شبكة النبأ: على الرغم من إعلان
الثوار عن سيطرتهم على السلطة في ليبيا، إلا ان الحقيقة المكلفة تشير
الى ان فاتورة الثورة لم تسدد بشكل كامل حتى الان، على الرغم من الثمن
الباهظ الذي دفعه الليبيون في سبيل نيل الحرية.
فما خلفه القتال الذي دار بين طرفي النزاع من بنى تحتية مدمرة
واقتصاد منهار، الى جانب فراغ سياسي خطير، كل ذلك سيكون ليس من السهل
تجاوزه على افضل ما يرام، فبحسب المراقبين ان تداعيات ذلك ان سارت
الأمور بتفاؤل الى الأحسن، سوف تكون آثاره ملموسة على مدى السنوات
العشر القادمة.
فيما يرجح بعض من هم اكثر تشاؤما الى ظهور صومال جديد في شمال
افريقيا، وبروز جماعات مسلحة يصعب على أي سلطة السيطرة عليها في القريب
العاجل، خصوصا التنظيمات التي تتبنى فكر القاعدة، والتي لمح الى وجودها
العديد من المراقبين مؤخرا.
لن تكون عراقاً آخر
حيث يقول المحلل في صحيفة "ذي غارديان" البريطانية بريان ويتاكر في
مقال نشرته الصحيفة انه لا ريب في ان سقوط القذافي سيكشف عن تنافسات
بين الفصائل المختلفة، الا ان من غير المحتمل ان تؤول ليبيا الى ما آل
اليه العراق، ناهيك عن افغانستان. وهنا نص المقال: "يوم الجمعة الفائت
شرحت كاثلين ماكفارلاند، وهي محللة امنية في شبكة "فوكس نيوز"، موجهة
كلامها الى الرئيس الاميركي باراك اوباما، "الهفوات" التي ارتكبتها
اميركا في ما يتعلق بليبيا.
فقد كتبت تقول ان "ليبيا وسوريا مثالان رئيسيان للاسباب التي تبين
ان من المهم ان تختار معاركك، وان تتأكد بعدئذ من انك ستفوز فيما
اخترته. غير ان الرئيس اوباما اختار المعركة الخطأ بالتوجه نحو حرب ضد
ليبيا، ولم يحقق النجاح حتى الان".
ولكن بعد ثلاثة ايام (على كلامها) يكاد نظام القذافي ان يكون في حكم
المنتهي ويبدو ان اوباما قد اختار فعلاً المعركة الصحيحة. لكن المحك
الحقيقي يظل ابعد في طريق المستقبل. وبعد مرور عام على هذا اليوم، هل
سيحظى الليبيون بحكومة افضل كثيرا من تلك التي ارهبتهم لـ 42 عاما
تقريبا؟ هل سيكون بامكانهم الاعراب عن وجهات نظرهم بحرية والاندماج في
الحياة السياسية للبلاد من دون خوف من العواقب؟
الاشهر القليلة المقبلة لن تكون سهلة، اذ لن يتصور ذلك الا مخبول،
كما ان من غير المحتمل ان تتحقق اشد التوقعات سوءاً. ولا يتوقع ان
تتحول ليبيا الى عراق آخر، ولا الى افغانستان اخرى.
تكمن اولى البشائر المشجعة في المجلس الوطني الانتقالي، وهو ائتلاف
متعدد تسببت الضرورة في قيامه وبدأ في اصدار نداءات صائبة. اذ ان
دستوره الموقت الذي نشر الاسبوع الفائت يقر بالحاجة الى الاخذ والعطاء.
فقد اعترف بحقوق الاقلية البربرية، وفي وقت وافق فيه على دور الشريعة
الاسلامية، فانه وضع ايضا حدودا لها.
وفي ما يتعلق بالعقاب والثواب، توحي المؤشرات الاولية بان المجلس
ينوي ان يلتزم بالانظمة. واشارت الانباء الى ان سيف الاسلام، وهو اكثر
ابناء القذافي بروزا، اعتقل عليه حيا حتى يمكن مثوله امام القضاء.
وتعاني ليبيا من خطوط الصدع الاجتماعي، مثلها في ذلك مثل العراق (والعديد
من الدول العربية في ما يتعلق بهذا الامر). فالتنافس القبلي والاثني
والديني الذي أخفاه نظام القذافي عن العيون، سيخرج الان الى العلن.
والسماح له بذلك هو الطريقة الوحيدة للتعامل معه على المدى البعيد، وان
امكن تحولها بسهولة على المدى القصير الى عقبة في طريق المسيرة
الديمقراطية.
وعلى الجانب الايجابي، فان الكثير من الليبيين يصرون على ان
الاختلافات الاجتماعية لا تقارب في تجذرها ما يعاني منه العراق (وسندرك
قبل ان يمضي وقت طويل ما اذا كانوا مصيبين)، وان كان ما هو اكثر اهمية
انهم في ليبيا أبعد ما يكون عن ان يصبحوا ساحة قتال بالوكالة لخدمة دول
اجنبية.
وليس هناك من الاسباب ما يدفع الى الاعتقاد ان ليبيا ستتحول الى
دولة منهارة. وكانت تصنف خلال حكم القذافي بانها الدولة الـ 111 على
جدول الدول المنهارة الـ 171 - أقرب ما تكون الى فنلندا والنرويج (وهما
اقل الدول فشلا) منها الى الصومال او افغانستان.
وعلى الرغم من التصرفات الشاذة لزعيمها، ورغم الفساد وشرطة الامن،
فان ليبيا القذافي كانت تملك معظم الاجهزة الحكومية التي تقوم في دول "عادية".
وما تدعو اليه الحاجة هو التمعن في دروس العراق وعدم تفكيكها بجرة قلم،
ومن ثم البدء من الصفر من جديد، وانما السيطرة عليها واجراء الاصلاح
حيثما يكون ضروريا.
ولليبيا ميزتان على تونس ومصر اللتين سبقتاها في الثورة، ما يمكن أن
يثبت أهميته في مسارها الفوري اللاحق.
الأولى هي ان لها وسادة اقتصادية مهمة وواردات كبيرة من النفط (70
مليار دولار)، وعددا صغيرا من السكان (ستة ملايين ونصف مليون). وعلى
العكس من تونس ومصر فإن إمكاناتها السياحية- شواطئها المتوسطية
ومواقعها التاريخية الخلابة- لم تستغل بشكل فعلي، ولذلك هناك مجال لنمو
سهل ومريح، خصوصا إذا بدأ الليبيون في العودة باعداد كبيرة.
والمقارنة مذهلة في هذا المجال مع تونس ومصر. فكلاهما ذات موارد
مالية محدودة، وبالتالي لا تستطيع اي منهما التغلب جديا على الصعوبات
الاقتصادية التي كانت من العوامل الرئيسة للإطاحة برئيسيهما.
أما الميزة الثانية لليبيا كما كتب توم غارا في مدونة على "فايننشيال
تايمز"، فهي هزيمة كتائب القذافي.
وكتب في مدونته: "الدعم الذي قدمته الغارات الجوية لحلف ناتو تعني
أن البنية المادية للنظام، بدءا بمكاتبه الاستخباراتية ومقراته الأمنية
وصولا للمعدات العسكرية، تم تحطيمها إلى حد الانهيار. وستكون ليبيا
الدولة الوحيدة في العالم العربي التي تبدأ فيها حركة معارضة يوما
جديدا بنظام بائد، تم تحطيمه من ناحية بنيته المادية".
أما ما يعنيه ذلك بالضبط فما يزال غير واضح، ولكن علينا فقط أن ننظر
إلى تونس ومصر لإدراك أهميته المحتملة. ففي مصر حيث تولى المجلس
العسكري الأعلى والجيش مقاليد السلطة بعد سقوط مبارك، وإلى حد ما في
تونس ايضا، اثبتت استمرارية الأجهزة الأمنية، التي لم تتم إعادة بنائها،
أنها عائق أمام التغيير السياسي.
والفارق في ليبيا هو ان تدمير جيش القذافي يفتح المجال على الأقل
للسياسيين، وليس الجيش، في الحصول على اليد العليا.
وفي هذه اللحظة، بالطبع، ليس هناك الكثير الذي يمكن لنا التاكد منه.
لكن لنأمل في الأفضل، ونتوقف عن توقع الأسوأ، ونستعد لشيء هو بين
الاحتمالين.
الحل النهائي لا يزال بعيد المنال
فيما نشرت صحيفة "لوس انجيليس تايمز" مقالا للصحافي ماكس بوت مقالا
تحدث فيه عن سقوط حكم معمر القذافي الذي سيطر لفترة طويلة على الحياة
في ليبيا، قائلا ان سقوطه سيخلف وراءه وضعا امنيا زئبقيا، وانه لا بد
للامم المتحدة ولحلف شمال الاطلسي (ناتو) من ارسال معونات اقتصادية وفي
اكثر الاحتمالات ان يوفد قوات حفظ سلام الى ليبيا.
وكتب بوت: "من المحتمل ان يكون حكم معمر القذافي الذي امتد لـ42
عاما قد انتهى او قارب على الانتهاء، الا ان من الصعب القول ان مشاكل
ليبيا قد انتهت. حتى وفق افضل الاحوال، فان ليبيا ستواجه صعوبة في
الانتقال الى اي شيء قريب من الحكم الديمقراطي. اذ ان القذافي ظل
مسيطرا على الحياة الليبية بحكمه الفردي، المرتكز على "كتابه الاخضر"
الغريب، لدرجة انه لم تبق اي من المؤسسات المستقلة القليلة ان وجدت.
وهناك اجيال كاملة لا تعرف شيئا عن طغيانه.
لقد تحولت ليبيا الى اشلاء بسبب الحرب الاهلية التي امتدت لستة اشهر
وادت الى مقتل عشرات الالاف، ومع ان العدد الصحيح غير معروف وربما لن
يعرف، الا ان التقديرات افادت في نيسان (ابريل) ان عدد القتلى تراوح بن
10 الاف و 30 الفا. ولكن لا ريب في ان الرقم اليوم يتجاوز ذلك، وبالقدر
ذاته فان عدد الجرحى او المشوهين غير معروف ايضا. وفوق ذلك فان ما يقدر
بمليون ليبي غادروا البلاد كلاجئين، اضافة الى 240 الفا هُجروا داخل
البلاد من مساكنهم.
ومن الامثلة على نوع المشاكل التي ستواجهها دولة ما بعد القذافي،
مدى صعوبة ايجاد حل للخلاف على الممتلكات بين اللاجئين العائدين واولئك
الذين احتلوا بيوتهم بعد مغادرتهم.
وتتضاعف مشاكل ليبيا بعد تلك النقطة. فهذه الحرب الاهلية دمرت
الصناعات الرئيسية للبلاد: وهي انتاج النفط. ويقدر الخبراء ان ليبيا لن
تتمكن من انتاج 500 الف برميل في اليوم الا بعد مرور شهرين، وأنها لن
تنتج الـ1.8 مليون برميل في اليوم حسب معدل انتاج العام 2010 قبل مرور
ثلاث سنوات على الاقل. وحسب سعر اليوم (وهو 108 دولارات لبرميل النفط
الخام) فان ذلك يمثل عوائد مجموعها 118 مليار دولار ستخسرها ليبيا على
مدى السنوات الثلاث المقبلة.
ومن المؤكد ان مهمة انعاش الاقتصاد المنهار في ليبيا ستيكون اكثر
صعوبة في حالة الامن الزئبقية. فحتى بعد بدء انهيار دفاعات القذافي
ودخول الثوار الى طرابلس، ترددت انباء عن استمرار القتال وعن النظام
الذي لا يزول بسهولة. وكما هو الحال في العراق، فان بعضا منهم قد يفكر
في القيام بتمرد.
ثم ان هناك امكان نشوب قتال بين عناصر ثائرة اتحدت بدرجة اقل من
كراهيتها للقذافي. ثم ان الجنرال عبد الفتاح يونس، احد كبار قادة
الثوار العسكريين قتل بايدي بعض رفاقه. وسيحاول المجلس الوطني
الانتقالي جاهدا التغطية على هذه العداوة المستعرة على ضوء خبرته
الضئيلة في الحكم وعدم توفر الولاء والتدريب وقوات الامن المجهزة
للقيام بدور القيادة.
ولقد كان القذافي قويا بما فيه الكفاية لمنع قيام قتال مباشر بين
الـ140 قبيلة ليبية. اما وقد ولت دولته البوليسية، فان من الممكن ان
تدخل القبائل في قتال ضد بعضها البعض من اجل الحصول على الريع المادي
وبسط النفوذ، وقد يتحالف البعض مع الاسلاميين المتطرفين الذين يمثلون
جزءا من ائتلاف الثوار.
معركة طرابلس
الى ذلك لن تُحسم المعركة العسكرية في ليبيا طالما ظلت سرت وسبها
والعقيلة تحت سيطرة كتائب القذافي، بالإضافة لبقاء مصير معمر القذافي
نفسه غامضاً، على رغم سيطرة الثوار على مُجمع باب العزيزية. لكن الوضع
على الجبهة السياسية ليس أقل غموضاً، إذ أن صراعاً كان صامتاً بدأ يطفو
على السطح بين الثوار والمجلس الإنتقالي، وقد يطغى على المشهد الليبي
في الأيام المقبلة.
قبل نجاح خطة "فجر عروس البحر"، التي أتاحت لقوات الثوار الدخول إلى
العاصمة الليبية طرابلس، ظهرت خلافات بين الرأس السياسية للإنتفاضة (المجلس
الوطني الإنتقالي) وجسمها العسكري. وكشف مشهد السيطرة على وسط طرابلس
غياب السياسيين الذين كانوا في بنغازي أو تونس أو الدوحة يُعلقون على
ما يجرى، أو يُعطون التوجيهات، فيما كان الثوار لا يُعيرون اهتماماً
لأقوالهم وتعليماتهم.
الأكيد أن معركة استكمال السيطرة على طرابلس ستُوسع الشرخ بين
الجانبين على نحو قد يُذكر بالصراع الذي اندلع بين الحكومة الجزائرية
الموقتة (في الخارج) وقيادة أركان جيش التحرير الوطني الجزائري، بزعامة
هواري بومدين، أو ما كان يُسمى بـ"جيش الحدود"، لدى الدخول إلى العاصمة
الجزائر صيف 1962.
وبدا من تعاطي الثوار الليبيين مع المجلس الإنتقالي في موضوع اعتقال
محمد النجل الأكبر لمعمر القذافي (قبل فراره من قبضتهم) تباعد في الرؤى
بين رئيس المجلس مصطفى عبد الجليل المقيم في بنغازي ورئيس المجلس
العسكري في طرابلس عبد الحكيم بلحاج. وكان لافتاً أن عبد الجليل توعد
الثوار بالعقاب في حال حصول أية تجاوزات ووصف بعضهم بـ"المتطرفين
الإسلاميين" ما أثار استغراباً لدى المراقبين لأن عبد الجليل نفسه كان
يُصنف من ضمن "الإخوانيين" بين أعضاء المجلس الإنتقالي.
وأبدى أحد المعارضين البارزين للقذافي في تصريح لـ خشيته من نكء
جروح قديمة، بإعتبار أن عبد الجليل وقع أيام توليه وزارة العدل في
حكومة القذافي، على قرار بإعدام عبد الحكيم بلحاج، الذي كان ينتمي إلى
"الجماعة الليبية المقاتلة" المُرتبطة بتنظيم "القاعدة". وفي الوقت
الذي كان فيه عبد الجليل بعيدا عن طرابلس كان نائبه عبد الحفيظ غوقة في
الدوحة مُجتمعا مع بعض أعضاء في المكتب التنفيذي للمجلس، بينما كان
يُفترض أن يكون في العاصمة طرابلس بوصفه القيادة السياسية للثوار. وهنا
يُطرح السؤال: لمن يستمع الثوار، وما هي المرجعية التي تٌوجههم؟ وفي
هذا السياق لاحظت شخصية ليبية رفضت الإفصاح عن هويتها لـ أن المعركة
العسكرية انطلقت بسرعة لافتة في أعقاب اغتيال القائد العام السابق
لقوات الثوار اللواء عبد الفتاح يونس، فهل يُؤكد هذا أن يونس كان
يُعرقل تقدم الثوار، خصوصا في معارك البريقة التي استنزفت قواهم؟ لا
أحد يملك اليوم الجواب على مثل هذه الأسئلة المُحيرة.
يُذكر أن أعضاء المكتب التنفيذي (حكومة المهجر) المؤلف من ثلاثة عشر
عضوا، هم فقط المعروفون، فيما ظلت أسماء الأعضاء الآخرين (وعددهم سبعة
وعشرين عضوا) طي الكتمان رغم تحرير طرابلس تقريباً. ويُرجح أن غالبيتهم
من المنتمين إلى التيارات الإسلامية (الجماعة الإسلامية، الإخوان
المسلمون، الجماعة الليبية المُقاتلة...). كما أن ثوار مدينة مصراتة،
ثالث المدن الليبية، يرفضون الإعتراف بالمجلس الإنتقالي. ومن الطبيعي
أن لهذا التباعد بين الجانبين تداعياته العسكرية والسياسية، فمعركة
طرابلس لم تُحسم، وتشير مصادر الثوار إلى أنهم لم يسيطروا سوى على خمسة
وتسعين في المئة من المدينة. والأهم أن النسبة المتبقية تشمل حي بوسليم
والعجيلات ومركز صلاح الدين الأمني والمستشفى العسكري وبعض الفنادق
التي يتحصن فيها رموز من نظام القذافي. وهنا يُطرح سؤال محوري: كيف
سيتعامل الثوار مع العقيد القذافي وأبنائه وأركان نظامه إذا ما ثبت
أنهم ما زالوا في ليبيا؟ وكيف ستتم السيطرة على المناطق التي ما زالت
موالية لهم، وبخاصة مدينة سرت الإستراتيجية وواحة سبها عاصمة الجنوب.
ومع إقبال كتائب جديدة من الثوار تباعاً على العاصمة سيطغى على
التطورات في الساعات والأيام المقبلة الحسم العسكري في طرابلس والمواقع
الأخرى التي ما زالت تسيطر عليها كتائب القذافي. كما لا يمكن معرفة
موقف الثوار بعد تحرير طرابلس من أعضاء المجلس الذين كانوا يعملون مع
النظام قبل 17 شباط (فبراير)، وكذلك من المنشقين الذين غادروا الحكم في
الأسابيع الأخيرة، أمثال رئيس المخابرات السابق موسى كوسا ورئيس
الوزراء السابق شكري غانم ووزير الأمن العام السابق نصر مبروك عبد الله
ووزير النفط المستقيل أخيرا عمران بوكراع وحتى عبد السلام جلود (رئيس
الوزراء بين 1972 و1977)، الذي كان على خلاف مع القذافي.
أما على الصعيد السياسي فلا يُعرف مصير خريطة الطريق التي وضعها
المجلس الإنتقالي لمرحلة ما بعد القذافي، والتي أعلن عنها في 17 الجاري
باسم "البيان الدستوري"، والرامية لتسليم المقاليد في أجل أقصاه سنة
واحدة لهيئة منتخبة بعد وضع دستور للبلد. وكرر البيان المؤلف من 37
بنداً المبادئ العامة لخريطة الطريق التي اعتمدها المجلس الإنتقالي في
آذار (مارس) الماضي وعرضت تفاصيلها في حينه.
تبقى التداعيات الإنسانية والأمنية لمعركة طرابلس، فبالإضافة
للتهديدات بالسرقة والنهب التي تُخيم على أبراج ذات العماد حيث مقرات
الشركات النفطية ومكاتب المجموعات العالمية، ومجمع زرقاء اليمامة
التجاري وبعض الفنادق، هناك مخاطر نبهت لها المنظمة الدولية للهجرة
التي ستقوم بعملية اجلاء لآلاف الأجانب المحاصرين في العاصمة الليبية،
بحسب ما ذكرت صحيفة "الصباح الأسبوعي" التونسية. وشرعت المنظمة في
البحث عن كيفية ترحيل آلاف المصريين والاجانب المحاصرين. ويرجح أن يتم
هذا عن طريق البحر، وبالتالي قد تعرف بعض الموانئ التونسية على غرار
الميناء التجاري في جرجيس وصول آلاف اللاجئين في الايام القريبة
المقبلة. واستقبلت المعابر الحدودية التونسية منذ اندلاع الصراع في
ليبيا نحو تسع مئة ألف من اللاجئين الليبيين والمهاجرين الاسيويين
والافارقة. وقال شهود عيان للصحيفة ان الجيش التونسي قام بتعزيزات
عسكرية خلال الايام الأخيرة وكثف من عمليات المراقبة والدوريات "حتى لا
يعمد أحد إلى تجاوز الحدود التونسية خلسة".
في ضوء تفاعلات معركة تحرير طرابلس، يتساءل الجميع: هل سيتم
الإحتفال رسمياً بتحرير العاصمة مع عيد الفطر، مثلما توقع السفير
الليبي في باريس منصور سيف النصر، أم أن هذه المعركة الفاصلة ستكون
طويلة ومُضنية ومُكلفة؟
صفوف متراصة من الجثث
من جهتها نشرت صحيفة "ذي انديبندنت" البريطانية تقريراً لمراسليها
كيم سنغوبتا وبورتيا ووكر يقولان فيه ان مدنيين كانوا بين القتلى في
العاصمة الليبية. وتحدثا ايضا عن قتلى في جثثهم ملقاة في الشوارع لا
تغطيهم الا أقمشة رثة. وفيما يأتي نص التقرير:
"كانت الجثث مغطاة جزئيا باقمشة رثة وتنتشر على الارضية الكونكريتية
الملطخة بالدماء. اما وجوههم فكان بعض منها يتسم بالصفاء اما الباقي
فكان متجمدا والافواه مفتوحة تعكس مشاعر الرعب التي سيطرت عليهم في
اللحظات الاخيرة. وفي صفوف الواحد بعد الاخر تجثم التكلفة البشرية وراء
معركة طرابلس.
مرت عبر مشرحة مستشفى "شير الزاوية" حوالي 170 جثة – الكثير منها من
المدنيين وقد ظهرت اثار الاصابة بالشظايا بعد ان وجدوا انفسهم محصورين
بين منطقتي اطلاق النار، فيما تواصل قوات النظام وقوات الثوار قتالها
المستميت للسيطرة على المدينة. كما ظهر ان هناك اخرين من بينهم قتلوا
رميا بالرصاص الذي اخترق رؤوسهم، بينما ظهرت آثار قيود على المعصمين.
وقد نقلت الجثث حتى باب المشرحة في شاحنات وسيارات وبعدد قليل من
سيارات الاسعاف العاملة. وكان لا بد من ارتداء الكمامات الطبية
المزدوجة لمشاهدة الجثث، اذ كانت سبع منها في غرفة واحدة و 32 في اخرى
واخذت تتحلل بسبب الحرارة. وهذا ما كان على العائلات المكلومة ان تفعله،
وبعضها كان يشهق بالبكاء وهو يغادر المكان، وقد امسك بعضهم بعضا لتعزية
انفسهم.
جاء حسان العقب ليأخذ جثمان قريبه محمد الذي قتل بعد ان القت قوات
النظام القبض عليه قرب باب العزيزية، القلعة التي كان معمر القذافي
يحتمي فيها. وكان الطالب البالغ من العمر 29 عاما بين ثمانية اخرن عثر
عليهم في البدروم السفلي لمبنى قوات الامن، وقد اطلق الرصاص عليهم
جميعا.
كان العقب (50 عاماً) قد بدأ رحلته من مصراتة بحثا عن اقاربه في
طرابلس. وكان يرافقه في السيارة محمد وابناه معز ومهاب. وقال: "اوقفوا
سيارتنا ووجهوا بنادقهم نحو مهاب ومحمد واخرجوهما من السيارة. حاولت ان
اوقفهم لكنهم دفعوني الى الخلف وهددوني بالقتل. وشدني معز الى الخلف
خشية ان يطلقوا علي النار. وكان علي ان ابتعد وان احاول جلب من يعينني
وان اترك الولدين هناك. لقد تملكني خوف شديد عليهما".
تعرض الشابان للضرب وقيل لهما انهما سيقتلان بسبب ما وقع في باب
العزيزية. الا ان مهاب تمكن من الفرار خلال الليل واتصل بوالده ليبلغه
بما يجري هناك. اما جثة محمد فقد عثر عليها بعد ان تخلت قوات القذافي
عن المبنى.
وقال العجب: "اظن انني في حلم الان. ولا بد ان افيق منه. هؤلاء
الرجال ميالون الى القتل. لقد جعلونا نعمل سنة بعد اخرى مقبل دريهمات،
وبعد ذلك يقتلوننا كما لو كنا أرانب، او كلاباً. لقد عشنا على هذا
المنوال لـ42 عاما. كنا نظن ان كل شيء سينتهي الان، لكن القتل مستمر،
وكل هذه الارواح ...". وهنا بدأ صوت العقب يتهدج واخذ في البكاء. وابرز
عادل محمد صورة لوالدته بهية الصوفي، وهي سيدة تبلغ من العمر 62 عاما،
اطلق قناص النار عليها وقتلها عندما ذهبت الى الشرفة في بيت العائلة
لتطلب من ابنها (13) ان يدخل المنزل على عجل بسبب بدء المعركة.
قال عادل محمد، وهو باحث في مجال الالكترونيات، انها "كانت قلقة على
خالد مع انتشار القتال بشكل واسع. لا نعرف ما الذي جعلهم يطلقون النار
عليها، اذ لم تكن الا سيدة طاعنة في السن. اشعر بحزن شديد لمقتل
والدتي. ولكن هل كنت اتمنى لو لم تقم الثورة؟ لا. لقد فكرت في هذا
الامر، اذ اننا تحملنا المعاناة من اجل حرية بلادنا وحتى لا يضطر
ابناؤنا، على الاقل، الى عيش هذه التجربة".
اما صومة أم رشيد فكانت تنتقل من جناح الى اخر في المستشفى، وتستند
الى الحائط بين لحظة واخرى لتسترد انفاسها. كانت تريد ان تعرف ما حدث
لابنها قيس (26 عاماً). قالت: "زرت المستشفى المركزي وانا الان هنا
احاول البحث عنه. ادعو الله في كل لحظة ان يكونوا قد نقلوه الى هذا
المستشفى. لا اريد ان اذهب الى مكان وجود القتلى، لا اريد ان اذهب
وأجده هناك".
اما عبد الرزاق رمضان، المسؤول عن المشرحة، فقد مضى على عمله في
المستشفى 25 عاما. وقال: "منذ بداية الثورة، بدأنا تسلم جثث القتلى وقد
اصيبوا بجروح بالغة. في الشهر الماضي كان هناك حوالي 55 منهم، والان
هناك حوالي 170 جثة في هذا المستشفى وحده احضرت خلال الايام القليلة
الفائتة. ويأتي الينا اباء وامهات كل يوم، على أمل ان يعثروا على
ابنائهم. انه شيء محزن حقا".
هز عمر عبد لله عاشور، طبيب التخدير الذي امضى في عمله بالمستشفى
عشر سنوات، رأسه وقال: "الامر المحزن هو انه في الظروف العادية كان
يمكننا ان ننقذ حياة بعض هؤلاء الناس. فالبعض جاءوا وقد اصيبوا بجروح
بالغة في الرأس والصدر ومن المحتمل الا يستطيعوا البقاء على قيد
الحياة. اما الاخرون فكان من الممكن ان يظلوا احياءً. انه وضع يثير
مشاعر الاسى لدينا".
كانت علامات الارهاق واضحة على وجه الدكتور عاشور، اذ انه كان لا
ينام الا ثلاث ساعات خلال الليل. وقال: "ذهبت الى منزلي لكي أنام نوما
عميقا، لكن الرصاص ما لبث ان اطلق على منزلنا. اخذت عائلتي للاقامة مع
اقارب وعدت الى هنا. ماذا كان بوسعي ان افعل اكثر من ذلك؟ لا ادري الى
متى سيستمر هذا الوضع. لقد سئمنا من هذا العنف، فنحن كآدميين متعبون". |