التراث.. مُستهدفاً!

هل تصلح الوصفات الغربية بديلاً ثقافياً عن موروثنا الحضاري

علي كاظم داود

هل التراث حبل يجرجر العقل إلى الوراء؟ وهل الموروث يكبل الحاضر والمستقبل بأغلالٍ صدئة؟ وهل حقاً أن كل ما أنتجه الأمسُ ما هو إلا عبءٌ ثقيلٌ على كاهل اليوم؟!

مرادنا من التراث هنا مجموع المعارف والآداب والقيم والمنجزات الثقافية والحضارية التي حملها لنا الزمن من أسلافنا، ويقرره محمد عابد الجابري على أنه (الموروث الثقافي والفكري والديني والأدبي والفني)، ويعرّفه محمد حسين غامري تحت مسمى الحضارة بأنه (الكل المركب الذي يشمل المعرفة والعقائد والفن والأخلاق والقانون والعُرف وكل القدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان...) وهو ـ ايّاً كان تعريفه ـ واحد من الموارد الأساسية التي لا غنى عنها في صناعة الحياة الثقافية والأدب في عصرنا.

بدءاً لا أريد الدفاع عن التراث لأنه تراث فحسب.. ولكن أتساءل: هل من المقبول إعلان الحرب على تراثنا العربي والإسلامي بلا سبب مقنع؟، كما يدعو البعض لذلك، وهل يمكن لنا إعلان القطيعة مع تراثنا لان الغربيين فعلوا هذا مع تراثهم لأسباب خاصةٍ بهم؟

هناك في الغرب أنتجوا فكر الحداثة ونفضوا أيديهم عن تراثهم الذي استباحته الكنيسة عهوداً مظلمةً طويلةً فكانوا بحاجةٍ لفعلٍ تنويريّ يطرد عن سمائهم ضباب مخلفات القساوسة والكهنوت المتحالفين مع الحكام والأمراء الظلمة. فهل واقعنا يشبه ذلك الواقع في تلك الحقبة الاوربية لكي نستورد نفس تلك العلاجات الحداثية بكل محمولاتها الإلحادية والتشكيكية الهادمة للقيم الموروثة والداعية لتصنيم العقل والذات؟!

ليس بالضرورة ان تكون فكرة معاداة ماضينا ونتاجاتنا السابقة هي الأصوب لأنها الأكثر بريقاً، فهذه الفكرة تستلزم سلخا متواصلا لكل ايمان قد يعتنقه الإنسان أو فكرة يتبناها، لان عليه ـ بالضرورة ـ التخلي عنهما لاحقا بدعوى التجديد. وهل من السليم التخلي عن معتقداتنا لحساب اعتناق عقائد (الحداثة) التي أصبحت اليوم بدورها تراثاً في موطنها الذي ولدت فيه. فهل نتنصل عن تراثنا ونتبنى تراث الآخر الذي أبلاه الزمن؟

من البديهي القول انه ليس كل قديم ميت، فالكل يعترف بحياة أدبٍ ضخمٍ انتج في أزمانٍ غابرة، وإلا لماذا الاستمرار بقراءة جلجامش أو امرئ القيس أو المتنبي وغيرهم، في حين لا نقرأ الكم الهائل مما تنتجه الماكنة الشعرية الحداثية من شعر حداثي تختنق به صحفنا ومجلاتنا، ولا نستمع لما يتلى على منابر المهرجانات من هذه النصوص خوفا على ذائقتنا من التخريب؟!

في أوائل نهضته استند الأدب الأوربي على موروثاته فانتج الأدب الكلاسيكي.. أدباء عالميون كبار اعتمدوا على الموروثات والحكايات الشعبية لينسجوا أدباً حاز على جائزة نوبل وجوائز غيرها.. حتى الأدب العراقي شهد توظيفا واسعا للأسطورة والموروثات التراثية دون ان يتهم بالرجعية. الا أن ما يجب الاعتراف به أن حركة مناهضة التراث تستهدف في صميمها الدين والعقيدة بشكل أساسي لذا تتغاضى في أحيان كثيرة عن منتجات الماضي الأخرى.

الدعوة إلى الانعتاق من الأطر التقليدية للإبداع والتي ظهرت مع جيرار دونرفال وشارل بودلير هي مرحلة متطورة تبحث عن تجليات اخرى للأدب قبالة الصورة الكلاسيكية له، الا انها لم ترفض أصولها بل اقترحت طريقة فهم جديدة. لكن ليس بالضرورة انه يجب ان تنطبق على واقعنا مشاريع مارتن لوثر أو ان نكون بحاجة إلى عصر تنوير عراقي أو عربي وفق مقاسات (لوثرية).. لان هتك الارتباط بالموروث والانعتاق من كل الاطر سيحرق هوية الثقافة العراقية أو العربية ويجعل من مثقفينا شتاتا لا رابط بينهم ولا جامع يجمعهم، ويغدو كل واحد منهم يسبح في بحر بعد تحطيم مركبهم وهدم كل ما شُيّد من صروح معرفية وحضارية على هذه الأرض.

الغريب اننا نشهد دعوة لتبني مفاهيم الحداثة في وقت نرى فيه حامليها القدامى (يدعون صراحة إلى التخلي عنها وتحرير الإنسان من انساقها التي افضت الى اختلالات وانهيارات متنوعة في الأحكام والقيم) بحسب قول عبد الجبار الرفاعي. بل ان بعض مفكري الغرب اخذ يكشف الأقنعة عن وجهها الحقيقي، حيث فشلت خطط الحداثة في موطنها الأصلي.. وقد (انهارت هذه الخطط لانها قامت على فرضية تقوم على إدانة الماضي وعدم التواصل معه وعلى تحطيم الثقة بالنفس وتدمير كل المعارف الموروثة والمؤسسات الاجتماعية العظيمة التي بذل إنساننا تضحيات هائلة لاشادتها) كما يرى عادل عبد المهدي في كتابه إشكالية الإسلام والحداثة. ولذا ظهرت ما بعد الحداثة، إذ يقول الجابري: (في أوربا يتحدثون اليوم عن "ما بعد الحداثة" باعتبار أن الحداثة ظاهرة انتهت مع نهاية القرن التاسع عشر) وقد جاءت هذه المابعد حداثة كرد فعل على أخطاء الحداثة ومقترفاتها الجسيمة ولانها مرحلة بات من الحتمي تجاوزها إلى آفاق جديدة.

الواقع ومن خلال استقصاء مبسط لدعاة الحداثة أو الملاحدة الجدد ـ في العراق خصوصاً ـ والذين اخذت تتعالى أصوات بعضهم من على منابر إعلامية وثقافية مرموقة وتوفر لهم إمكانيات كبيرة لنشر أفكارهم الداعية للتشكيك والإلحاد وما إلى ذلك من أفكار مستوردة عبر فضائيات وصحف ومؤسسات ثقافية وطباعة كتب، يمكن من خلال استقصاء مبسط لهم استكشاف أسباب نزوعهم الشاذ عن ثقافتنا ومن أهمها:

ما يمكن اعتباره الأول: إيجاد مبررات فكرية لتوفير مساحة من التحرر لممارسة أفعال محظورة دينياً، والتنفيس عن المكبوتات التي ضربت العقيدة جداراً من الحرمة دونها، حيث مارس بعض منهم الرذيلة وقام بمعاقرة الموبقات ثم اجترته أفعاله العملية تلك إلى إيجاد أسس ثقافية وفكرية جدلية واقناعية تحميه من طائلة الواجبات والنواهي التشريعية وتنزع عن قلبه تأنيب الضمير، فوجد في أفكار الحداثة ضالّته العظمى فخلع عن ربقته عبادة الإله الواحد وصار يعبُد عقله أو نفسه أو جسده أو غرائزه أو كتاباته أو كلها معاً إضافة إلى أشياء أخرى غيرها من إنتاج تماديه في الابتعاد عن التعقّل الديني ممتطياً صهوة العقلانية الحداثية..

 ومن المصاديق التي أعرفها على هذا الأمر أحد الذين انخرطوا في الدراسات الدينية سابقا بدافع الضائقة المالية، وما ان تنفس الصعداء حتى خلع ثوب الطهر وارتدى ثوب العهر، ثم أخذت هذه الأفكار تتسرب إلى آرائه وكتاباته حتى صار من دعاتها ومروجيها.

والثاني: وهو ما يعتبره علماء النفس وبعض علماء الاجتماع دافعا مهماً لقرارات الفرد وسلوكياته، ألا وهو العُقَدُ النفسية لدى الفرد والناشئة عن طفولة ممزقة أو فقر مدقع أو تنشئة شاذّة أو شعور بالنقص وحب التميز والظهور وغيرها من الأمراض التي تدفع بشخص قرأ مجموعة من الكتب ثم كتب شيئاً ما، فرأى نفسه بمرآة مكبرة وظنّ أنه اكتشف أسرار المعرفة وجذورها الفلسفية ومنابع الحضارة في تاريخ الإنسان وغوامض الوجود بكل تجلياته..

 والغريب أن أحدهم يصرح ـ وهو يعلم أو لا يعلم ـ بهذه العقدة في مقدمة كتاب الحادي له لم يأت فيه بجديد على مبادئ الحداثة الغربية سوى إعادة صياغتها بأسلوبه، حيث يقول انه ولد في أسرة تقتات المشاكل كل يوم، إذ وقع في مرمى النيران في حربٍ أزليةٍ نشبت بين والدته واخوته لأبيه، ولذا كانت طفولته محض حزن ومعاناة، تحولت حتماً إلى أمراض كامنة في باطنه، وعندما أمسك بالقلم تحولت أمراضه إلى سموم يبثها في أوساط المجتمع.

وربما ثمة أسباب أخرى تتعلق بأصابع العولمة ومؤسساتها المُحركة والمُجندة لكل الوسائل والأقلام والأبواق المتاحة لتحقيق غاياتها في بلدان الشرق.

لا يمكن الوثوق بدعاة كهؤلاء يمثلون نخبة غير مؤتمنة لم تبتنِ قناعاتهم على أسس عقلية وعلمية ومنهجية رصينة أو نزيهة، بل نبعت عن مزاجات وأهواء وحتّى أنواء متقلبة لا تثبت على قرارٍ رصين وتخلط الأمور خلطاً عجيباً ليظهر الحق معها دائماً، متعكزةً على الصياغات والألاعيب اللغوية لتسفيه هذا الطود العظيم الذي يمثله الرصيد التراثي الثرّ والعميق، ولتصوير ان التخلي عنه أمر حتمي لا بدّ منه لكي يصلح الإنسان للعيش في الألفية الثالثة وعوالمها الافتراضية.

لسنا هنا بصدد الدفاع ـ كما أسلفنا ـ عن مجمل التراث أو الدعوة إلى تقبّله بغثّه وسمينه، وفي ذات الوقت نرفض تلك الهجمة الشرسة ضدّه بدعوى أنه قد بُني على أوهام القصور البشري في الوعي، وسحب ذلك وتعميمه لاستهداف كل مقدّس سماوي أو أرضي وضرب النصوص الدينية حتى تلك التي لم يتطرق إليها التحريف وتحمل أدلّة إعجازها وصدقها على أنها نتاج خيالي في حضارة الإنسان، استناداً لكونها تخوض في مجال غيبي لا يمكن لحواس الإنسان التثبّت من حقيقته، وهذه إشكالية قديمة مستهلكة تتعامى عن كل تلك الردود الضخمة التي أُنجزت من قبل مفكرين كبار لمواجهتها، كما تغفل القدرات العقلية لدى الإنسان وتهبط إلى مستويات استدلالية مزاجية وساذجة لا يدفعها في ذلك سوى انبهارها ببريق الحداثة وضروراتها التشكيكية والإلحادية.

alidawwd@yahoo.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 7/أيلول/2011 - 8/شوال/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م