شبكة النبأ: إن ازدهار الديمقراطية
اليوم مشروط بإعادة تصورها بوصفها ظاهرة ذات وجهين مهتمة من ناحية
بإعادة صياغة إصلاح سلطة الدولة، ومن الناحية الأخرى، بعملية إعادة
بناء المجتمع المدني أما مبدأ الاستقلال فلا يمكن تفعيله إلا عبر
الاعتراف بضرورة اعتماد سيرورة إشاعة ديمقراطية مزدوجة: التحويل متبادل
التبعية لكل من الدولة والمجتمع يجب أن يكون ملمحا مركزيا من ملامح
الحياة الديمقراطية من جهة، ومفهوم أن سلطة اتخاذ القرارات ينبغي أن
تكون متحررة من القيود اللاشرعية التي تفرضها التدفقات الخاصة لرأس
المال من جهة ثانية. غير أن إقرار أهمية هدين الموقفين كليهما يعني
التسليم بضرورة إعادة مدلوليهما التقليديين جوهريا.
يدعوا تفعيل مبدأ الاستقلال إلى أعادة التفكير بجملة صيغ وحدود فعل
الدولة مع صيغ وحدود المجتمع المدني. ثمة سؤالان يبرزان على السطح: كيف
وبأي، وبأي أساليب، يمكن جعل سياسة الدولة أثر مسؤولية وقابلية
للمحاسبة؟ كيف، كيف وبأي أساليب، يمكن إعادة تنظيم الفعاليات"غير ذات
العلاقة بالدولة" ديمقراطيا؟ تبقى مقاربة هاتين المشكلتين بأي قدر من
العمق والشمول وهدا ما يحتاج إلى تفصيل أكثر.
بقيت الحاجة إلى إضفاء الديمقراطية على المؤسسات السياسية محصورة
أكثر الأحيان بمسائل إصلاح عملية انتقاء قادة الأحزاب وتغيير القواعد
الانتخابية. ومن القضايا الأخرى المثارة قضية التمويل العام لجميع
الأحزاب التي تتمتع بالحد الأدنى المطلوب من التأييد، مسألة القدرة
الفعلية على الوصول إلى مسائل الإعلام والتوزيع المتكافئ للوقت
الإعلامي، موضوع حرية الإعلام (إلغاء عدد كبير من الضوابط المتعلقة
بأسرار الدولة، قضية إشاعة لامركزية الخدمة المدنية، مسألة الدفاع عن
سلطات الإدارة المحلية وتفعيلها في مواجهة قرارات الدولة أما مستهلكيها
وأسرع تلبية لمطالبها. من المؤكد أن هده القضايا كلها مهمة لابد من
تطويرها أكثر ادا كنا نريد الاهتداء إلى استراتيجيات مناسبة لإشاعة
الديمقراطية في مؤسسات الدولة. (أنظر بارنت وآخرون 1993). غير أن أيا
منها لن يساهم مساهمة حاسمة في جعل الكيان السياسي أكثر ديمقراطية ما
لم تتم المبادرة إلى التصدي لمشكلة أساسية أخرى.
يقول الكاتب ديفيد هيلد في كتابه نماذج الديمقراطية الجزء الثاني إن
السبيل إلى التوفيق بين متطلبات الحياة العامة الديمقراطية (الحوار
المفتوح، إمكانية الوصول إلى مراكز القوة، المشاركة السياسية
العامة،الخ) وتلك المؤسسات العائدة للدولة( من الجهاز التنفيذي إلى
سائر فروع الإدارة) المكلفة بالدفاع عن سيادة القانون، حل النزاعات
والتوسط بين المصالح المتضاربة؟ ما السبيل إلى تأمين مستلزمات الدولة
ذات السيادة من ناحية، والشعب من ناحية ثانية؟
المطلوب بعبارة أخرى، هو التأسيس لسيادة المواطنين على الدولة دون
التنازل عن حق صنع القانون وتطبيقه-عن سلطات الدولة عموما- لسلطة الشعب
غير المحدودة بما قد تنطوي عليه من خطر على ترسخ مبدأ الاستقلال وحرية
الأفراد والأقليات. صحيح أن الدولة بحاجة إلى إشاعة الديمقراطية، غير
أنها بحاجة أيضا إلى حماية وتطوير بعض صلاحياتها المستقلة والمحايدة
إذا أردنا تمكين الديمقراطية من الاحتفاظ بشكل وقالب يقومان، من حيث
المبدأ، على احترام حقوق جميع المواطنين والتزاماتهم وتطبيقها. ما
السبيل إلى تحقيق هذا؟
في العديد من البلدان، تكون حدود الحكم مرسومة بالدساتير وشرائع
الحقوق الخاضعة لمعاينة الجمهور، مراجعة البرلمان والعملية القضائية.
هده الفكرة أساسية، ولا سيما بالنسبة إلى مبدأ الاستقلال. غير أن
الأخير يستدعي إعادة تقويم هده القيود على السلطة العامة في ضوء طيف من
القضايا أوسع بكثير مما جرى افتراضه حتى الآن.
إذا أردنا أن يكون الناس أحرارا ومتساوين في تقرير شروط حياتهم
الخاصة، والتمتع بحقوق متساوية، جنبا إلى جنب مع التزامات متكافئة في
تحديد الإطار الذي يولد ويحدد جملة الفرص المتاحة لهم، فان من الضروري
أن يكونوا في وضع يمكنهم من التمتع بسلسلة من الحقوق، لا من حيث المبدأ
وحسب بل وعلى صعيد الممارسة العملية أيضا. وهدا يستدعي وجود نظام حقوق
مؤهل لضبط النشاطات الجماعية وتمكينها عبر ميدان واسع.
من شأن أي ديمقراطية أن تكون جديرة باسمها أذا امتلك المواطنون في
ظلها قدرة فعلية على أن يكونوا مواطنين فعالين، أي إذا كان المواطنون
قادرون على التمتع بحزمة من الحقوق التي تتيح لهم فرصة المطالبة
بالمشاركة الديمقراطية وعلى التعامل معها بوصفهم أصحابها( انظر سن،
1981، فصل:1). ومن المهم تأكيد أن مثل هذه الحزمة من الحقوق ينبغي عدم
النظر إليها كما لو كانت مجرد امتداد لدائرة المطالبات الخاصة
المتراكمة بالحقوق والامتيازات إزاء الدولة وضدها.
ما الذي سيضمن ذلك؟ ثمة دستور وشرعة حقوق، وهما عاملا ترسيخ لمبدأ
الاستقلال، سيتوليان تحديد حقوق متساوية فيما يخص جملة العمليات التي
تحسم حصيلة الدولة.
الديمقراطية النخبوية
من جهة اخرى الدعوة إلى حكم برلماني ونظام قائم على المنافسة كان
الخبراء يعتمدون منطلقا مألوفا لدى العديد المفكرين عبر الاستفادة من
النماذج التاريخية غير أن دفاعهم عن تلك السلسلة المؤسساتية كان مستندا
إلى حجج جديدة وقبل معاينة بعض نواقص الأفكار من المهم قول المزيد عن
تلك الديمقراطي وهو نموذج رؤى غير قابل للتجنب من ناحية ومرغوبا من
ناحية ثانية فقد أورد خبراء السياسة عددا من الأسباب التي تجعل الحكم
البرلماني حيويا.
أولا. يضمن البرلمان قدرا من الانفتاح في الحكم فبوصفه منبرا
لمناقشة الخطة العامة يؤمن البرلمان فرصة للتعبير عن الآراء والمصالح
المتنافسة؟
ثانيا. تؤدي بنية المناقشات البرلمانية وطبيعة الحوار وضرورة توفر
درجة عالية من الخطابة وصولا إلى الإقناع إلى جعل البرلمان ميدان
اختبار مهم بالنسبة إلى القادة الطموحين فعلى القادة أن يكونوا قادرين
على تعبئة الرأي العام وعلى تقديم برنامج سياسي مقنع.
ثالثا، يوفر البرلمان المكان المناسب للتفاوض حول مواقف متشددة
فالممثلون السياسيون يتخذون القرارات بالاستناد إلى معايير تكون مغايرة
لمنطق السيرورات البيروقراطية واليات السوق يستطيعون أن يجعلوا الخطط
البديلة واضحة أمام إرادة وجماعات من مصالح متضاربة وصولا إلى خلق فرص
الحلول الوسط المحتملة أنهم قادرون على العمل بوعي لصياغة أهداف تستجيب
لضغوط متحولة وتكون متوافقة مع استراتيجيات النجاح على الصعيدين
الانتخابي والوطني وبتلك الصفة يشكل البرلمان آلية أساسية من الآليات
الحفاظ على تنافس القيم.
غير أن من الخطأ إضفاء ثوب رومانسي حالم على البرلمان ففكرة
البرلمان بوصفه مركزا للحوار والنقاش مكانا لصياغة برامج سياسية ذات
مرجعية تبقى إلى حد كبير حسب الخبراء نوعا من تزييف طبيعة الشؤون
البرلمانية الحديثة.
يقول ديفيد هيلد في كتاب نماذج الديمقراطية كانت البرلمانات ذات يوم
مراكز للعقل فان تأكيد الأمر بثقة لم عد ممكنا خلافا لوجهات النظر.
جادل الخبراء أن توسيع دائرة حق الانتخاب وتطور السياسة الحزبية أفضيا
إلى تقويض التصور الليبرالي الكلاسيكي للبرلمان بوصفه مكانا يجري فيه
حسم الخطة القومية عبر التأمل والتفكير العقلانيين اللذين لا يسترشدان
إلا بالمصلحة الجماهيرية أو العامة وفي حين أن البرلمان هو الجهاز
الشرعي الوحيد لإقرار القوانين والخطط فان السياسة الحزبية هي الطاغية
على الصعيد العلمي.
فتمكين الجماهير يحدث تغيرا جذريا في آليات الحياة السياسية حيث
يؤدي إلى وضع مؤسسة الحزب في قلب الشأن أو العمل السياسي فقط بالتقاء
سياسة الأحزاب السياسية الحديثة يستطيع المرء أن يستكمل استيعاب معنى
توسيع دائرة حق الانتخاب في القرنين التاسع عشر والعشرين بعيدا كل
البعد عن تأمين سيادة الشعب.
جاء توسيع دائرة حق الانتخاب مصحوبا في المقام الأول بانبثاق نمط
جديد من الساسة المحترفين أما الذي أدى إلى دلك مع إشاعة حق الانتخاب
بات من الضروري إيجاد منظومة هائلة من الروابط السياسية وهده الروابط
أو الأحزاب كانت مكرسة لتنظيم التمثيل ففي سائر التجمعات التي هي اكبر
من البقع الرفيعة الصغيرة يبقى التنظيم السياسي بزعم محللون خاضعا
بالضرورة لإدارة الناس المهتمين بإدارة السياسة من غير القابل لتصوران
تتمكن الانتخابات من العمل بالمنطلق في الروابط الكبيرة دون توفير هدا
النمط الإداري على الصعيد العملي يعني دلك تقسيم المواطنين المتمتعين
بحق الانتخاب إلى عناصر فعالة سياسيا وأخرى سلبية أو منفعلة سياسيا.
من المؤكد أن توسيع دائرة حق الانتخاب يعني دون أي لبس انتشار
الروابط السياسية الهادفة إلى تنظيم الناخبين دوي المصالحة المتشظية
الموزعة في أكثر الظروف باستثناء حالات الطوارئ الوطنية والحروب، ثمة
كثرة من القوى الاجتماعية تتنافس على النفوذ والتأثير في الشؤون العامة
وتحقيق مثل هدا النفوذ تكون القوى بحاجة إلى توظيف الموارد، جباية
الأموال اللازمة، تجميد الإتباع والسعي وكسب الناس إلى صنف قضاياهم غير
إنها في أثناء تنظيم لا تلبث أن تصبح تابعة إلى لأولئك الدين يتولون
باستمرار تشغيل الأجهزة السياسية الجديدة التي سرعان ما تصبح
بيروقراطية في سعيها إلى أن تكون فعالة قد ترمي الأحزاب إلى تحقيق
برنامج سياسي مثالي لكنها تبقى ما لم تكن نشاطاتها قائمة على
استراتيجيات منهجية هادفة إلى تحقيق النجاح الانتخابي، محكومة بالتعرض
لفقدان الأهمية وتبعا أن الأحزاب تتحول قبل كل شيء آخر وسائل لخوض
معارك انتخابية وكسبها وتطور الأحزاب المتنافسة يؤدي إلى تغيير لا رجعة
عنه في طبيعة السياسة البرلمانية فإمكانات الحزبية تقوم بإزاحة سائر
الانتماءات التقليدية جانبا وتترسخ بوصفها بؤر الولاء حالة محل مراكز
أخرى بوصفها القاعدة المفتاحية للسياسية تتراكم الضغوط حتى على
الممثلين المنتخبين لدفعهم إلى تأييد الخط الحزبي لا يلبث الممثلون أن
يصبحوا عادة ما ليس أفضل من رجال جيدي الانضباط. |