ثورات جديدة تهز خشبة المسرح العربي

 

شبكة النبأ: يمتاز المسرح العربي الهادف بمواصفات قد تؤهله للصعود نحو العالمية من خلال النخب المبدعة، والتي أخذت على عاتقها نشر الثقافة العربية ومحاكاة الواقع العربي وما تعانيه الشعوب العربية من واقع مرير وصراعات داخلية وخارجية بعد أن نجح الكثير منهم من الهروب من مقص الرقابة الحكومية والذي حول خشبة المسرح إلى خشبة رقص ومجون، وقدسية الكلمة إلى بوق للدعاية والتشهير بالآخرين، إلا إن ربيع الثورة العربية بكل ما تحمله الكلمة من معنى في نفوس الأحرار والمتطلعين نحو التغير والخلاص من عهود التخلف السلطوي، قد حمل معه الخبر السار في أن المسرح العربي لم يمت وان هناك الكثير ليقدمه إلى المتعطشين للحرية والتغير.

ثورة مسرحية

فقبل اندلاع الاحتجاجات المصرية الحاشدة كانت ثورة مسرحية في كواليس مسرح (ميامي) بالقاهرة، والى ميدان التحرير على خشبة المسرح حضر ثوار برداء فني ليطالبوا باسقاط الظلم والقهر وتحدوا السلطة وهم ينشدون النصر على استبداده، لم تكن ثورة بلقيس ملكة سبأ والضاربة عميقا في التاريخ ما قبل الميلادي مجرد رواية ذكرتها الكتب السماوية لتستعاد وتكتسب ملامح جديدة بعد ألوف السنين لتلون "ثورة 25 يناير" كانون الثاني حيث اندلعت الاحتجاجات الغاضبة المطالبة باسقاط نظام مبارك، وليس هناك من روابط مصطنعة أو أحداث مركبة على قياس التغيير في مصر لكن فريق عمل مسرحية (بلقيس) وجدوا إسقاطا وقع بين الحالتين وفي ثورثين متباعدتين في التاريخ وان اقتربتا قليلا في الجغرافي، فبلقيس تلك الملكة المتمردة الوارثة تاج والدها كانت سيدة أرض اليمن البلد الواقع اليوم على خط زلزال الثورات العربية، وبلقيس هي الحاضرة اليوم في المجتمع المصري من خلال عرض مسرحي يستعير من التاريخ حكاية تتوافق وروح الثورة ولها أن تنسحب أيضا على الصراع مع اسرائيل من خلال فكرة المقاومة الحاضرة في النص عبر مقاومة بلقيس أسياد السلطة، وتستند المسرحية الى السرد التاريخي فتحكي قصة امرأة فرض عليها أن تؤخذ عروسا لملك لم يسبق أن رآه، لا مجال لرفض العريس لان الثمن سيكون دمار مملكة أبيها وعندما أدركت أن الدمار والظلم والشرذمة ستحل بشعبها قالت "نموت ولا نقبل ما يفرضونه علينا" بعد أن رأت الذل كامنا في النفوس والملك الغريب سيحتل ويرث ويقرر، وقبل أن يرسم لها زوجها المفترض نهاية لا تليق بسبأ قالت بلقيس كلمتها وذهبت الى قدر التحدي قاصدة الملك طالب الود وبدهاء المرأة تمكنت منه ورسمت بيدها نهاية له، قتلته لتحيا سبأ وتشهد أكبر مرحلة من الازدهار وهي بتلك الخطوة غامرت بحياتها واستبقت قدرها لتغير في مجرياته. بحسب رويترز.

ويقول مؤلف المسرحية محفوظ عبد الرحمن "أظن أن بلقيس تضحي بحياتها ولا تفرط بذرة من كرامتها فالكبرياء وسام نضعه على صدورنا بأنفسنا ولا يستطيع أحد انتزاعه لانه ملك لنا وحدن، بلقيس هذه لم تكن موجودة في التاريخ لو أنها لم تقاتل القهر والاستبداد وأنا أعرف ملايين الناس ممن يتعرضون لمواقف مشابهه"، ويضيف "بلقيس هي واحدة من أعظم ملكات التاريخ مثل كليوباترا وسميراميس وشجرة الدر وكاترين وفيكتوري، كانت وستظل إلهاما للكُتاب في كل زمن"، وعبد الرحمن المؤمن بفكرة المقاومة باحث وكاتب قدم أعمالا متنوعة للمسرح والاذاعة ومن أبرز أعماله التلفزيونية مسلسلا (بوابة الحلوني) و(أم كلثوم) وللسينما كتب سيناريو أفلام منها (ناصر 56) و(حليم)، ويقول عبد الرحمن ان العرض كتب قبل سبع سنوات وانه لم يغير فيه حرفا لكن الممثل عهدي صادق الذي قام بدور المسرور أضاف لهجة الزعيم الليبي معمر القذافي في خطابه الشهير "زنجة زنجة، دار دار، ومن أنتم؟"، ويضيف "اخترت بلقيس لانها اسم رنان وهي من الشخصيات الضخمة والمهولة خصوصا عندما يمارس عليها القهر والاستبداد من هذا العدو القاهر والقاسي"، وبدأ العرض بالوقوف دقيقة صمت حدادا على "شهداء 25 يناير" على خلفية النشيد الوطني المصري، وتعتبر مها جاد الحق الاستاذة في جامعة القاهرة أن بلقيس هي مصر "هي فكرة عدم الرضوخ للظلم والاستسلام والايمان بكل قدراتنا وهذا ما حصل معنا فعلا في ثورة 25 يناير"، بلقيس من انتاج المسرح القومي واخراج أحمد عبد الحليم وبطولة الممثلة السورية رغدة والممثلين المصريين أحمد سلامة ومفيد عاشور وأحمد عبد الوارث وشادي سرور وصبري عبد المنعم وزينب وهبي، وكتب رياض الخولي الرئيس السابق للبيت الفني للمسرح منتج العرض "نأمل أن تكون (المسرحية) معاهدة منا لثورة 25 يناير بألا نستبدل شيئا بالعدل وأن نفتدي وطننا بأنفسنا".

قضية بهاء موسى

الى ذلك انتهى المخرج المسرحي البريطاني نيكولاس كنت من إعداد مسرحية لم يكتب فيها كلمة واحدة ، وهي عن التحقيق في قضية المواطن العراقي بهاء موسى، الذي لقي مصرعه وهو محتجز لدى القوات البريطانية في البصرة، فكيف فعل ذلك، وماهي الأسس التي يقوم عليها هذا الشكل المسرحي المعروف باسم مسرح المحاكاة، القليلون من الكتاب المسرحيين والمخرجين يمكنهم الإدعاء بأنهم توصلوا إلى استحداث شكل مسرحي جديد، ولكن الفضل يعزى إلى نيكولاس كنت في تعريف جمهور المسرح بدراما المحاكاة في الشكل الذي يكاد يكون حكرا عليه، ومنذ عام 1984 عكف كنت على تحويل مسرح ترايسيكل في ضاحية كيلبورن في لندن إلى معقل لهذا النوع من الدراما، مع التركيز على الكتابة السياسية، ونجح إلى الحد الذي جعله منافسا يعتد به للمسارح العملاقة مثل المسرح القومي ومسرح رويال كورت، وفي عام 1994 قدم نيكولاس كنت مسرحة نصف الصورة وتناول فيها التحقيق في قضية صادرات الأسلحة البريطانية لصدام، وذلك بأسلوب محاكاة لجنة التحقيق وما استمعت إليه كلمة بكلمة، ودراما المحاكاة هي شكل مسرحي يتسم بالبساطة الشديدة، إذ يقف الممثلون على المسرح وهم يعيدون تجسيد اللحظات الفاصلة في تحقيقات في قضايا كبيرة، مع الاستعانة بنفس النصوص والوثائق المتعلقة بالتحقيق الأصلي وبنفس أقوال الشهود، بحيث يمكن القول إن المسرحية تتحول إلى مايشبه لجنة تحقيق فعلية.

وتعددت المسرحيات التي قدمها نيكولاس كنت في هذا الإطار المسرحي، وكان من أبرزها محاكمات نورمبرج لمجرمي الحرب العالمية الثانية وجلسات الإستماع التي عقدتها لجنة الامم المتحدة لتقصي الحقائق بشأن مذابح سربرنيتشا أثناء حرب البوسنة عام 1999، وحتى الجرائم المحلية التي يكون لها تأثير على الرأي العام داخل بريطانيا ، مثل مسرحية لون العدالة، وهي عن التحقيقات التي أجريت في مقتل الصبي الأسود ستيفن لورانس في لندن، وكانت القيمة الحقيقة وراء الإنتاج الفني لمسرح ترايسيكل ومديره نيكولاس كنت هي أنه أثبت أن الكلام العادي، غير المكتوب للمسرح والذي لاينطوي على أي حبكة مسرحية، يمكن في حد ذاته أن ينطوي على دراما قوية وخاصة الدراما السياسية، المسرحية الأخيرة عن قضية بهاء موسى تحمل عنوان الاستجواب التكتيكي، وعمد فيها نيكولاس إلى التجريد الشديد والرجوع إلى الأساسيات، وتتمثل المسرحية في عرض تلخيص مدته مائة دقيقة لما حدث على مدى 15 شهرا من التحقيقات التي أجراها السير ويليام جيج في ملابسات وفاة المواطن العراقي بهاء موسى أثناء احتجازه على أيدي القوات البريطانية في البصرة، والحقيقة أن من يعتقد أن مسرحية بهذا الشكل قد تكون جافة ومملة سيخيب أمله، فقد استطاع نيكولاس كنت أن يتحرك بإيقاع سريع بين تفاصيل ماحدث لبهاء موسى في البصرة ودهاليز السياسة العسكرية والخارجية البريطانية، وكل ذلك للإجابة على سؤال أساسي تطرحه المسرحية وهو، لماذا يعتقد الجنود البريطانيون أن ما قاموا به تجاه بهاء موسى كان مقبولا؟، ومن الناحية الفعلية كان هذا التحقيق قد تكلف 12 مليون جنيه استرليني وانتهى في شهر أكتوبر من العام الماضي ومن المتوقع أن تعلن نتائجه قريبا.

ومن المعتقد أنه من بين كل التحقيقات التي تناولتها مسرحيات دراما المحاكاة على مسرح ترايسيكل، فإن التحقيق بشأن وفاة بهاء موسى هو الأقل شهرة، بل إن كثيرين من البريطانيين لا يكادون يعرفون شيئا عن تلك القضية بالذات، ولكن نيكولاس كنت يقول إن هذا بالتحديد هو السبب الذي دفعه لتناول تلك القضية في مسرحيته الجديدة، ويقول نيكولاس كنت أعتقد أن التحقيق الخاص بموت بهاء موسى لم يحظ بالتغطية المناسبة في وسائل الإعلام البريطانية، وقد حضرت بعض جلسات ذلك التحقيق في وسط لندن، ولم يكن هناك سوى صحفي واحد أو اثنين، مع أنه تحقيق كان يحتاج تسليط الاضواء الإعلامية عليه، وبالرغم من أن الحكومة البريطانية دفعت تعويضات ضحمة لأسرة بهاء موسى، فإن نيكولاس كنت يعتقد أن الاهتمام الإعلامي بالتحقيق لم يكن بالقدر المطلوب، ويقول ربما يعزى ذلك إلى أن تحقيق لجنة والكوت بشأن ملابسات اشتراك بريطانيا في حرب العراق كان يجرى في ذلك الوقت واستحوذ على اهتمام الإعلام، ولكن ذلك لا ينفى أن الجيش البريطاني العامل في العراق قد أخضع بعض الناس لأساليب تعذيب غير قانونية، ويؤكد كنت أن أفضل وقت لإنتاج مسرحية محاكاة عن تحقيق بعينه هو الوقت الذي يعقب انعقاد التحقيق في الواقع، ولكن قبل إعلان نتائجه، ويقول إن الهدف من ذلك هو أن يمعن جمهور المسرح التفكير في الأدلة التي شاهدها في الواقع ويقارنها بما شاهده على المسرح ثم يتوصل للنتيجة التي يراها مناسبة ليقارنها بعد ذلك بالنتيجة الفعلية.

انا حرة

في سياق متصل تتيح المخرجة والممثلة الفلسطينية فالنتينا ابو عقصة فرصة لجمهور المسرح لمشاهدة جولة من جولات التحقيق التي تتعرض لها الاسيرات الفلسطينيات في السجون الاسرائيلية من خلال مسرحية (انا حرة) التي شاركها في تقديمها على خشبة مسرح عشتار في رام الله الممثل اياد شيتي، ويقدم الممثلان على مدار ستين دقيقة ملخصا معدا بعناية لما جمعته فالنتينا على مدار عام من البحث واللقاءات مع فلسطينيات خضن تجربة الاعتقال السياسي في السجون الاسرائيلية، واستمعت منهن الى ما تعرضن له خلال فترة التحقيق التي قد تستمر اياما واسابيع في بعض الاحيان تستخدم فيها الكثير من اساليب الترهيب والترغيب، وقالت فالنتيا بعد العرض "ما قدمته في المسرحية (انا حرة) جزء حقيقي مما تتعرض له الاسيرات الفلسطينيات في السجون الاسرائيلية وانا شخصيا لم اعش تجربة الاعتقال ولكني بذلت كل جهد ممكن كي اتقمص شخصية الاسيرة خلال جولة من جولات التحقيق التي تتعرض لها الاسيرات"، واضافت "لم اقدم تجربة اسيرة واحدة بل عملت بعد عام من البحث واللقاءات مع عدد من الاسيرات خلال مراحل مختلفة قبل الانتفاضة الاولى وخلالها وخلال الانتفاضة الثانية وعملت على اعادة صياغة هذه التجارب على مدار ثلاثة شهور لاقدمها على مدار ساعة من الزمن لذلك المسرحية عرض لجولة تحقيق واحدة"، ويبدأ العرض المسرحي لحظة دخول الجمهور الى قاعة المسرح ليرى فتاة مكبلة اليدين والقدمين معصوبة العينين مربوطة الى عمود في زاوية المسرح يسمع صوت انينها قبل ان يجرها السجان الى غرفة مجاورة لتدخل بعد ذلك امام الجمهور وقد بدت عليها اثار التعذيب على وجهه، ويدخل بعد ذلك المحقق (اياد شيتي) لتبدأ جولة التحقيق التي تبدأ في تقديم نفسه كرجل يحترم حقوق الانسان ويرفض ما تعرضت له الاسيرة من تعذيب اضافة الى استعراض ثقافته الواسعة للادب العربي ليبدأ مرحلة الترغيب مع الاسيرة في محاولة منه لانتزاع اعترافات منه، وينتقل بعد ذلك الى الترهيب من خلال التهديد بتشويه السمعة بتلفيق تهم تتعلق بممارسة الجنس وصولا الى مرحلة العنف والاعتداء على الاسيرة بالضرب ومحاولة اغتصابها وتهديدها بجعل مجموعة من السجانين تغتصبها. بحسب رويترز.

مشاهد عنيفة يشاهدها الجمهور على خشبة المسرح حيث يقيد المحقق يدي الاسيرة ويضع قدميه عليها اضافة الى شد شعرها بقوة والقائها على الارض ومحاولة خنقها الى ان ينتهي بمحاولة اغتصابه، واوضحت فالنتينا ان ليس لجميع الاسرى والاسيرات مثل تلك الشخصية التي تقدمها في المسرحية والتي ترفض الاستسلام او الاعتراف رغم كل اساليب التعذيب وقالت "بالطبع هناك اسرى واسيرات يصمدوا خلال التحقيق ويرفضوا الاعتراف وهناك اخرين ينهاروا ويعترفوا تحت الضغط النفسي والجسدي"، وقال شيتي لرويترز بعد العرض "في البداية عندما عرض علي المشاركة في المسرحية تخوفت لانه حتى تكون مقنعا يجب ان تقتمص الشخصية وليس سهلا ان تتقمص شخصية بينك وبينها صراع، عملت على دراسة اساليب التحقيق واستمعت الى روايات من الاسرى والاسيرات حول ما يجري معهم خلال التحقيق والاساليب التي يتم استخدامها من قبل المحققين الاسرائيليين وانتهيت الى تقديم النموذج الذي رايته في المسرحية"، واضاف "ساشعر بالرضا ان كرهني الجمهور في هذه المسرحية لان ذلك سيعني انني نجحت في اداء الدور"، ويرى المسرحي الفلسطيني ادوارد معلم ان العرض "جريء ولاول مرة يتناول المسرح الفلسطيني بهذه الواقعية قضية بهذه الحساسية التي تعاني فيها الاسيرة داخل السجن وبعد الخروج منه من خلال علاقتها بالمجتمع"، وتابع بعد مشاهدته العرض "لقد نجحت فالنتينا وبجرأة ان تنقل شيئا واقعيا من ما تتعرض له الاسيرات داخل السجون وربما يكون ما قدمته رغم قسوته اقل بكثير مما يحدث مع الاسيرات داخل السجون الاسرائيلية، قد يكون الجمهور المحلي يعرف او يسمع عن هذه القضايا ولكن ربما يشكل ذلك صدمة للجمهور العالمي"، ويستعد طاقم المسرحية لمواصلة جولة عروضه لتكون محطتها القادمة في مدينة الناصرة في الرابع من الشهر القادم بعد ان قدمت جولة من العروض في الرباط وعمان وحيفا ورام الله.

يحيى يعيش

بدورهم ولبرهة من الوقت "وما أطول لحظات الصمت في المسرح" وقف ممثلو فرقة "فاميليا للإنتاج" وجها لوجه أمام الجمهور ونظراتهم تنم عن فهم متبادل، وكأنهم بنظرة واحدة يقولون للجمهور، "لستم سذج، ولا نحن"، ثم استلقوا على الكراسي متظاهرين بالنوم تأخذهم رجفة من حين إلى آخر كأنها صحوة خاطفة كالبرق أو كوابيس مكبوتة، وهكذا دواليك إلى أن تظهر الشخصية الرئيسية، رجل اسمه "يحيى يعيش" يأتيه مباشرة على الخشبة خبر بأنه خلع من منصبه على رأس الدولة، سيناريو هذه المسرحية يختلف اختلافا طفيفا عن واقع الثورة التونسية التي أفضت إلى سقوط زين العابدين بن علي في 14 كانون الثاني/يناير، فقد تخيل فاضل الجعايبي وجليلة بكار مخرجا مسرحية "يحيى يعيش"، مشهد إلقاء القبض على "يحيى يعيش" أو بالأحرى على بن علي في أحد المطارات ومحاولته الانتحار ودخوله المستشفى والصعوبات التي اعترضت جمع مستندات الاتهام لمقاضاته، وهذا التباين بين الخيال والأحداث الواقعية ليس نوعا من المواربة المسرحية، بل إن الفنانين وضعا سيناريو سقوط بن علي دون أن يظنا أن هذا السقوط وشيك، إنها تلك النزعة إلى التفريج عن المكبوتات والتأثير الصادم التي تميز إبداع مسرح الجعايبي وبكار، وعندما عرضت فرقة "فاميليا للإنتاج" مسرحية "يحيى يعيش-أمنيزيا" لأول مرة في تونس في نيسان/أبريل 2010، أصيب الجمهور بالذهول والذعر، ويقول فاضل الجعايبي متذكرا "لقد أخذ بعضهم يلتفت يمنة ويسارا للتيقن من عدم قدوم أفراد المخابرات للقبض على كل من في القاعة، ممثلين وجمهورا"، وقد كانت آنذاك الرقابة الذاتية في الصحافة أمرا سائد، هذه المسرحية "يمكن أن تكون محاكمة لعهد بورقيبة وما ساده من استبداد وغياب للديمقراطية وحظر مفروض على حرية الصحافة والتعبير وقمع المعارضة وشتى صنوف استغلال النفوذ" هكذا وصف المسرحية أحد الصحفيين في أسبوعية "Réalités" وكأنه لم يفهم أن يحيى يعيش هو بن علي شخصي، ولبكار والجعايبي تجربة قديمة مع الرقابة، فقد عانيا وقاوما بشدة في عهد بن علي عندما أرادا أن يعرضا في تونس العاصمة مسرحية "خمسون"، وهي الجزء الأول من ثلاثية ""يحيى يعيش" هي الجزء الثاني" صفق لها جمهور مسرح "الأوديون" الباريسي عند ظهورها عام 2006، يقول الجعايبي في مؤتمر صحفي "فور عودتي إلى باريس، منع عرض المسرحية في تونس لمدة ستة أشهر"، حظر السلطة هذا في تونس أدى إلى "احتجاجات غير معهودة، وربما كانت تمهيدا لما هو قادم في 14 كانون الثاني/يناير"، "وقد لقي ذلك تأييد المعارضة والفنانين والحقوقيين"، "بعدها أرادت الحكومة تجريد المسرحية من محتواها وفرضت علينا قص 286 مقطعا منها"، "لكننا رفضنا وانتصرنا وقدمنا العرض لمدة ثلاث سنوات"، ومسرحية "خمسون" تتحدث عن تائه مصاب بانفصام الشخصية وعن الذاكرة وطبعا مع الجعايبي وبكار لا مفر من الخوض في السياسة.

يذكر انه ذات صباح خطرت لفاضل الجعايبي فكرة مجنونة للجزء الثاني من الثلاثية، "يحيى يعيش – أمنيزيا"، "قلت لزوجتي، أريد محاكمة بن علي، فأجابتني عليك أن تزور الطبيب"، ويضيف "محاكمة بن علي في 2009 أو 2010 لم تكن أمرا ممكن، "لم أكن أريدها بالمعنى المجازي، أي أن أتناول نصا من أمهات المؤلفات المسرحية من القرون الوسطى أو من شكسبير أو من سوفكليس أو إسخيليوس، لأن مسرحي أنا هو مسرح "هن، الآن"، كان علي أن أستلهم من هذا النظام الفاسد والمفسد الذي قاد شعبا بكامله نحو المعاناة والإحباط"، وعندما تحقق حلم سقوط بن علي، لم تشأ جليلة بكار ولا فاضل الجعايبي تغيير شيء في المسرحية ولا إعادة صياغتها وفق أحداث 14 كانون الثاني/يناير، وقدما العرض من جديد كما هو في تونس العاصمة في شباط/فبراير الماضي، ويتذكر كريم الكافي، أحد ممثلي فرقة "فاميليا للإنتاج"، "كنا نعرض المسرحية في مسرح قرب وزارة الداخلية وكان المتظاهرون يهربون إلى القاعة للاختباء، كان الغاز المسيل للدموع يغرقن، فلم يعد المتفرجون يميزون بين الواقع والمسرح!"، وستعرض الفرقة من جديد مسرحية "يحيى يعيش" في تونس العاصمة بعد أسابيع قليلة، ورغم أن الفرقة استطاعت أن تؤثر في جمهور أفنيون المبهور بهذا العرض المميز الذي يلامس الواقع، فالممثلون يدركون جيدا أن المسرحية قد فقدت وهجه، وفي ظرف بضعة أشهر، انتقل نص المسرحية من حلم استشرافي إلى نص توثيقي، وتقول الممثلة فاطمة بن سعيدان "لهذه المسرحية اليوم دور توثيقي يحفظ التاريخ، فهي تذكرنا بأن حرية التعبير طالما سلبت من، إنها تعيد لنا ذاكرتنا"، ويعكف الكاتبان المسرحيان على الجزء الثالث من ثلاثيتهما، وهي مسرحية عن شباب تونس، ويقول الجعايبي "قبل الثورة، كنا ننتقد شبابنا. كنا نراهم متخاذلين وأنانيين ومتواكلين. وكنا نريدهم أن يتبنوا أحلامنا"، ثم اندلعت الثورة وكانت مفاجأة في وجه المخرجين، يعترف هذا المخرج والكاتب المسرحي اليوم بأن "الإنترنت ساعد الشباب كثيرا، لكن ما أخرجهم إلى الشوارع هو البؤس والكرامة المهدورة"، والمسرحية القادمة التي يأمل كلا المخرجين إتمام كتابتها لن تتناول "ما فعله الشباب"، بل "ما عليهم فعله"، وما زال كل من الجعايبي وبكار يُتحفان جمهور "أفنيون" بمسرحيات نابعة من عالمهما المسرحي، "مسرح الإنسان" كما يصفه الممثل كريم الكافي.

من ايام صلاح الدين

من جانبه امتطى الفنان اللبناني عاصي الحلاني فرسه على مدارج بعلبك الرومانية في افتتاح مهرجاناتها الدولية متقمصا شخصية صلاح الدين الايوبي في دفاعه عن القدس مدينة الاديان والسلام في مسرحية غنائية حية بعنوان "من ايام صلاح الدين"، وما بين التاريخ والواقع الراهن تجرنا حكاية الدفاع عن القدس الى مدارج بعلبك الرومانية حيث القائد صلاح الدين الايوبي يفتح القدس مرورا بالسنوات الخمس التالية حين واجه ملك انجلترا ريتشارد قلب الاسد ومحاولات المجموعات السرية في العالم الساعية للتحكم بالمنطقة العربية، وتسرد المسرحية التي كتبها واخرجها الاخوان فريد وماهر صباغ الحالة الدقيقة لابناء القدس عام 1187 في مرحلة ما بعد الحصار والاحتلال وطريقة تعامل صلاح الدين مع الفقراء وتكريم النصارى العرب من اهل القدس ورفض هدم كنيسة القيامة قائلا "من يهدم حجرا من كنيسة القيامة كأنما يهدم المسجد الاقصى"، وللربط بين التاريخ والوقت الحاضر جلس في اسفل مسرح عليه كتاب ابيض مفتوح عجوزان في مأوى احدهما والذي يقدم نفسه على انه كاتب المسرحية ليرويان قصة تاريخية من باب الواقع المؤلم، وهنا يطل الحلاني من على التلال الاثرية خلف الجمهور مع عديد من أفراد جيشه مناديا "يا جيوش الغرب افتحي انا صلاح الدين حامل بايدي سيف العرب"، وتبدأ عروض المفرقعات واصوات المدافع واندلاع النيران لكن النار التي كان من المفترض ان تكون جزءا من العرض احرقت اعلى سور قلعة القدس عن طريق الخطأ نتيجة هبوب الرياح، ويتوافد الممثلون من خلف الجمهور ومن امامه ومن على الاطراف قبل ان يصل الحلاني على فرسه الاسود مرتديا خوذة صلاح الدين ليغني على ظهر فرسه "يا مهد الاديان يا ارض الايمان يا شمعة وحيدة بهالفضا البردان هيدا الحلم يللي كان مرافقنا بصغرن، علي الراية انتصرنا ليوم بهالزمان، يا قدس العتيقة يا وردة بصحرا يا قبة الصخرة ارجعي يا مدينة السلام". بحسب رويترز.

ويبرز صلاح الدين في المسرحية مدافعا عن الفقراء ومفسحا بالمجال امام الاديان "أحب الي ان اخطىء في العفو من ان اصيب في العقاب" كما يبرز اصرار صلاح الدين على الدفاع عن مدينة السلام قائلا "لا تخافوا يا رجال المقاوم ما بيخسر، يا بيربح بالحياة يا بيربح بالشهادة"، وفي محاكاة للانقسام العربي يخاطب الحلاني الحكام في احدى الاغنيات "كل الشهدا راحوا وانتو حاكمين، تاريخ بالذل انكتب بكرا راح ينقال ما عدنا تلاقينا ما عدنا توحدنا من ايام صلاح الدين"، وحلت الاسلحة الرشاشة بدلا عن اسلحة زمان صلاح الدين حيث غنى الحلاني وهو يطلق النار في الهواء اغنية "من بعد ما يتوحدوا سيوف العرب ما في نصر في الكون مثلك نصرنا"، تميز الحلاني بخفة ورشاقة الحركة وهو يمتطي فرسه على مدارج القلعة الاثرية التي ينتمي اليها لانه ابن مدينة بعلبك، ويقول الحلاني "ولد حبي لهذه الشخصية المتفانية في حب الارض العربية والمؤمنة بها والمرتبطة بها والمدافعة عن اهل فلسطين واعتقد ان هكذا اعمال تتماهى مع واقعنا العربي بشكل كبير لاننا منذ ولدنا ونحن في حالة دفاع عن القدس وفلسطين وغزة وجنوب لبنان والجولان وفي ظل ما نشهده من تغيرات عربية بتنا في حاجة الى شخصية عربية تمتلك مميزات صلاح الدين الايوبي"، وقدمت الممثلة اللبنانية كارمن لبس شخصية راحيل وهي رئيسة اخوات (الكف الاسود) الذين كانوا يسيطرون على السياسة في العالم، كما ابدع الفنان القدير انطوان كرباج في دور الكاتب وأدى الممثل نبيل ابو مراد دور صديق الكاتب في المأوى والمغنية كارين راميا ادت دور سلمى، وقالت رئيسة لجنة المهرجانات مي عريض ان هذه هي المرة الاولى منذ 55 عاما تشهد خلاله هذه المهرجانات مسرحية غنائية تقدم بشكل حي بالكامل وبدون تسجيل للاغنيات، وقدمت الموسيقى فرقة تتكون من 45 عازفا بقيادة المايسترو هاروت فازليان بصحبة كورس الجامعة الانطونية وعلى راسه الاب توفيق معتوق، وقالت الموظفة امنة مروة "صناع المسرحية يبدو انهم ارادوا تقديم اسقاطات تاريخية ذات مغزى سياسي اني على ما يجري في العالم العربي من صراعات على السلطة وانتفاضات شعوب وقد نجحوا في المزج بين التاريخ والحاضر وفي محاكاة الراهن"، وقالت الطالبة نور عوض "عاصي الحلاني كان خفيفا كنسمات بعلبك رغم كل المشاكل التي واكبت العرض كونه عرضا مباشرا وخصوصا مشاكل الصوت.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 24/آب/2011 - 23/رمضان/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م