" تعلمت منذ زمن ألا أتصارع مع
خنزير أبدا، لأنني سأتسخ أولا، ولأنه سيسعد بذلك "
برنارد شو
كان القرن الثامن عشر قد سجل لبريطانيا دورا سبقت به بقية الدول
الامبريالية لفرض الهيمنة على الصين، واجبارها على فتح موانئها البحرية
والبرية وأسواقها للصادرات البريطانية، لكن الصين كانت ترفض أن يملى
عليها ما ينبغي فعله. وجوابا على طلب ملك بريطانيا جورج الثالث من
امبراطور الصين يونغ تشينج، كان رده: " أن امبراطورية الصين السماوية
لديها ما تحتاجه من السلع وليست بحاجة لاستيراد سلع أخرى من البرابرة
". لم يرض ذلك البريطانيين، وزاد من غضبهم اشتراط الصين عليهم دفع
أثمان مستورداتهم منها نقدا وبالفضة، لأن ذلك يستنفذ مواردهم من هذا
المعدن الثمين، ففكروا بطريقة يجنون منها أكثر مما يدفعون، فباشروا
بزراعة الأفيون في الهند المجاورة وتهريبه عبر الحدود. ففي عام
1781كانت أولى شحناتهم منه قد حققت ما لم يحلموا به، فقد درت عليهم
أرباحا هائلة مع تزايد عدد المدمنين عليه، اضطر امبراطور الصين عام
1829 إلى اصدار أوامره حرم بموجبها زراعة واستيراد المخدرات. لم تعجب
بريطانيا الاجراءات الصينية، قامت بناء عليها باعلان الحرب على الصين،
فكانت حرب الأفيون الأولى 1840 – 1842، تلتها حرب الأفيون الثانية 1856
– 1860، تبعتها حروب أخرى شاركت فيها أمريكا وفرنسا وكل من السويد
والدنمارك وبلجيكا وروسيا، أجبرت الصين نتيجتها على الاذعان لشروط
بريطانيا وحلفائها، ولم تتوقف حروب الأفيون إلا في عام 1911 بعد أن
استسلمت الصين باذلال لتلك الشروط وأدناه بعضا منها:
1 - تنازل الصين عن منطقة كولون وجزيرة هونغ كونغ التي أصبحت قاعدة
عسكرية واقتصادية وسياسية لبريطانيا حتى التسعينيات من القرن الماضي.
2 – فتح عشرة موانئ بحرية جديدة للتجارة مع الدول المشاركة في الحرب.
3 – دفع تعويضات للبريطانيين عن نفقات الحرب.
4 – تحديد تعريفة جمركية مشتركة بموافقة بريطانيا.
5 – منح بريطانيا حق الدولة الأولى بالرعاية التجارية.
6 – الاشارة للأفيون كسلعة ضمن السلع المسموح باستيرادها إلى الصين.
7 – السماح بالملاحة في نهر اليانج تسي كيانج.
8 – السماح للمبشرين الغربيين بالتبشير بالمسيحية في أي مكان في
الصين.
واضافة لكل ذلك كانت القوى الغازية تنهب ما في القصور الامبراطورية
من تحف ومجوهرات نادرة لا تقدر بثمن بعد كل حرب يشنوها عليها، ولم
يكتفوا بذلك، بل يضرمون النار فيها قبل أن يغادروها هم ومسروقاتهم
الثمينة. (لقد كان لنا مثل ذلك في العراق أيضا بعد 2003، فقد نهبت
محتويات قصور صدام والمتاحف الوطنية العراقية).
لقد أدى الأخذ بالشروط تلك إلى انتشار الادمان على المخدرات بشكل لم
يسبق له مثيل في الصين، حيث ارتفع عدد المدمنين من حوالي (1) مليون
مدمن عام 1830 إلى(12) مليونا عام 1850، ارتفع العدد إلى (120) مليونا
عام 1878. لم يتغير أسلوب الدول الثلاث لتأمين مصالحها على حساب الشعوب
الأخرى، فالبحث عن الربح كان هدف حروب الأفيون، وهدف حروبها اليوم هو
الربح أيضا، أما مبرراتها فلم تغير من الأمر شيئا، فقد كان مبرر تلك
الحروب تنفيذ مبادئ حرية التجارة، أما حروب الأفيون هذه الأيام فتشن
باسم مبادئ الحرية والديمقراطية.
لا يحتاج المرء لكثير من العلم ليكتشف ما وراء ماكنة الموت والتدمير
التي تقودها الدول الثلاث منذ ستة أشهر على ليبيا، فالمصالح الغربية هي
من يحرك الطائرات ويوجه صواريخها على الأهداف على الأرض. لقد نص قرار
مجلس الأمن الدولي رقم 1973 صراحة على فرض الحظر الجوي لمنع القيادة
الليبية من استخدام الطيران العسكري ضد المدنيين المعارضين لحكمها، لكن
قادة حلف الناتو حولوه إلى حرب جوية يطاردون بها العقيد القذافي لقتله
وأفراد عائلته وحكومته وتدمير أي منشآت يشك في الاحتماء فيها من غارتهم.
أما القذائف التي تطلقها طائراتهم وبوارجهم الحربية التي وصفت بالذكية
فهي ليست فقط غبية بل عمياء أيضا، فهي لا تميز بين معارضي النظام
ومواليه أو بين حملة السلاح والعزل منه. وبينما يتساقط المئات يوميا من
الضحايا من كل الأطراف، لا تتوقف دول الناتو عن إلقاء الأسلحة من الجو
لمد المقاتلين بالمزيد منها والحث على مواصلة القتال وسفك الدماء،
بينما الحاجة ماسة لإمدادات الغذاء والماء والأدوية والمعدات الطبية
والأطباء. القاء الأسلحة من الجو رغم مخالفته لقرار مجلس الأمن الدولي
يضع تحت تصرف المتطرفين سلاحا مجانيا لم يحلموا به لخوض حروبهم
الاستشهادية طلبا للجنة والخلود فيها. فهل أخذت قوات الناتو تبعات ذلك
على مستقبل الأمن والاستقرار في ليبيا وبقية منطقة شمال أفريقيا؟
السكرتير العام للأمم المتحدة الذي يفترض أن يدافع عن الشرعية الدولية
وسلامة المدنيين أثناء الحرب يلتزم الصمت تجاه ما يجري من سفك للدماء
بدون تمييز، وتدميرا للبنية التحتية والمنجزات الاقتصادية للبلاد.
ونفس الموقف تتخذه المعارضة البرلمانية في دول الناتو، حيث تلتزم
الصمت هي الأخرى، فلم يتفوه ممثلوها بكلمة واحدة عن لا شرعية تلك
الحرب، وما تسببه من ضحايا بشرية بين المدنيين بشكل خاص، وهي تعلم علم
اليقين أن صادرات السلاح إلى مناطق التوتر تحرمه القوانين المحلية
والدولية، وبخاصة تلك التي يمكن أن تستخدمها خلال الاضطرابات الداخلية.
فقد نشرت صحيفة ذي تايمز البريطانية في عددها ليوم الأثنين 29 / 8 /
2011 تقريرا مفصلا عن مبيعات الأسلحة للدول العربية خلال فترة تصاعد
الاحتجاجات فيها بداية العام الجاري. جاء في التقرير، أن مبيعات
بريطانيا وحدها وهي ثاني أكبر مصدر للأسلحة في العالم بعد الولايات
المتحدة ارتفعت بنسبة 30 %، وقد تضمنت صفقات الأسلحة كل الأصناف بدء من
القنابل اليدوية والأسلاك الجارحة الشائكة والغازات المسيلة للدموع
والرصاص المطاطي والمسدسات إلى اصناف القاذفات التي تحمل على الكتف
وتلك التي تستخدم للقنص. ويسمي التقرير الدول التي صدرت اليها تلك
الأسلحة أو التي ستصدر لها وفق العقود الموقعة معها، وهي: العربية
السعودية وليبيا واليمن والبحرين وعمان والأردن والامارات العربية
المتحدة والعراق وتونس ومصر وسوريا. وهناك 160 طلبا للتصدير تمت
الموافقة عليها، بينها 600 ألف قطعة سلاح قد تم تنفيذها منذ بدء
الاحتجاجات، بلغت قيمتها 16 بليونا من الباونات الاسترلينية، أما قيمة
العقود الموقعة فبلغ مجملها(35) بليون باون، وقد نتج عن هذه الزيادة في
التصدير(30) ألف فرصة عمل جديدة في مصانع السلاح.
ومن ضمن الأسلحة التي صدرت على عجل إلى السعودية أثناء احتجاجات
البحرين المدرعات الخفيفة والسيارات المقاومة للرصاص التي بثت القنوات
التلفزيونية نماذج منها وهي في طريقها إلى البحرين لقمع الاحتجاجات
فيها. وبلغت قيمة صادرات السلاح للامارات المتحدة خلال نصف العام
الفائت (11) مليونا من الباونات، بينما بلغت قيمة مستورداتها العام
الماضي (2) مليون باون فقط. أما عمان فقد بلغت مشترياتها (364) مليون
باونا، وليبيا (80) مليون باونا تم تصديرها في شباط / فبراير الماضي
كجزء من صفقة بلغت قيمتها (1.5) بليون بونا استرلينيا.
وقد تم شحن السلاح إلى ليبيا في نفس الشهر الذي نفى فيه وزير
خارجية بريطانيا وليم هيك ردا على تساؤلات الصحفيين عن تصدير الأسلحة
إلى نظام القذافي بقوله " لايوجد هناك أي دليل على مخالفة بريطانيا أمر
حظر تصدير السلاح إلى ليبيا أيام الاضطرابات ". وأوردت الصحيفة أيضا،
أن اجتماعا سريا سيعقد في لندن الأسبوع الحالي يضم ممثلي 26 شركة أمنية
ومنتجة للسلاح في بريطانيا للنظر في خطط بيع الأسلحة في الفترة القادمة،
وفي الأسبوع الذي يليه سيعقد اجتماعا آخر لممثلي (700) شركة أمنية
ومنتجة للسلاح في العالم لمناقشة ستراتيجيتها للمرحلة القادمة أيضا.
يثبت هذا كما هي مهمة تجارة الموت للشركات المنتجة لوسائله لما تحققه
من فرص عمل للعاطلين عن العمل، والأهم من ذلك كله الأرباح الفاحشة التي
تدرها تلك التجارة القذرة.
أمام هذا اللهاث لتحقيق الأرباح بأي ثمن على حساب الشعوب المغلوبة،
ينبغي علينا البحث عن المصداقية في دواخل قادة الدول الذين يتبرعون
ببعض الديمقراطية لبلداننا، قبل أن نرقص فرحا للتحركات الجماهيرية في
منطقتنا العربية التي تعيش مخاضا طال انتظاره. الشعوب تسعى للتحرر من
الديكتاتوريات الدموية، وتطمح لحقوقها الديمقراطية، وتأمل لتأمين مصادر
رزقها بكرامة في أجواء الحرية واحترام حقوقها التي كفلتها القوانين
والالتزامات الدولية. ما نتمناه لأخوتنا المناضلين من أجل الديمقراطية
أن يستفيدوا من الدرس العراقي، بكل ما احتواه من مرارة وحلاوة، وان
يتحاشوا الوقوع بأخطاء ما تزال ترتكب يوميا في حياتنا اليومية، فقد
قدمنا الكثير من التضحيات التي ما كان علينا تقديمها، وكان بالامكان
تحاشيها أو على الأقل حصرها في الحدود الدنيا. فنحن لا نلقي الدروس، بل
نطلب الاستفادة من تجاربنا وتضحياتنا واخفاقاتنا، فقد أخفقنا وما نزال
نرتكب الأخطاء.
فعلى ما يبدو أن الدول المتحالفة لانهاء حكم القذافي بأي طريقة، لم
تاخذ مأخذ الجد حقيقة فراغ السلطة الذي سيلي سقوطه، وهي بهذا تكرر نفس
الخطأ الذي ارتكبته في العراق بعد سقوط النظام في آذار / مارس 2003.
فقد اضطرت هناك على عجل بعد أن اكتشفت خطئها الجسيم بانتداب جنرال سابق
في الجيش الأمريكي، تاجر النفط غاردنر لادارة شؤون العراق، ما فتئت أن
استبدلته بآخر أكثر جهلا.
المجلس الانتقالي الذي تتعاون معه قوى التحالف في حربها الحالية غير
متجانس سياسيا، وغير متوازن قبليا، وضعيف اداريا وتنظيميا، وهش فكريا.
فرئيس المجلس الانتقالي كما وصفته الصحافة الغربية رجل محافظ، ولا تعرف
حقيقة علاقاته مع الجماعات المتطرفة في ليبيا وفي المنطقة المجاورة،
والكل يعرف من هؤلاء وعن أي هدف يبحثون. فالسيد مصطفى عبد الجليل ودون
أن نقلل من وطنيته وتضحياته ونواياه نحو وطنه وشعبه، يعمل مع فريق أقوى
منه مناورة وتخطيطا، وأكثر منه استعدادا للمغامرة والتحدي. السلطة
الفعلية على مجريات العمليات العسكرية واتخاذ القرارات السياسية في
أيدي آخرين وليس في يديه، هذا عدا القوى والشخصيات الأخرى خارج المجلس
من العسكريين الذين ما زالوا جزء من القوات المسلحة التي تنتظر اللحظة
المناسبة للانقضاض على السلطة، واحتلال دورها في قيادة البلاد، وقد
تنفذ تصفيات جسدية لمنافسيها، وقد شهدنا واحدة منها قبل أسابيع.
وهناك أيضا الاسلاميون الأشد تطرفا مثل جماعة القاعدة في المغرب
العربي، وهم قوة لا يستهان بها فكريا وتنظيميا وشعبيا، ولن تكون مفاجئة
اذا ما دخلوا الصراع على السلطة بثقل واضح وقد غنموا من السلاح ما
يكفيهم لفرض شروطهم. ولا يجب أن نقلل من شأن الروح البدوية الصحراوية
المتأصلة في نفوس الجميع دون استثناء، فهي هي حاضرة في كل زاوية من
زوايا الحياة الاجتماعية الليبية، ولا تحتاج إلى شهادة تعريف لتثبت
شرعيتها. ما يخشى منه أن يصادر القرار الليبي شخصيات أو قوى تسرق أمال
الشعب الذي انتظر أكثر من أربعين عاما ليهنأ بنظام يحقق له ديمقراطية
حقيقية، تضمنها له الأمم المتحدة بمؤسساتها الكثيرة مستندة إلى الشرعية
الدولية لا إلى شركات النفط والسلاح والمقاولات وأباطرة المال. وما
نخشاه أن تنفجر الخلافات بين الليبيين بعد تنحية القذافي عن السلطة،
وعندها " يذهب الخيط والعصفور " كما يقول المثل العراقي.
لا توجد لحد اليوم تفاهمات وتحالفات والتزامات مكتوبة بين قوى
المعارضة لنظام القذافي، ولا يعرف برنامجها للمرحلة اللاحقة، وهذا نقص
واضح في عملية انتقال السلطة إلى حكم مدني ديمقراطي، وهي التزامات يجب
أن يضمنها مجلس الأمن الدولي ودول التحالف التي تقود عمليات اسقاط
النظام الحالي، على أن يتكفل المجلس بمراقبة تنفيذ تلك الاتفاقات على
غرار ما تم في يوغسلافيا السابقة. التزامات كهذه لم تتبناها قوى
التحالف التي أسقطت النظام العراقي، فالعراق الذي أسقطت حكومته في خلال
أقل من ثلاثة أسابيع ما يزال بعيدا عن الاستقرار والأمن والديمقراطية
رغم مرور تسع سنوات على تغيير الحكم، ولا يعرف كم من السنين ستنقضي قبل
أن يستعيد العراق عافيته المفقودة، فالتوقعات المتشائمة ترى أنه لن
يعود دولة موحدة وديمقراطية أبدا. |