الغذاء المعرفي والفكري (البحث العلمي والإنساني)

بين الواقع والطموح

علي إسماعيل الجاف

تسعى الدول المتقدمة، ذات الجامعات والمؤسسات الرصينة، الى بذل جهودا" كبيرة ومتواصلة وصرف أموال كبيرة طائلة على البحث والدارسة العلمية والإنسانية من خلال تسخير الموارد البشرية عبر القنوات والفضائيات والمؤسسات كافة من اجل الوصول الى حل او إعطاء فكرة لمشكلة ما او تطوير برنامج او مشروع ما.

 فنلاحظ تسخير الموارد البشرية في قناة نشينل جوكرفي (National Geography Channel) من اجل الوصول الى معلومة او فكرة حول سكان الطبيعة من خلال الدراسة والبحث والتتبع وسهر الليالي، وتكون المنفعة هادفة الى طلبة الجامعات والمعاهد وموظفي المؤسسات الخدمية وليس لنا نحن الجمهور المتابع لتلك القناة كونها تبث بالغة العربية والانكليزية وما يصلنا قد تم عرضه ودراسته من قبل البلدان الأصلية الراعية للبرامج التطويرية والبحثية. فنلاحظ باحثا" او عالما" او خبيرا" في مجال من مجالات الحيوانات يقضي سنوات طويلة في أفريقيا لغرض تأليف كتاب او أعداد بحث بالأرقام يستفيد منه كافة طلبة العالم.

ونحن نملك بيئة وطبيعة تؤهلنا لاجراء دراسات وبحوث في مجالات إنسانية وعلمية والقيام بتجارب عديدة يستفيد منها الطالب العراقي الذي بات لا يؤمن بالمراجع والمصادر العربية او المحلية، ويستند على الغربية دون ان يكون لديه أثبات على صحة المعلومة او المرجع او المصدر. فلذلك، يكون الطالب او الباحث خاضعا" كليا" وليس جزئيا" لأفكار وأراء ودراسات مجتمعات وبلدان تختلف جذريا" من حيث البيئة والطبيعة عن عالمنا العربي. والسبب في ذلك هو الآتي:

1.) عدم وجود سياسة واضحة للبحث العلمي والإنساني؛

2.) إهمال الباحثين واللجوء الى القوالب الجاهزة؛

3.) عدم اعتماد البحث العلمي والإنساني في تطوير مهارات وخبرات وكفاءات الموظف والطالب من خلال اعتماده في كل مرحلة وظيفية او دراسية باستثناء مراحل الابتدائية والمتوسطة؛

4.) عدم وجود مؤسسات تتبنى المشاريع البحثية سوى الخاصة بترقية الأساتذة او المشاركة بمؤتمر لا تؤخذ بتوصياته والهدف الحقيقي هو الترقية العلمية؛

5.) لا تقدم البحوث العلمية والإنسانية لغرض خدمة المجتمع او الإنسان وإنما تطوير الذات الفردية بلغة الأنا وحسب نظرية (Theory (Cost-Benefit؛

6.) لا توجد قنوات او إذاعات او وزارات تتبنى مشروع البحث العلمي والإنساني بالدعم المادي وليس المعنوي من خلال توفير المستلزمات الضرورية خصوصا" أبحاث التجارب؛

7.) عدم وجود ممثل للبحث العلمي والإنساني – وان وجدت فهي شكلية – في اغلب المؤسسات الحكومية في حين تبنت دول مثل ماليزيا والهند واستراليا وألمانيا هذا المشروع في ترقية الموظف، في كافة الاختصاصات، سنويا" ويتعهد بكتابة بحث او تأليف كتاب بدعم حكومي قبل وصوله سن التقاعد ليكون مرجعا" تستند علي دائرته او مؤسسته او وزارته في اخذ المفيد لتطوير الموارد البشرية او المشاريع؛

8.) تعتمد الدول التي طورت مجتمعاتها في قبول الطلبة في الدراسات العليا على عدد البحوث المنجزة من قبل الطالب ولا يعني المعدل او العمر شيئا" كون الطالب حصل على المعدل في منهج يطرأ عليه تعديل واستحداث وتغير مستدام. ولهذا الطالب الذي يملك بحوثا" يعني مواكبته للعلم والمعرفة ولا يكون البحث في مجال اختصاصه فقط وإنما في مجالات أخرى كونه يملك الخبرة والمهارة.

ولنرجع بالذاكرة الى أيام الدراسة في المرحلة الإعدادية او الجامعية فنرى ان البحث العلمي او الإنساني لا يحتل مكانة معرفية وفكرية مرموقة كون الذي يجري دراسة او بحث، الذي يسمى باحثا" أوليا" بالغة الأكاديمية والباحث يسميه باحثا" مجبورا" على أجراء البحث لغرض النجاح او الحصول على درجة في هذه المادة او تلك، لا يعتمد على أساليب البحث الحقيقة وإنما يعتمد على اسلوب الحداثة (الانترانيت) ويكمل مشروع بحث التخرج دون ان يكون عارفا"، ملما"، مدركا" او فاهما" لموضوعه بصورة جيدة ورغم ان كثير من الجامعات تؤكد على إعطاء عناوين بحثية مشتركة لطلبتها مما يعني...

 واخذ المواضيع من المراحل الدراسية السابقة او الحالية في حين يؤكد الباحثين في أمريكا والمملكة المتحدة على تكليف الطالب بأجراء بحث او دراسة او كتابة تقرير يأتي بشيء جديد يستفيد منه الآخرون ويعني البحث او الدراسة في موضعا" تم دراسته فهذا يعني الجديد يلغي القديم وليس القديم يأتي بالجديد او يطور مهارات او خبرات الطالب وإذا كان الهدف هكذا فيعني تم تدريس المادة بصورة غير جيدة فالبحث يطور الطالب مهاراته!

ويحتاج العقل الى وجبات غذائية فكرية ومعرفية لتنمي وتطور مهاراته، قدراته، خبراته بصورة مستدامة من اجل مواكبة التطورات الحاصلة في العالم وتحديدا" على كون الأرض الذي نعيش فيه. والواقع ان التوجهات الأكاديمية والتربوية لا تضع لمسألة البحث والدراسة مكانا" مما يجعل نسب الإقبال عليه متدنية. فلابد ان يكلف الطالب في كل مرحلة من مراحل الإعدادية والجامعة بكتابة بحث او دراسة بعناوين عملية وليس سردية او وصفية. بالإضافة، قيام الموظف في نهاية كل عام بتقديم بحث او دراسة تطور من مجال عمله او اختصاصه فالكثيرون بعد اكماله مراحل الدراسة يصبح أداة بيد الزمن ليتعلم منه او تقليد الآخرين ممن أعطاه الزمن الخبرة او المهارة التي تكون في الغالب محددة ومقتصرة على فئة معينة. لذلك، يصعب تطوير الموارد البشرية واحتكار المعلومة العلمية او الفكرية ويكون زكاة العلم ليس نشره وإنما احتكاره! وتكون معادلة الكفاءة والخبرة والمهارة متساوية مع معادلة النكوص والترهل والعزوف عن المسؤولية وأداء الواجب.

فالحل ان تكون هنالك مكانة للمتفوقين والباحثين وذي الخبرة والمهارة في مؤسساتنا خصوصا" الخدمية منها. والهدف الأساسي هو إلغاء الجانب النظري والتركيز على القضايا والمسائل التطبيقية.

لذلك، نحن بحاجة الى دائرة في كل محافظة تعنى بالبحث والدراسة والتطوير الفكري والمعرفي تستلم التغذية (السلة الغذائية الفكرية والمعرفية) من خلال البحوث والدراسات التي يقدمها الطلبة في مراحلهم الإعدادي والجامعي والموظفين في سنوات الخدمة وعند تقاعدهم. فسنخلق جوا" علميا" ومعرفيا" ونحصل على أجيال متعلمة فكريا" ومعرفيا". سيستفيد الموظفين الجدد والإدارات العليا والعامة من البحوث والدراسات وإلغاء الروتين القاتل فنحن نعمل بقانون كتب قبل مئات بل الآلاف السنين، لماذا لا يتم أيجاد البديل من خلال البحث والدراسة؟ نحن بحاجة الى خبرات ومهارات وكفاءة أبناء البلد وكل موظف حسب اختصاصه ان كان معلما"، مهندسا"، قاضيا"، طبيبا"،... الخ.

ونلاحظ ان اغلب البحوث التي تلقى في المؤتمرات العلمية والإنسانية هي بحوث تسمى: "منقولة"؛ "مستعارة"؛ "جمع معلومات"؛ "وصفية"؛ و "لأغراض الترقية" في حين الدول المتقدمة تقييم مؤتمرا" لغرض فائدة مجتمعاتها من خلال تقديم بحوث تطبيقية وليس وصفية، وتستدعي باحثين من بلداننا العربية لسرقة أفكارهم وتبني مشاريعهم! بعبارة أخرى، ان البحوث التي تجرى سابقا" وفي وقتنا الحاضر لأغراض الترقية لاتصل الى مستوى البحث الأصيل. لذا يرى الباحث ان ثمة حاجة ضرورية وطارئة الى بناء القدرات البشرية ولنستعين في بحثنا هذا بالتجربة الخليجية – الأمارات العربية المتحدة – التي اعتمدت على مبدأ "تطوير مهارات وكفاءة الموارد البشرية يعني تطوير البلد" من خلال جلب العمالة الأجنبية واعتبارها العمود الفقري في المشاريع الإستراتيجية كالبنى التحتية وزج رأس المال البشري الا مارتي لكسب المعرفة والفكر منهم ليصبوا في المستقبل هم القادة لأجيالهم (التوأمة الفكرية والمعرفية).

وهذا هو أسلوب الاعتمادية وإدارة الجودة الشاملة التي نحن لحد الآن لم نبدأ بمشوارها بصورة فعلية وإنما مبادرات فردية... في حين تفتتح دولة الأمارات العربية المتحدة (دبي) اكبر مترو في العالم في هذه الأيام. هذا لم يأتي من فراغ وإنما اعتماد الإنسان الإماراتي على الدراسة والبحث والتوأمة لاستثمار رأس المال البشري. فنرى ضرورة ملحة وأساسية لدعم الباحثين العراقيين ليستفيد منهم البلد بدلا" من تسويق بضائعهم الى الدول الغربية كون هنالك سوقا" لشراء او تسويق تلك البضائع ومن ثم تسوق لنا منهم!

وتبين الدراسة الحديثة التي أجريت عام في البلدان التي تبنت مشروع التنشئة الفكرية والمعرفية المستدامة واستثمار رأس المال البشري على أساس البحث والدراسة العلمية والإنسانية ارتفاعا" ملحوظا" في نسب التقدم العلمي والمعرفي لدى شعوبها بعد ان كانت تلك الشعوب تعاني من الترهل، النكوص، الفساد، الروتين وضعف في المستوى الفكري والمعرفي لدى طلبتها وموظفيها.

ونتمنى ان ترقى بحوث طلبتنا في المراحل المنتهية الى مستوى البحث الأصيل او النموذجي او المعياري، وان يكون هنالك مشروع بحث في كل سنة دراسية وإدخاله في الجامعات التي تولي للبحث أهمية... وان يعتمد البحث على الاستبيان ((Questionnaire، التحري والفحص ((Examination، المقابلة (Interview)، التجربة (Experiment)، الدراسة الميدانية (Field Study)، البيانات والإحصائيات المعتمدة (Statistics & Data)، المناقشة والنتائج (Results & Discussions)، الدراسة التتابعية او الأثر الرجعي (Follow up & Retrospective Study)، الدراسة المنظورية (Retrospective Study)، الدراسة الوصفية (Descriptive Study)،... الخ. ونرى ان بحوث التخرج لا يؤخذ بها كون الغالب منها لا يرقى الى مستوى المعيارية او البحث العلمي او الإنساني وإنما يسمى في الغالب، بلغة الأكاديميين، جمع معلومات او نقل معلومات الغير.

فيرى الباحث ضرورة وجود قسم البحث والتطوير في كل دائرة او مؤسسة او مديرية تعنى بترقية الموارد البشرية حسب عدد البحوث والدراسات المنجزة والمنشورة، وتستند تلك البحوث على الدراسة من خلال تناول عناوين جديدة تطبيقية في الغالب. فستكون النتيجة تطوير الموارد البشرية واستثمارها فكريا" ومعرفيا". ولابد من توفير دعم مادي ومعنوي للباحثين كونهم يمثلون الحل الأمثل لأية مشكلة او أزمة في البلد. فنحن لا نملك صفة باحث او خبير او مستشار في مؤسساتنا وحتى في اغلب المؤسسات الأكاديمية واعتمادنا على الشهادات العليا التي تسعى لفائدة الذات على المجتمع. فنرى في تركيا عاملا" بسيطا" طور نظاما" بيئيا" لإدارة النفايات وصنفها: الصلبة، الحادة، الخطرة، الطبية، الغذائية، الكيميائية،... الخ. وهنالك باحثين عراقيين لديهم بحوث ودراسات تطور البنى التحتية للبلد ولديهم كتب ومؤلفات في اختصاصات متنوعة وهم يملكون شهادات أولية.

 وأخيرا"، الباحث بحاجة الى رعاية الحكومية له وتبني قضيته من خلال الدعم وتوفير بيئة ملائمة له. كذلك، ضرورة تكليف باحثين من المؤسسات الخدمية: الصحة، البيئة، الزراعة، التربية، التعليم، البيئة، العدل، البناء والأعمار لأعداد دراسات وبحوث تطور مؤسساتهم على شروط دعمهم ماديا" ومعنويا".

* باحث من العراق

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 12/أيلول/2011 - 13/شوال/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م