عندما بويع الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام لقيادة الحكم في
الامة الاسلامية وأصبح خليفة رابع للمسلمين سنة 35 هـ (656 م) بالمدينة
المنورة، بعد الإطاحة بحكومة عثمان بن عفّان، وقد حكم فيها خمس سنوات
وثلاث أشهر, التي وصفت بعدم الاستقرار السياسي، وأعلن أمير المؤمنين
أمام المسلمين معالم سياسته التي تميزت بتقدم حضاري ملموس خاصة في
عاصمة الخلافة الجديدة الكوفة.
وأكّد بصورة خاصة عن سياسته المالية وواردات الدولة المالية وآلية
توزيعها, وأعلن حزمه بأمر الخراج وما تملكه الدولة من عائدات مالية
التي هي ملك الشعب. كما بين الامام عدله في سياسته المالية بأن لايصطفي
نفسه وذويه في تلك الأموال, وإنما تنفق تلك الاموال لتطوير وتنمية
الحياة العامة من خلال خلق فرص العمل وتقليل معدل البطالة ورفع مستوى
المعيشة للفرد والقضاء على الجريمة والفساد.
ومن أبرز برنامجه السياسي الاقتصادي هو التوزيع العادل للثروة
وإشاعة الرخاء والانتعاش الاقتصادي لسكان الدولة الاسلامية دون تمييز
او اعتبار جانبي. فقد ساوى بين سكان بلاد المسلمين من يهود ونصارى
وصابئة، فلهم الحقّ فيها كما للمسلمين, عكس ما حدث من تمييز وثراء كبير
لفئة دون أخرى كثراء بني أمية على حساب الفقراء من أبناء الدولة
الاسلامية في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان.
وقد شدد الامام في عهد ولايته على محاسبة المفسدين الذين نهبوا
أموال المسلمين بغير حق. فأصدر أوامر بجمع الاموال المسروقة والمختلسة
من بيت المال وأعادتها الى خزينة الدولة. فقد تميزت سياسة أمير
المؤمنين بالعدالة والصرامة وعدم المداهنة مع أي طرف مهما علا شأنه أو
قرب نسبه. فقد كان جل اهتمامه بشريحة الفقراء والعاطلين عن العمل, مما
جعل منهجه في السياسة الاقتصادية يعتمد مبدأ توزيع الاموال بصورة عادلة
وسريعة على مستحقيها وعلى الاستثمار.
والاهتمام بالجانب الزراعي من خلال تعمير الاراضي وإصلاح الري
لاستيعاب العاطلين عن العمل وزيادة الانتاجية الغذائية لسد رمق الفقراء.
وهذا ما أكّد أمير المؤمنين لمالك الأشتر على ضرورة إصلاح الأرض قبل
أخذ الخراج منها حيث قال له: وَلْيكُن نَظَرُكَ في عمارةِ الأرْضِ
أبْلَغَ من نظرِكَ في اسْتِجْلابِ الخراجِ، لأنَّ ذلكَ لا يُدْركُ الا
بالعمارةِ؛ ومن طَلَبَ الخراجَ بغيرِ عمارةٍ أخْرَبَ البلاد، وأهْلَكَ
العباد.
ووقد عين عامر بن النباح أميناً لبيت المال في الكوفة وكان مؤذن
لأمير المؤمنين (صلوات الله عليه) وقد جاء بن النباح يوما الى أمير
المؤمنين وقال: أمتلأ بيت المال من الصفراء والبيضاء فقال الامام (صلوات
الله عليه) "الله أكبر" ثم أمر بتوزيع الاموال على أتباع عاصمة الدولة
الاسلامية في الكوفة وهو يقول (يا صَفراءُ وَيا بيضاءُ غُرِّي غَيْري)
ولم يبقى دينار في بيت المال وصلى كعادته ركعتين لله بعد أن يفرغ بيت
المال.
وسياسة الامام علي العادلة في توزيع المال سببت له أزمات سياسية
واجتماعية مع البعيدين والقريبين منه فقد خلقت مصاعب مع جيشه وتنكر له
الاعيان من البلاد وقاطعته قبائل قريش الاقطاعية التي استأثرت بالمال
والهبات في العهد الذي سبق ولايته. والسياسة العادلة في توزيع المال
دفع الامام علي ثمنا باهضا في تخاذل جيش الامام وتوجهه صوب معاوية, مما
دعا أبن عباس الى توجيه النصح الى الامام وعرض عليه حالة جيشه فقال: يا
أمير المؤمنين، فضّل العرب على العجم، وفضّل قريشاً على سائر العرب.
فنظر له الامام بطرف عينه وقال له (أتأمروني أنْ أطْلُبَ النَّصْرَ
بالجوْرِ؟ ولوْ كانَ المَالُ لِي لَسَوَّيْت بينَهُمْ، فكيفَ وإنَّما
المَالُ مالُ الله).
سياسة الامام العادلة والمشرقة التي أنتهجها أدّت إلى الإطاحة
بحكومته الرشيدة وإجماع القوى الباغية والمنحرفة ضده. فقد نفر الناس من
سياسة المساواة والعدل على الرغم من أن الله سبحانه وتعالى أكد بكتابه
الكريم بقوله تعالة: (يا أيُّها النّاسُ إنّا خَلَقْناكُم مِن ذَكَرٍ
وَانثى وَجَعَلْناكم شُعوباً وَقَبائلَ لِتعارَفوا إنَّ أكْرمَكُم عندَ
اللهِ أتقاكُم). حيث يقول العلامة الحافظ الصادق أبو الحسن المدائني "
إنّ من أهمّ الأسباب التي أدّت إلى تخاذل العرب عن الإمام اتّباعه
لمبدأ المساواة حيث كان لا يفضّل شريفاً على مشروف في العطاء ولا
عربياً على أعجمي"
وإن النظام الاقتصادي الذي اعتمده الامام علي ابن أبي طالب (عليه
الصلاة والسلام) يهدف الى إقامة مجتمع عادل ومتوازن لاتقف فيه
الاقطاعية أو الرأسمالية موقف التسلط والتسيد على رقاب الناس ولا يوجد
فيه فقير ومحروم وبائس. فقد كان الامام شديد وعادل مع أقرب المقربين
فقد كان حازم مع اولاده ومع أخوته, وحادثة عقيل ابن أبي طالب هي دليل
قاطع على عدالته, عندما طلب عقيل مساعدة أكبر مما يستحق من بيت المال,
مما دعا الامام ان يحمي له جمرة. جاعلا من ذلك الموقف عبرة ودرس
للعدالة والمساواة بين الرعية (السلام عليك يا أبا الاحرار, السلام علك
يا أبا الحسنين). |