم الأحد 28 / 8 / الجاري، وكذلك عن مقال الكاتب كيم سين غيث من صحيفة الاندبندنت البريطانية، قائلا: " أن 30 جثة لقتلى من الأفارقة كانت ملقاة على الأرض متعفنة ومتسخة ". وكما نقل عن بعض المسلحين في صفوف المعارضة الليبية أن الضحايا هم من المتطوعين الأفارقة المقاتلين في صفوف القذافي. لقد تم قتلهم على مقربة من مستشفى محلي في طرابلس. وردا على سؤال المراسلين الصحفيين قال أحد المسلحين: " أن الليبيين لا يحبون ذوي البشرة السوداء ". ممثلة منظمة العفو الدولية هي الأخرى نفت أن يكون أولئك الضحايا من المتطوعين الأفارقة الأجانب، حيث كانت قد تحققت عن صحة تلك الاشاعات وثبت أنهم ليبيون وليس متطوعين أفارقة. دونا تيلا ريفيرا كانت ضمن فريق دولي لتقصي الحقائق، ولم تجد أي دليل يؤكد أن القتلى من المرتزقة، كذلك أكد السيد بيتر بوكاريت من منظمة حقوق الانسان الدولية، انه لم يجد أي متطوعا من بين المعتقلين السود الذين تم احتجازهم في مناطق عديدة والذين عرضوا على الصحافة الأجنبية على أنهم متطوعون إلى جانب القذافي. المواطنون الليبيون يشيرون إلى المواطنين السود بأنهم أفارقة في حين أن ليبيا هي دولة أفريقية.

الباحثة في منظمة العفو الدولية ديانا ألثاوي تقول: " ان الثوار الليبيين قد حشروا في موجة الكراهية للسود ". كما أشارت صحيفة النيو يورك تايمز من جانبها إلى تصاعد المشاعر العنصرية وأحيانا العنصرية المتطرفة في ليبيا في خلال فترة الاحتجاجات. وبينت أن هناك أدلة مقلقة على تفشي هذه الظاهرة بين المسلحين، وهو ما أكدته الشعارات التي شوهدت مكتوبة على عدد من جدران البيوت في أحياء مصراته خلال العمليات العسكرية. وقد جاء فيها: ( لنقضي على العبيد ذوي البشرة السوداء). وتنهي الصحيفة قولها " لقد كان من نتيجة هذه المشاعر اعتقال الكثير من ذوي البشرة السوداء وقتل الكثير منهم." منظمة العفو الدولية تنتقد المعارضة لاشاعات بثتها على نطاق واسع وتداولتها الصحافة الأجنبية والمحلية بأن القذافي من أصول يهودية، وهي مشاعر معادية للسامية. ويتساءل مور الكاتب في الغارديان: كيف تطورت الأمور إلى هذا؟

ويضيف هو نفسه " مظاهرات واحتجاجات تطالب بالديمقراطية وتعارض البطش والقمع تتحول إلى هذا الاتجاه العنصري؟ لكن مثل هذه الكراهية التي يمارسها المنشقون تدل على ضحالة سياسية وفكرية، و هو الانطباع الوحيد عن تلك الاتجاهات العنصرية، بينما الذي حصل في انتفاضة المصريين كان عكس ذلك تماما. الحركة التي انطلقت في مصر استفادت من حركة اتحاد رجعية. وهذا ما عبر عنه مراسل الغارديان في طرابس لوك هاردنغ عندما نقل في تقرير له من طرابلس واصفا المقاتلين بعدم النضوج وضحالة في التفكير، قائلا: أن بعض المقاتلين الذي شاهدهم متجمعين قرب العزيزية مقر القذافي الذي قصفته مرات عديدة طائرات الناتو وهم يهتفون " سننتصر بفضل الله والناتو، وهتفوا رافعين أيديهم إلى أعلى ويصرخون الله أكبر، سننتصر، لأننا نؤمن بالله والناتو".

وفي تطور آخر تناولت الصحافة الغربية ما تسرب من باريس من أنباء مثيرة، حيث تكشفت أسرار الحماس الفرنسي للاطاحة بنظام القذافي، فقد نشرت المورنغ ستار والديلي تلغراف والاندبندنت البريطانية، أن المجلس الوطني الانتقالي الليبي كان قد وعد فرنسا حقوقا في الثروة النفطية تصل إلى 35 % من مجمل الثروة النفطية الليبية المكتشفة. جاء ذلك في رسالة كشف عنها أخيرا، أرسلها المجلس الانتقالي إلى امارة قطر بتاريخ 3/4 /2011. وقد كانت الرسالة قد أرسلت إلى امارة قطر التي يحتمل أن تكون لها حصتها أيضا، ثمنا لدورها في تسليح المعارضة الليبية، ولنشاطها الدبلوماسي لاصدار قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1973 الذي أجاز عمليات التدخل العسكري الغربي في ليبيا. وكان ذلك لفرض منطقة الحضر الجوي في السماء الليبية ضد العمليات العسكرية لقوات القذافي بحجة حماية المدنيين الليبيين. فأمراء قطر والامارات العربية المتحدة قد دخلوا النشاط الاستثماري النفطي في منطقة الشرق الأوسط بمشاركة شركات نفطية عالمية صغيرة نسبيا. وقد باشرت منذ عام 2006 في استثمار حقولا نفطية في المنطقة الكردية في شمال العراق مع شركة نرويجية، وبمساهمة السفير الأمريكي الأسبق في العراق زلمان خليل زاد، والجنرال العسكري الأمريكي المتقاعد غاردنر تاجر النفط وحاكم العراق بعد الاطاحة بنظامه، قبل أن يتسلم شئون العراق منه بول بريمر نهاية عام 2003. فقطر لم تتدخل لسواد عيون الليبيين، فهي الآن جبهة أمامية لتسويق المشروع الأمريكي " الشرق الأوسط الجديد " ومركزا لادارة شبكات التجسس الغربية في المنطقة العربية.

 كما نشر أخيرا أن شركة النفط والغاز الايطالية - ايمي - ستعود لمباشرة نشاطها في ليبيا بضخ الغاز الليبي إلى أوربا عبر خطا الأنابيب المار اليها تحت مياه البحر الأبيض المتوسط، وأنها وشركات أخرى ستحصل على عقود جديدة للاستثمار في النفط والغاز وفي مشاريع اعادة البناء التي ستبدأ بعد تصفية جيوب المقاومة لأنصار القذافي. وقد تم توقيع عقودا بهذا الشأن في 29 /8 الماضي. كما تم في الفترة الأخيرة اختتام مؤتمرا لأصدقاء ليبيا استضافته فرنسا وبريطانيا لدراسة خطوات ما بعد القذافي، حضرته حوالي ستون دولة كانت قد اعترفت بالمجلس الوطني الانتقالي المؤقت كممثل وحيد لليبيا، ولم يكشف النقاب عما دار خلف الأبواب المغلقة.

برغم كل شيء، لنأخذ بهذه الحكمة الصينية المتفائلة

 " في بذور اليوم كل أزهار المستقبل ".

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 13/أيلول/2011 - 14/شوال/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م