المحاكم العسكرية المصرية: غير ليبرالية ومزعزعة للاستقرار

 

شبكة النبأ: منذ تولي "المجلس الأعلى للقوات المسلحة" السلطة في مصر بعد استقالة حسني مبارك في 11 شباط/فبراير، عمل "المجلس" على إخضاع المدنيين لمحاكمات عسكرية بمعدل لم يسبق له مثيل. وقد أصبح الاستخدام المتزايد لهذه المحاكمات بمثابة صرخة الحرب للقوى السياسية الرئيسية في مصر ضد "المجلس الأعلى"، ويجري التخطيط لجولة جديدة من المظاهرات في أيلول/سبتمبر. كما يرى إيريك تراغر (زميل آيرا وينر في معهد واشنطن لدراسات الشرق الادنى).

الخلفية

يقول إيريك تراغر في تحليله المنشور في معهد واشنطن، طالما استخدم حكام مصر المحاكم العسكرية لتحقيق أحكام مرغوبة عن طريق التحايل على النظام القضائي المستقل نسبياً. وخلال أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين أقام الحكام البريطانيون في مصر محاكم عسكرية لتجنب المحاكم الوطنية للبلاد، والتعجيل بمحاكمات المصريين المتهمين بجرائم ضد جنود بريطانيين. وفي وقت لاحق اعتمد جمال عبد الناصر على المحاكمات العسكرية في القضايا التي تخص خصومه السياسيين وتحكمه في النتائج عن طريق اختيار القضاة والاحتفاظ بسلطة التصديق على الأحكام. وبعد وفاة عبد الناصر توقف أنور السادات بشكل عام عن هذه الممارسة اعتقاداً منه بأن استقلال القضاء من شأنه أن يعزز الاستثمار الخارجي. وبذلك تم إرسال المعارضين السياسيين إلى محاكم أمن الدولة بدلاً من المحاكم العسكرية.

وفي البداية اتبع حسني مبارك سياسات السادات في التقاضي لكن بعد بضعة أحكام مخيبة للآمال سعى إلى كسب قدر أكبر من السيطرة على النتائج القضائية. وخلال أوائل التسعينات من القرن الماضي بدأت الحكومة النظر في قضايا الإرهاب في محاكمها العسكرية مما أعطى النظام سيطرة كاملة على الأحكام، لأن القضاة في القضايا ذات الشأن كانوا من ضباط الجيش المعينين من قبل الرئيس ووزير الدفاع لمدة عامين قابلة للتجديد. وابتداءاً من عام 1995 وسَّعت القاهرة استخدامها للمحاكم العسكرية للنظر في قضايا المدنيين المنتمين إلى جماعة «الإخوان المسلمين» والتي دافع عنها النظام بموجب القانون القضائي العسكري من عام 1966 الذين ينص على أن "لرئيس الجمهورية الحق في إحالة أية جريمة إلى القضاء العسكري إذا كان يعاقَب عليها بموجب 'القانون الجنائي' أو أي قانون آخر."

ومنذ شباط/فبراير 2011، يقوم "المجلس الأعلى للقوات المسلحة" بمحاكمة مدنيين بمعدل غير مسبوق. ورغم أنه لا تتوفر أرقام محددة إلا أن منظمات حقوق الإنسان تقدر بأن هناك بما بين عشرة آلاف إلى اثني عشر ألف مدني كانوا قد تعرضوا للمحاكمات العسكرية منذ ثورة كانون الثاني/يناير.

النفعية تفوق العدالة

ويشير إيريك تراغر، إن اعتماد "المجلس الأعلى" على المحاكمات العسكرية إنما يخدم مصلحتين رئيسيتين. أولاً: المحاكمات العسكرية ملائمة سياسياً. وخشية أن يتحول إلى هدف لنفس الأنماط من الاحتجاجات التي أطاحت بمبارك، يُفضل "المجلس الأعلى" استخدام المحاكمات العسكرية -- والأحكام الطويلة التي تحملها الإدانات -- لردع ما يعتبره جُرماً بدلاً من التدخل مباشرة في نزاع مدني والمخاطرة بالمصادمة مع الشعب. ووفقاً للناشطين لم يتورع الجيش عن مبرراته للجوء إلى المحاكمات العسكرية حيث يقول مراراً لأُسر من تم اعتقالهم إن هدفه هو "إرهاب الأمة لتعود مرة ثانية إلى الطاعة."

ولتعزيز هذا التأثير الرادع وسَّع "المجلس الأعلى" نطاق الجرائم التي يمكن تقديمها للمحاكمة أمام محاكم عسكرية. ففي 1 آذار/مارس قام بتعديل القانون الجنائي المصري ليشمل "البلطجة" والتي تم تعريفها كـ "إظهار القوة أو التهديد باستخدام القوة ضد ضحية" بــ "هدف تخويف أو إحداث ضرر به أو بممتلكاته." ورغم أن هذا التعديل قد تم دعمه على نطاق واسع في أعقاب ثورة "ميدان التحرير" التي قام في أثنائها بلطجية مبارك بإرهاب الشعب، إلا أنه منذ ذلك الحين قد تم تفسير "البلطجة" على نطاق أوسع لتشمل كسر حظر التجول أو امتلاك أسلحة غير قانونية أو تدمير الممتلكات العامة أو السرقة أو الاعتداء أو التهديد بالعنف -- وباختصار، مجموعة واسعة ومتنوعة من الأنشطة التي تمنح الهيئة العسكرية أقصى سلطة لمعاقبة المدنيين.

على أن إجراءات المحكمة العسكرية تضمن عموماً إدانات لأولئك المتهمين بالبلطجة حيث عادة ما يُحرم المتهمون من المشورة القانونية ويُحاكمون في جماعات تتراوح أعدادها من خمس إلى ثلاثين شخصاً. وتشير الأدلة غير المؤكدة أن أحكام الإدانة مقررة سلفاً، ووفقاً لبعض التقارير إن المحاكمات كلها يمكن أن تستغرق أقل من نصف ساعة -- مما يعني أن الأُسر لا تعرف في الغالب أماكن وجود أقاربها إلا بعد صدور الأحكام عليهم. وربما الأكثر إزعاجاً هو أن الأحكام العسكرية لا يمكن استئنافها.

وبينما كانت الغالبية العظمى من المحاكمات العسكرية غير سياسية، اعتمد "المجلس الأعلى" على نحو متزايد على مَحاكِمه العسكرية لدعم هدف ثاني جوهرُه سياسي ألا وهو سحق المعارضة.

السلاح وصرخة الحرب

كما ينوه إيريك تراغر، في الأشهر الأخيرة استخدم "المجلس الأعلى للقوات المسلحة" على نحو متزايد الاعتقالات والمحاكمات العسكرية ضد الناشطين الشباب المشاركين في المظاهرات. وقد حدثت أول اعتقالات واسعة النطاق في 9 آذار/مارس عندما فرق الجيش بعنف اعتصام في "ميدان التحرير" واعتقل 173 ناشطاً بتهم البلطجة، وتم الحكم على 76 شخص على الأقل بالسجن بين سنة إلى ثلاث سنوات بتهم خرق حظر التجول وحيازة متفجرات وسكاكين وتخريب ممتلكات. وقد قام الجيش بحملة اعتقالات جماعية إضافية ضد ناشطين في 9 نيسان/أبريل (42) و 12 نيسان/أبريل (28) و 28 حزيران/يونيو (50) و 1 آب/أغسطس (115). وعلى الرغم من استجابة الجيش للاحتجاجات الشعبية اللاحقة عن طريق الإفراج عن العديد ممن تم اعتقالهم إلا أن النشطاء قد تحدثوا عن ظروف الزنزانات المكتظة بالسجناء وتعرضهم للضرب من قبل ضباط صغار.

وقد سعى "المجلس الأعلى" إلى قمع الانتقادات الموجهة لحكمه بإخضاعه عدد من الناشطين والمدونين البارزين إلى الاعتقال بل وحتى المحاكمة العسكرية بجريمة "إهانة المؤسسة العسكرية." فعلى سبيل المثال:

• في 28 آذار/مارس تم القبض على المدون القبطي مايكل نبيل سند لكتابته عن انتهاكات الجيش لحقوق الإنسان، و في 10 نيسان/أبريل حُكم عليه بالسجن ثلاث سنوات بدون حضور محاميه.

• في 14 آب/أغسطس تم القبض على الناشطة الشابة أسماء محفوظ من حركة "6 نيسان/أبريل" بتهمة "التحريض على العنف ضد الجيش" وهي بانتظار محاكمة عسكرية.

• في 15 آب/أغسطس تم القبض على الناشطة بحركة "كفاية" مها أبو بكر وهي محامية، لكن أُفرج عنها لاحقا ًحيث ادعى الجيش أنه تم القبض عليها نتيجة خطأ في تحديد الهوية.

• في 17 آب/أغسطس اتهم الجيش قيادة "الأكاديمية الديمقراطية المصرية" -- وهي جماعة مناصرة لليبرالية تقوم بتدريب ناشطين على الانتظام سياسياً -- بإثارة عدم الاستقرار، ورغم أن المدعي العسكري قد أفرج عن قادة "الأكاديمية" إلا أنهم ما يزالون غير متأكدين فيما إذا كان قد تم إغلاق التحقيق أم لا.

وبالإضافة إلى هذه الاعتقالات العسكرية تم استجواب الصحفيين رشا عزب وحسام الحملاوي وريم ماجد من قبل الجيش -- وليس الشرطة -- بسبب تصريحاتهم عن الجيش.

وفي حين تم إطلاق سراح الكثير من المعتقلين السياسيين إلا أن هذه الحالات البارزة قد وجهت الأنظار نحو المحاكم العسكرية مما خلق مصدراً جديداً للتوتر بين "المجلس الأعلى للقوات المسلحة" والقوى السياسية الأخرى. وحتى «الإخوان المسلمون» الذين أعطوا دعماً قوياً لإدارة الجيش لعملية الانتقال السياسي قد انتقدوا المحاكمات واصفين إياها كـ "إجراء غير دستوري". وبالمثل عبَّر المرشح الرئاسي السلفي حازم أبو إسماعيل عن معارضته لها. وفي الوقت نفسه، وأثناء "احتجاج على الانترنت" عُقد في 27 آب/أغسطس نشر النشطاء أكثر من 130000 تعليق احتجوا فيه على المحاكمات العسكرية من على صفحة "المجلس الأعلى" على الـ "فيسبوك" خلال خمس عشرة دقيقة فقط.

وبعد شهر من النشاط السياسي المتقلص اعتقد الناشطون الشباب في مصر أن بمقدورهم التعاطي من جديد مع الجماهير من خلال التركيز على المحاكمات. وقد بدأت بالفعل ست حركات ليبرالية ويسارية كبرى -- وهي "6 نيسان/أبريل" و"حملة البرادعي" و"الحرية والعدالة" و"الكرامة" و"التجمع" و"حزب الجبهة الديمقراطي" -- في التخطيط للقيام بمظاهرة كبيرة في 9 أيلول/سبتمبر لما أسموه "جمعة تصحيح المسار". ولو نجح الناشطون في استعادة الزخم فسيكون بمقدورهم تمهيد الطريق لسلسلة أخرى من المواجهات مع الجيش.

وحتى الآن فقد استجاب الجيش بالإفراج عن 230 مدنياً تمت إدانتهم في محاكم عسكرية بعد مظاهرات 28-29 حزيران/يونيو. لكن النشطاء رفضوا هذه البادرة واعتبروها غير كافية قائلين إن عشرة آلاف آخرين أو ما يقارب ذلك من المدنيين ما يزالون قابعين في سجون عسكرية دون أن يقدَّموا إلى محاكمات عادلة. وتبدو سياسة التقاضي التي يتبعها "المجلس الأعلى للقوات المسلحة" غير عادلة بوجه خاص نظراً لأن "المجلس" يُحاكم مسؤولي نظام مبارك في محاكم مدنية. وفي الوقت نفسه، يبدو أن "المجلس الأعلى" قد وضع المقاضاة العسكرية للنشطاء المدنيين كأولوية قبل الحاجة إلى إعادة أَسر ما يُقدر بسبعة آلاف مجرم هربوا من السجون المصرية منذ بدء الانتفاضة.

قضية مُلحة للنقاش الثنائي

ويستدرك إيريك تراغر، بالرغم من أن إدارة أوباما قد أعطت -- على نحو مناسب -- "المجلس الأعلى" هامشاً واسعاً لمواصلة الانتقال السياسي بالطريقة التي يراها مناسبة، فمع ذلك يجب على واشنطن أن تطرح للنقاش مع حكام مصر الحاليين مشكلة سوء استخدام المحاكم العسكرية. ولسنوات عِدة كانت الإدارات المتعاقبة تحث نظام مبارك على إنهاء أو إعادة صياغة قوانين الطوارئ في مصر لمنع الانتهاكات السياسية التي تتم تحت مسمى الأمن الوطني. وإذا تمسك خلفاء مبارك بلا حكمة بهذه الممارسة وقاموا بتوسيعها، فسيكونون بذلك قد ارتكبوا ما هو أكثر من مجرد إخفاق العدالة. وسوف يخاطرون أيضاً بخلق توترات جديدة مع الشعب تهدد شرعية الانتقال السياسي لمصر، وكذلك المؤسسة -- أي الجيش -- التي تعول عليها واشنطن لرعاية انتقال سلمي ومنظم للسلطة. وحيث إن مبارك نفسه يحاكَم الآن في محكمة مدنية فمن الصواب والذكاء في الوقت ذاته مشاورة "المجلس الأعلى" لكي يقتنع باحتضان القضاء المدني كونه السبيل الأمثل لمقاضاة الجرائم المدنية.

نبذة عن معهد واشنطن

الجدير بالذكر ان معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى بحسب موقعه الالكتروني أسس عام 1985 لترقية فهم متوازن وواقعي للمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط. وبتوجيه من مجلس مستشارين بارز من كلا الحزبين من اجل توفير العلوم والأبحاث للإسهام في صنع السياسة الأمريكية في هذه المنطقة الحيوية من العالم.

وينقل موقع تقرير واشنطن الالكتروني إن الهدف من تأسيسه كان دعم المواقف الإسرائيلية من خلال قطاع الأبحاث ومراكز البحوث وان لجنة العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية المعروفة بإيباك كانت المؤسسة الأم للمعهد حيث أن مديره المؤسس هو مارتن إنديك رئيس قسم الأبحاث السابق باللجنة. وتزعم المنظمة أنها اختارت مصطلح "الشرق الأدنى" لتعريف الهوية الذاتية للمعهد (بدلا من "الشرق الأوسط) لأنه المصطلح المعترف به في الخارجية الأمريكي لوصف العالم العربي والدول المجاورة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 5/أيلول/2011 - 6/شوال/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م