عند ساعات الفجر الاولى، امتطى العيد سحاب الفرح ليطرق ابواب الناس
معلنا عن وجوده بعد غياب سنة كاملة، ويرسم الضحكات الخجولة على شفاه
الاطفال وهم يرتدون احلى الملابس.
كان العيد رقيقا وشفافا لدرجة ان اجهزة السونار البشرية، رصدته وهو
مازال هلالا في بطن امه. خيل لي انه سرى في الاسلاك الكهربائية وايقظ
النائمين على سطوح المنازل في ايلول الذي خذله كرمه وعاداته في طرد شبح
الصيف عن العراقيين.
حاول ان يلطف الاجواء بجلسات السمر الطويلة عند السيطرات الامنية
ويشيع البهجة على الليل الذي هجر خفافيش الظلام، وهو يتقمص زي شرطي
مرور يومئ الى اسراب الفراشات في العبور نحو الصفة الثانية، حيث لانصب،
ولا اوجاع، ولا مفخخات تحصد زرع الله في الارض.
وتارة اخرى يمتطي الغبش الاول في اعلان بداية يوم جديد، يمسك
بعاطفته الابوية اذيال الهموم ليضعها في اقرب صندوق للتوفير. يدور على
المحلات والازقة بحثا عمن يقعد معه صفقة للصداقة وميثاقا للحب والامل،
ويترك للعيون التي غادتها البسمات في ان تحلم في غد جديد، ليكحلها ب (مرود)
جدتي ودرهمها الذي نام تحت وسادتي طوال الليل بانتظار صباح العيد. جاء
العيد حيث اختلطت الاحلام بالكوابيس، ليكون حدا فاصلا وحكما لاتتوقف
صفارته عن اصدار علامات الانذار بوجه من يحاول ان يسرق الصبح من عيون
اطفالي، ويهز براحتيه المهود كي تغفو الالعاب على(حس) تعويذة قديمة
حفظتها الامهات مثل اسمائهن (دلل لول..... دلل لول، عدوك عليل وساكن
الجول) ربما كان صديقي هذا قد اشتاق لنا رغم (مشاغله) العديدة، فقرر ان
يطرق الابواب بابا.. بابا، ليعطي عيدية من نوع خاص.
في البداية راودني شعور باني اصبحت طفلا مشاكسا يريد ان يجعل من
العيد له وحده فقط، قد تكون هذه انانية مشروعة مني، فمثلي لايريد ان
يشاركه في حب الاشياء العزيزة غيره.
العيد صديقي القديم، فهم هذا الشعور وحاول ملاطفتي ومد ذراعه لي،
كي انام غافيا على صدره. لازمني شعور الماضي وطعم الملابس الجيدة و(حنة)
العيد وهي تخضب الانامل و(المراجيح) و(دولاب الهوا). كنت انانيا في
تصرفي مع صديقي العيد الذي يملك اصدقاء غيري لايمكن ان نحصي عددهم،
ولكنه حفظ اسماءهم وعناوين منازلهم. لقد كان معي ودودا لدرجة الكرم،
وربما كان لايريد ان يكسر(خاطري) المسكين، ويعلن الرحيل باحثا عن صديق
جديد، لذا قرر اللعب معي كالاطفال، لعبة الاختباء، وكم كنت سعيدا باني
رجعت طفلا صغيرا ولو في تصرفي، وبعدما رحل ترك وراءه علامات الحسرة
والحنين، مع هذا وعدني بالعودة في العام القادم، حيث انه من اشد الناس
التزاما بالمواعيد، ولعل في عجلته هذه انه ترك خلفه زوجة واطفالا
يشتاقون اليه.
قرر الرحيل دونما يخبرني بمكانه ولا رقم هاتفه، ربما يكون من الذين
اعتادوا على مفاجئتي ويطرق باب داري دون استئذان. حاولت التمسك بلجام
حصانه الابيض وان يترجل، ولكن وقت الرحيل حان، ولابد منه، ومع الم
الفراق كنت سعيدا باني من القلائل الذين شاهدوا العيد واجروا معه حوارا
صحفيا عن جولاته واخباره ومتى يعود ؟ فقد كان لايتأخر في الرد على
اسئلتي مهما كانت سمجة.
اخيرا طلبت منه صورة تذكارية ازين بها غرفتي، لكنه اعتذر فهو لايحب
الشهرة، مع هذا قال لي: ضحكات الفجر لزقزقات العصافير في بلدك هي اجمل
من صورتي.
درهم جدتي
عندما كنا صغارا اخبرونا بان العيد يركب حمارا، يطوف الشوارع
والاحياء والمناطق، يلبس احلى الملابس الملونة ويوزع الابتسامات
والافراح على الناس، ان الذي يرتدي ملابس العيد قبل اوانها سوف (يزعل)
عليه العيد ولايسلم عليه لذا كنا نضع ملابسنا تحت وسائد النوم كي
نلبسها مع اول اطلالة له وكانت غايتنا هي ساحات الالعاب حيث الاراجيح
و(دولاب الهوا) ورقص الجوبي وهوسات الافراح حيث الضحكات لاتفارق
الشفاه، طبعا هذه العادات والطقوس مازال بعضها قائما حتى اليوم وخصوصا
في المناطق الشعبية وتكون مصحوبة بشيء جميل تطير له الافئدة وتهواه
عقول الصغار والكبار الا وهو العيدية ذات الوقع الكبير في النفوس مهما
كانت قيمتها المادية فهي ذات دلالة وتعبير عن الفرح والسعادة داخل نفس
تتشوق في انتظار هذا اليوم السعيد.
ولعل درهم جدتي الذي كنت احصل عليه عند اول يوم العيد يعادل ملايين
الدنانير والدولارات، فعندما يلاعب راحة يدي اطير به فرحا، وكنت من
النوع الاقتصادي الذي يقسم الاشياء حسب حاجاتها المادية ولعل درهم جدتي
له حصة من هذا التقسيم الذي لايعني البخل ولكنه التدبير والحرص حتى في
اوج الفرح وبعد هذه السنوات الطويلة التي ذهب معها درهم جدتي واصبح
مجرد ذكرى عالقة في اذهاني.
جاءت الملايين والمليارات ولكن بدون عيديات التي انقطعت منذ سنين
ويبدو انها ستصبح من الماضي القريب مثل درهم جدتي رحمها الله. |