قبر سار بصاحبه، وهو يشق أمواج البحر في ظلمات ثلاث، إنه سجن من نوع
آخر، حينما توقد مصابيح القلوب بشعلة الإيمان تنار تلك العتمة وإن كان
في بطن حوت: " وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ
لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ
إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ،
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي
الْمُؤْمِنِينَ "، إنه صاحب الحوت "ذو النون" كما يعبر عنه القرآن
الكريم، لحظات رهيبة يقضيها يونس النبي (عليه السلام) في أعماق
المحيطات، والحوت الضخم يسير به بعد إن ابتلعه دفعة واحدة دون أن يعرف
ما مصيره..
زنزانة قسرية كادت أن تكون أبدية، لولا أن تداركته رحمة من ربه، لقد
ولد النبي من جديد ليس من رحم امرأة بل من حوت كان التسبيح له حبل نعمة
ونجاة (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي
بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)، حتى عادت حياته الطبيعية بعد
الانسلاخ (وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِين﴾..
***
الجبال كانت تؤوب مع داوود والطير، فكل جماد له لغة يتناغم بتسبيح
لله وعبادته، وفراراً من الطاغية الملك "دقيانوس" كان " الكهف " مخبأ
النغم والحصن المنيع والأم الرؤوم على أبنائها الفتية الذين قال الله
عنهم: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ)، فلم يكن الاعتزال
ديدن الأنبياء فقط، بل حتى لإتباعهم ومن أراد هديهم، لذا قال فيهم
تبارك وتعالى في تكملة الآية: (وَزِدْنَاهُمْ هُدًى)، أي نوراً على نور،
إن في مثل هذا الاعتزال تنتشر الرحمة لتغسل الذنوب وترطب القلوب وتتهيأ
فيها الأمور، لذا جاء النداء من السماء: (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ
وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ
لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم
مِّرْفَقًا)، والعقلاء اليوم هم من يفرون بدينهم، خاصة في زمن أضحى
القابض على دينه كالقابض على جمر، فمن يرى أن الظروف من حوله موبوءة،
عليه أن ينطلق إلى الصفاء والنقاء، بعيداً عن الملوثات، فالمسجد كالكهف
بل بيت الله خير من مغارات الجبال، ولذا أبدل رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) عبادته من " حراء " إلى مسجده المبارك، لم يكن انعزالهم
يوماً واحداً أو بعض يوم كما توهموا بل (309) أيام، كما قال: (وَلَبِثُوا
فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً)، ولكنهم
آثروا الآخرة على الدنيا، واتأخذ عليهم مسجداً تخليداً لذكرهم الطيب..
***
الشباب أولى بالاعتكاف من سواهم، وقصة النبي الشاب يوسف الصديق (عليه
السلام) تكرس فينا هذا المعنى، فحينما ألقي في الجب، كان طريقه إلى
استلام النبوة، وحينما شاهد أفيون النساء محدق به، قرر الهروب إلى
المكان الذي يكرهه الجميع إذ قال: (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ
مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ)، ولكن نهاية الاعتزال كانت الصدارة وتاج
الملك، لذا قال معقباً: (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ
اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِين) !
***
ليس كل اعتزال سلبي النتاج، فالسجن القاهر قد يكون منطلقاً لتحليق
جديد، ولقد أجاد "ابن زيدون" إذ شبه بقاءه في الحبس بلحظة الاستعداد
قبل انطلاق الأسد، إذ يقول: (يَلْبُدُ الوَرْدُ السَّبَنْتِيُّ وله بعدُ
افتِرَاسُ)، فهذا إبراهيم الخليل (عليه السلام) يصرح لقومه بالحرف
الواحد: (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ
وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيّاً)،
وهكذا نجد أن سلوك الأنبياء يتجه نحو الانحراف عن الظروف المختلطة
بالبشر بما فيها من سلبيات، لاستلهام القوة من الله ومن أجل طهارة
القلب، ولبلوغ القربة من الله سبحانه، بعدها انطلق ليكيد الأصنام،
وبدأت ثورته ودعوته ضد الباطل على قدم وساق..
***
ليست الخلوة بالله للرجال دون النساء، فالطهارة للجميع والقربة إلى
رحاب القداسة ديدن الطاهرات كذلك، والقرآن يروي لنا قصة مريم بنت عمران
(عليها السلام)، وإن نتيجة الكرامة وقعت بعد اعتزالها عن قومها وأهلها،
إذ يقول تبارك وتعالى فيما ورد من قصتها: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ
مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا.
فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا
رُوحَنَا...)، فهنا كانت النعمة الغامرة عليها، وبداية المنة الإلهية
لها، في الاتجاه نحو المكان الشرقي ووضع الحجب حتى لا يقطع أي أحد
عليها مآنستها بالله سبحانه، ولذة القربة منه، وكأن لسان حالها يضج
بقول: (فإليك يا سيدي وفادتي وتهيأتي وتعبأتي وإعدادي واستعدادي رجاء
رفدك وجوائزك وفواضلك ونوافلك وعطاياك...)، فمن أراد الكرامة والحظوة
فليقدم الخطوات الممهدة لتلك الجوائز والنوائل !
***
إن الجهل من طبيعة البشر، ونحن لا نعلم أسرار الأمور، ولكن طريق
الأنبياء (عليهم السلام) طريق مغمور بالكنوز واليواقيت المعنوية التي
لا يعرف كنهها إلا الله والراسخون، فهذا يعقوب النبي (عليه السلام)
يصنع له كوخاً للاعتزال عن أبنائه بعد كيدهم بأخيهم يوسف (عليه
السلام)، بل يصرح لأبنائه أنهم لا يعلمون ما يعلمه من فوائد القربة إلى
الله إذ يقول: (إنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ
وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)، فكيف بنا ونحن في شهر
رمضان وفي مائدة الرحمن؟!، بل كيف إذا كانت الأيام في عشر أواخره؟!،
فيا ترى كيف سيكون طريق الأنبياء لو كانوا معنا؟!، وللإجابة علينا أن
نخترق الزمن لنشاهد نبي الرحمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): كيف
يطوي فراشه مودعاً النوم؟!، شاداً على مئزره يوقظ من حوله، وهو يعيش ما
تبقى من عمر هذا الشهر معتكفاً في بيت من بيوت الله !
*** |