مواكب المسؤولين بين عقدة الخوف وعقدة النقص وجنون السلطة

رياض هاني بهار

بمراجعه سريعة لأدبيات وموروث الدولة العراقية الحديثة منذ تشكيلها ولغاية منتصف السبعينات ما يقارب اكثر من خمسين عاما نلاحظ بانتهاج الدولة سياسة رشيدة ومعتدلة بشان حماية (كبار المسؤولين ) والمقصود بالكبار (رئيس الجمهورية والوزراء) وعلى سبيل المثال كان المرحوم عبدالكريم قاسم عند محاولة اغتياله عام 1959 لم يكن برفقته سوى سائق ومرافق واحد وبعد الحادث لم يزد فردا واحدا لحمايته الا ان وافاه الاجل.

الا ان منتصف السبعينات طرأت مفاهيم جديدة على النظام الامني العراقي لم يكن مألوفا باتجاهات الدولة حيث كانت ترافق (نائب رئيس الجمهورية) سيارات ومدنيين ودراجات نارية وهي بداية الدكتاتورية لصدام حسين وقد جمع بموكبه شقاوات بغداد واولادهم ويعتقد ان هذا النمط مستنسخ من الدول الاشتراكية آنذاك (مدرسة الامن الروسية) كانت الحماية للدكتاتور فقط اما بقية المسؤولين بالدولة لم يكن برفقتهم سوى اشخاص على عدد الاصابع.

في عراقنا وعلى امتداد تاريخها خلال ثلاثين عاما ورثت ثقافة الحاكم الطاغي، ورضي الشعب بهذه الثقافة وتفاعل معها، ومع مرور الزمن، صارت جزءاً من ثقافتها، ثقافة الحاكم الأوحد، ثقافة العارف الوحيد، ثقافة الحاكم الطاغي والمستبد..، كانت الغلبة دائماً لتلك الثقافة، فقد بنيت ثقافة تلك الأنظمة على أسلوب يكاد يكون واحداً في جميع مراحله، فما أن ينتهي حكم ليحل مكانه طاغ آخر، يستفيد من أسباب سقوط الطاغية الذي سبقه، فيتحاشاها ليكون أسوأ من سابقها. هذه الثقافة إن كتب لها النجاح، وزاد معتنقوها.

وفي الاشهر الاولى بعد التغيير في 2003 ظهرت مواكب متجبرة تجوب الشوارع بسرعات جنونية في كل الاتجاهات، ومفارز متشنجة مدججة بالسلاح تصوب فوهات بنادقها إلى صدور الناس..، سيارات حديثة مصفحة ومظللة بلا أرقام تقذف الغبار والحصى المتطاير في وجوه المارة، وصفارات مدوية تصم الآذان تعوي كالذئاب المسعورة تثير الرعب وتبعث على الاستياء.. وجوه مقنعة وأخرى مبرقعة تتربص بنا شرا، وأصوات تحذيرية مزمجرة وزاجرة تنطلق من مكبرات الصوت تنذر بوجوب إخلاء الطريق والتوقف الفوري عن الحركة والابتعاد عن الموكب.. مسلحون يلوحون بمسدساتهم بحركات بهلوانية استفزازية من نوافذ السيارات، ومخالفات وانتهاكات مرورية بالجملة..، تسابق وتلاحق ومطاردات عشوائية سافرة بين سيارات الموكب المفتحة الأبواب.. ونظارات سوداء معتمة ممتلئة بالحقد، وملامح قاسية مروعة.. حراسات وحمايات شخصية مكثفة توحي إليك بأن الموكب متوجه إلى جبهة القتال لخوض معركة حربية مصيرية حاسمة، وسيادة مطلقة على الشارع تستبيح حقوق المواطنين وتستجمع كل صفات التكبر والتعالي والغطرسة والهيمنة والتهور وجميعهم يقلدون حماية الدكتاتور حيث نشأوا عليها وهم اطفال.

ان مواكب المسؤولين وحماياتهم باتت تثير الحساسية في الشارع، "لا أظن أن الوضع الامني يستوجب مرافقة الحمايات لبعض المسؤولين، خاصة انه في بعض الاحيان تحدث حالات تجاوز على المواطنين ومضايقة عند وجود المسؤول في مكان معين.

كان المواطن يتضايق كثيراً في زمن النظام السابق ممن يرتدون الزي الزيتوني ويحملون السلاح الا ان هذا الأمر تطوّر بشكل لافت بعد سقوط النظام وتزايدت أعداد الحمايات وكأن المسؤولين يوجهون رسالة الى المواطنين مفادها انهم شخصيات ذات أهمية"، بأن ظاهرة الحمايات الشخصية للمسؤولين عكست حالة سلبية عن الوضع الأمني، الى ان "جميع الحالات السلبية التي انتهجتها القوات الأجنبية ضد المواطن طبقها رجل الأمن العراقي ومنها الحمايات والأرتال والمواكب التي تقطع الطرق ولا تسمح للسيارات بتجاوزها ويضطر المواطنون الخروج عن الطريق العام الى المسالك الجانبية.

واللافت ان هناك ضباط بمواقع قيادية او سياسيين بمستوى معين بعيدا عن هذه المظاهر والشيء اللافت للانتباه بان بعض الموظفين غير مؤثرين وغير مهمين لكنه يتمتع بمزايا مسؤول كبير لقربه من احدهم حيث انه وصلت الحماية الى المدير العام ولو اخذنا مثال وزارة الداخلية فان هناك140 مدير عام تصل اعداد حمايتهم بالالاف وتعود هذه الظاهرة الدخيلة الى بعض اسبابها :

هو تلك الحالة النفسية، غير الطبيعية التي تؤدي بالإنسان إلى الخوف من أشياء غير واقعية. وهي حالة مرضية تقوم على أساس اختلال في التوازن النفسي سببه القلق، والشعور المفرط بالذنب... وغيرها من الأسباب النفسية، ولها في علم النفس تعبير آخر هو (الرهاب) أو (الخوف)، (الفوبيا) Phobi-.e.، وتصنف حسب علم النفس ضمن أمراض (العصاب) ومن ضمن (الرهاب) أو المخاوف المرضية التي اشتهرت في علم النفس رهاب الخلاء أو (الآغورافوبيا) وهو خوف يعتري بعض المرضى النفسيين، أثناء وجودهم في الأماكن المفتوحة، كالشوارع، والساحات الواسعة... فمثلاً: الخوف وهو مشكلة نفسية عندها تختلف وتفترق نفسية المؤمن عن غير المؤمن.. المؤمن الصادق والمكتمل الإيمان، لابد وان يتجاوز هذه المشكلة، ويسد ثغرتها في نفسه.. لأن الله تعالى يعتبر الخوف غير المشروع يتناقض مع الإيمان.. وشرط الإيمان هو الشجاعة..

يقول تعالى: {فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.

ولا بد من التحرر من سيطرة الخوف، دون أن يعني ذلك الوقوع في فخ التهور والفوضى، وان مفاهيم الإسلام وتعاليمه تقود الإنسان إلى المسار الصحيح، حيث ترشده إلى تجاوز عقبة الخوف، والخروج من هيمنته القمعية، وترتقي به إلى مستوى الشجاعة الحكيمة، والإقدام المسؤول.

الخوف المفرط سمة النفاق، والشجاعة شرط الإيمان وهذا لا يحصل إذا لم يتحرر الإنسان من داخله، ويثور على العوائق الذاتية في أعماق نفسه، تلك العوائق التي تمنعه من التحرك والانطلاق، هذا الخوف المكعب المربّع، الذي يملأ نفس إنساننا، هو المسؤول بدرجة كبيرة عن حالة الجمود والتخلف التي تعيشها.

عقدة النقص (Inferiority complex) : هي لاشعورية سببها نقص عضوي أو نفسي أو شعور بتدني المكانة الاجتماعية أو الاقتصادية فيؤدي بالفرد إلى أن يعوض ذلك لاشعورياً عن طريق المبالغة في طلب القوة والسيطرة على الآخرين، وهنا يجب التمييز بين عقدة النقص والشعور بالنقص والذي هو طبيعي وناجم عن نقص المقدرة أو انعدام الكفاءة كما في خبرات الأطفال مقارنةٍ مع الكبار ولا تحصل تنمية جادة في أي مجتمع، إلا بتنمية قدرات الإنسان ومواهبه، وبإطلاق العنان لطاقاته وكفاءاته، حتى يبدع وينجح إن التنمية الحقيقية يجب أن تبدأ من الإنسان، بأن يثق بنفسه، ويكتشف قدراته، ويفجر طاقاته، ويتحمل مسؤوليته في الحياة، وهذا لا يحصل إذا لم يتحرر الإنسان من داخله، ويثور على العوائق الذاتية في أعماق نفسه، تلك العوائق التي تمنعه من التحرك والانطلاق.

" جنون العظمة" أي وهم الإعتقاد بالعظمة، فيعتقد المريض وبشكل قاطع بأنه حالة إستثنائية فوقية تختلف عمّا سواها وتتفوق بقدرات ومواهب قد تكون خارقة. فقد يتصور نفسه، على سبيل المثال وليس الحصر، بأنه مسؤول سياسي مهم أو قيادي في الحزب من الدرجة الأولى أو أنه من أقارب رئيس الوزراء أو من المقربين له، أو أنه تاجر ثري يملك الكثير من الثروة والمال أو أنه فيلسوف في عصره وحكيم في زمانه وأديب لا يضاهى أو أمير للشعراء أو أحد علماء الكون عارض جنون العظمة هنا سهل التشخيص لأنه يتلازم عادة مع عارض الوهم في الحس والإعتقاد ويكون المريض بحالة واضحة تستدعي العناية والعلاج.

 إلاّ أن المشكلة تكمن في أولئك الفصاميين الذين هم في حالة مستترة لا تظهر فيها الضلالات على السطح حيث يمارسون حياتهم العادية ولا يبدو عليهم المرض. قد تجد بينهم الأطباء والمهندسين والأدباء والسياسيين الذين ربما يظهر عليهم المرض بعارض واحد وهو وهم الإعتقاد بالعظمة فيدعون ما لا يملكون ويصدقهم البسطاء بسبب إختصاصاتهم ومراكزهم الوظيفية والإجتماعية.

 واخيرا وليس أخرا أذكر بالحكمة التي كثيرا ما رددناها و لم نعمل بها يوما "لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم "..

واود ان اوضح خطورة الاسراف في تلك المواكب والمخاطر الناجمة منها على الاقتصاد والامن الوطني وكالاتي:

1ـ لو فرضنا ان معدل رواتب هؤلاء بمعدل 500 الف دينار عراقي شهريا فانهم يكلفون الميزانية العامة ما يعادل مليار ومائتان وخمسون مليون دولار امريكي... قد يقول قائل ان عملية الحفاظ على امن المسؤولين الحكوميين هي عملية وطنية تحفظ السيادة الوطنية...لا اعتراض على هذا الامر...لكن المبالغة بأعداد الحراس الامنيين والحمايات امر عكس الكثير من حالات الفساد والاحتيال والمحسوبية حتى بعض المسؤولين قام بتسجيل اسماء واعداد وهمية لحماياتهم...اضافة الى المصاريف الاخرى للطعام. وبالإمكان الاستعانة بالوسائل التقنية بدلا من البشرية.

2ـ في بلد اختلطت فيه جميع الاوراق يسعى مسؤولوه جاهدين للفوز بكل الامتيازات وبكل قوة... مرهقين بذلك موازنته التي مافتئوا يتعكزون على محدوديتها حينما تذكر عندهم الخدمات وفرص العمل... ويذكر مراقبون ان هناك اكثر من 250 الف عنصر امني يقومون بمهمة حماية المسؤولين في الدولة العراقية توزعوا على مؤسسات الدولة المختلفة التشريعية والقضائية والتنفيذية وتباينت اعداد هؤلاء وبحسب اهمية وموقع.

 3ـالمسؤولون يعمدون الى ان يعكسوا أهميتهم ومكانتهم من خلال مرافقة الحمايات لهم في الأسواق والأماكن العامة بشكل يثير اشمئزاز المواطن، وفي أحيان كثيرة تبدر من الحمايات تجاوزات على المواطنين والموظفين كإرغام الموظف على إنجاز معاملاتهم الخاصة خلافاً للقانون.

4ـ ان كثيرا من المحافظات تتمتع باستقرار امني ورغم ذلك استمرت المزايا التي فرضتها ظروف استثنائية وبالتالي فهو اهدار بالطاقات.

 5ـ أن ظاهرة الحمايات الشخصية ومواكب المسؤولين باتت تثير امتعاض واستياء كبيرين، على الرغم من التعليمات والتوجيهات الواضحة من رئاسة الوزراء التي تحدد عدد أفراد الحماية إلا أن الكثير من المسؤولين لا يلتزمون بذلك.

6ـ ان ارتباط الحمايات بالمسؤول مباشرة وعدم وجود مرجعية ادارية للبعض منهم يكونون خارج رحم السلطة التنفيذية ويسبب مشاكل امنية تبرز اثارها بالمستقبل والمتابع للجريمة المنظمة وكيفية تشكيلها ينذر بضرورة مراقبه سلوك هذه الحمايات والاكثر خطر ان اغلبهم غير مدربين.

* خبير بالشؤون الامنية

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 6/أيلول/2011 - 7/شوال/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م