لن يجد الباحث المختص بالشأن العراقي صعوبة في الوصول الى نتيجة
مفادها ان العراق يمر اليوم، وقبل شهور معدودة من الانسحاب الأمريكي في
العراق، بمرحلة حرجة تتخللها العديد من الصراعات والخلافات التي أفضت
إلى نوع من الشلل السياسي في بعض من مفاصل الدولة نتج عنه عدم القدرة
على الاتفاق، وبعد اكثر من سنة على تشكيل الحكومة، على مرشحي الوزارات
الأمنية والمخابرات في حين ان، وهذه مفارقة سياسية قاسية، اهم مشكلة
تعترض طريق بناء العراق هي عدم استقراره الامني.
هذه المرحلة الحرجة وما فيها من صراعات طفت على السطح على نحو جلي
كانت ومازالت مدار اهتمام الباحثين في الشأن العراقي، سواء كانوا
غربيين او عرب، ممن يكتبون المقالات ويضعون البحوث التي تتعرض لتجربة
العراق بعد عام 2003 ونظامه الديمقراطي الجديد والأزمات والعقبات التي
تعترض طريق بناء دولته ومؤسساته السياسية.
ومن بين آخر هذه التحليلات السياسية التي تتعلق بالعراق، او على نحو
ادق، الصراعات الجارية فيه، كانت مقالة بقلم الكاتبة ماريا فانتيبه
المتخصصة في الشأن العراقي والاستاذ الزائر في معهد كارنيغي في بيروت
والتي كانت بعنوان " تحالف نوري المالكي القلق مع حركة مقتدى الصدر"
المنشورة في جريدة لوس انجلس تايمز الأمريكية وعلى موقع معهد كارنيغي
الالكتروني بتاريخ 15 من اب الحالي.
المقالة تتحدث عن حيثيات الصراع، المخفي حينا والواضح حينا آخر، بين
رئيس الوزراء العراقي السيد نوري المالكي وبين التيار الصدري في بغداد
وفي بقية المحافظات، وكيف يستخدم كلا الطرفين أساليب واليات معينة
لإدارة هذا الصراع والخروج بنتيجة ايجابية منه تعزز رصيده الشعبي.
تنطلق ماريا، بادئ ذي بدء، في مقالها من " التطورات الأخيرة التي
هزت المنطقة في العالم العربي" التي أجبرت القادة العرب على إدراك
حقيقة انهم يجب ان يكون بينهم وبين الشعب علاقة جيدة لكي يستندوا لهم
في بقاءهم في السلطة، ويبدو" أن رئيس الوزراء نوري المالكي من بين
هؤلاء الذي أدركوا هذا الأمر" على حد تعبير ماريا.
سمات التيار الصدري
تقف ماريا في مقالها على اهم السمات التي يتمتع بها التيار الصدري
والتي ربما يمتاز بها عن غيره من الكتل والاحزاب السياسية في العراق،
وهي في وجهة نظرها كما يلي:
اولا: التيار الصدري يمتلك الادوات المناسبة للوصول الى الناس في
ارض الواقع وحشدهم في الشوارع.
ثانيا: الصدريين قادرون على العودة الى القتال، على نحو مغاير
للسابق، من خلال السيطرة على الوزارات الرئيسية وهي الاسكان والبناء
والبلديات والتخطيط.
ثالثا: يعتمد الصدريون على سلسلة مرنة في عمليات صنع القرار التي
تتعلق بالمسائل السياسية وعلى المستويات العليا في الحكومة وتنفيذ
المشاريع من خلال اللجان المحلية في المحافظات التي يديرها التيار.
رابعا: قوة التيار الصدري الحقيقية تكمن في قدرتها على التعامل مع
شرائح مختلفة من المجتمع العراقي. فهم يتناغمون بسهولة مع النسيج
الاجتماعي العراقي في طريقة لا يستطيع رئيس الوزراء القيام بنظيرها.
خامسا: غالبا ما يشغل الصدريون الفراغ الذي خلفه ضعف مؤسسات الدولة
من خلال تنفيذ السياسات التي تعود بالفائدة في نتائجها على المواطن
المحروم.
سادسا: أنهم يستهدفون الشباب من خلال برامج التعليم وتوفير الخدمات
الصحية للاطفال والنساء وتشكيل لجان قضائية لتسوية المنازعات.
سابعا: يصور التيار الصدري انفسهم باعتبارهم رمز للكرامة الوطنية
العراقية، وهي حجة لها صدى لدى الشباب المحرومين الذين يرون فيهم نموذج
لتيار يقاوم الاحتلال.
ثامنا: لكن من جهة اخرى هنالك تناقض مستمر بين صورة التيار الصدري
كقوة مقاومة عسكرية وبين كونه كتلة سياسية منظمة، وهذا ما يمكن ان يشكل
" كعب أخيل "... أي نقطة ضعف.
ولذلك تقول ماريا انه بدلا من أطلاق عنان العنف على يد الصدريين إذا
ما تم تأجيل انسحاب القوات الأمريكية، نجد أنهم يستطيعون إبقاء أنفسهم
في الحكومة، والاستمرار في المنافسة السياسية، وطلب انسحاب القوات
الامريكية من بعض المحافظات الجنوبية التي تدار من قبل التيار الصدري.
تاسعا: ومن المفارقات الغريبة أن التيار الصدري اصبح من اخطر خصوم
المالكي السياسية وكذلك حليفه الاكثر ضرورة.
الصراع مع المالكي
بالنسبة للصراع بين المالكي والتيار الصدري فقد رصدت الكاتبة نماذج
وحالات تدل، مهما اختلفنا مع تحليل ماريا، على اطلاع واسع ودقيق على
مجريات الاحداث السياسية في العراق، اذ أنها تقر مبدئيا انه " في عام
2007 اجبرت قوات المالكي جيش المهدي التابع للصدريين على الخروج من
البصرة" ولكن على الرغم من ذلك لم تصل المواجهة بينهما الى النهاية،
فقدت استمر الصراع فيما بينها، وعلى نفس الوتيرة، ولكن هذه المرة اصبح
للتنافس بعدا آخر إذ أصبح " من خلال الوسائل السياسية بدلا من العسكرية
" على حد تعبيرها.
هذه الوسائل السياسية تتمثل، مثلا، في محاولة التيار الصدري السيطرة
على وزارات رئيسية مثل وزارات المياه الإسكان والبناء والبلديات
والتخطيط. وإما بالنسبة لما يمكن ان يقوم به المالكي لمواجه التيار
فنجد ان ماريا تشير الى ان المالكي يحاول تفادي هذه السيطرة من خلال "
السيطرة على المحافظات والوزارة الأمنية حيث يستطيع المالكي، انذاك،
حجب التمويل والقيام بمناورة فيما يتعلق بالتحالفات الداخلية، بالإضافة
الى نشر القوات المسلحة".
ولا أجدني متفقا مع الكاتبة تماما في هذا الرأي.. نعم المالكي
وائتلاف دولة القانون قادر على القيام بمناورات سياسية من اجل القيام
بائتلافات وتكتلات سياسية في داخل مجالس المحافظات وهو حق مشروع له،
كما لغيره، في ظل نظام ديمقراطي، أما أن يقوم بحجب التمويل عن المشاريع
فهذا غير ممكن لان تمويل المشاريع والميزانية العامة لكل وزارة تقر من
قبل البرلمان وتصرف له من قبل وزارة المالية.
واما عملية نشر القوات المسلحة فلا اعرف ما الرابط بينها وبين
الصراعات السياسية مع التيار الصدري وكيف يمكن أن تكون بصالح المالكي...
وليت الكاتبة توضح لنا ماذا تقصد بهذه العبارة او كيف يكون تصورها لها.
ساحة المعركة ومشاريع التيار
تعتقد ماريا ان جنوب العراق هو " ساحة المعركة الرئيسية " بين
التيار الصدري والمالكي، فالصدريون " على حافة انشاء معقل قوي لهم في
محافظة ميسان" وهم يسيرون بخطوات محسوبة وان تكن بطيئة في المحافظات
المجاورة مما " يهدد ائتلاف دولة القانون الذي يتزعمه المالكي في مجالس
محافظات البصرة وبغداد".
وقبل أشهر قليلة فقط، بدات الوزارات التي يديرها مرشحو التيار
الصدري، كما تلاحظ ماريا، ببناء المجمعات السكنية في ميسان، وتنفيذ
مشاريع البنى التحتية في المثنى، وتوفير الكهرباء في محافظة ذي قار،
وتحسين فرص الحصول على المياه في النجف. بل ان التيار الصدري يستفيد من
جهود المالكي وخططه للمشاريع في العراق " من خلال اللجان المحلية
والوزارات التي يديرها مرشحو التيار".. وتأتي ماريا على ذكر مثال واضح
في العاصمة بغداد اذ حينما " بدأت الحكومة بتوفير الوقود المجاني
لتزويد المولدات الكهربائية، بدأت لجان التيار الصدري بتنظيم توزيعها
على كل منزل في مدينة الصدر والشعلة".
وازاء مايفعله التيار الصدر ولجانه في ارض الواقع تذكر ماريا آلية
أخرى يقوم بها المالكي تجاه التيار حيث تقول بان " المالكي يقوم بعرقلة
هذا التدفق في الاعمال والمشاريع عن طريق الحد من التمويل الحكومي،
وتاخير الموافقة على تنفيذها، وإعاقة الاستثمار الاجنبي".
وكم كنا نتمنى ان توضح ماريا هذه الأساليب التي يتبعها المالكي
بأمثلة واضحة لكشف الحقيقة اكثر وتعريتها للقارئ لكنها لم تفعل ذلك بل
تاتي على مثال لا أظن ان التوفيق قد اصابها فيه اذ انها توضح بانه "
حينما بدأ مشروع الري في شط العرب في البصرة فان المالكي قام بانشاء "
المجلس الوطني للمياه تحت رئاسته وقوض وزارة الموارد المائية في هذه
العملية"، فضلا عن ان انشاء مجلس وطني للمياه او للطاقة او للكهرباء هو
امر يكشف عن اهمية هذه الملف بمكان بحيث استدعى ذلك ان يشكل مجلسا يضم
عدة وزارات ونائب من نواب رئيس الوزراء وربما أحيانا رئيس الوزراء نفسه.
الصراع في المحافظات
وفي الصراع حول المحافظات العراقية قام التيار، كما تقول ماريا،
بدعم المظاهرات التي استهدفت محافظ البصرة وبابل وجمعوا تواقيع 75 عضوا
في البرلمان التي دعوا فيها رئيس محافظة بغداد على الاستقالة. وفي
البصرة، كان المالكي قادرا على اقامة شراكة جديدة مع المجلس الإسلامي
الأعلى في العراق لينتخبوا مرشح موالي له لكنه لم ينجح بذلك، وكذلك في
محافظة بابل، حيث تم انتخاب مرشح منافس هو محمد علي المسعودي، الذي
انتخب محافظا في 18 اذار.
طبعا لم تكن ماريا دقيقة في هذا الأمر حيث تخلط بين البصرة وبابل..
فلا تشابه في الوضع بينهما، صحيح ان محافظ بابل الحالي من المجلس
الاعلى لكن لم يخسر المالكي معركة البصرة الانتخابية فالمحافظ الجديد،
الذي خلف السيد شلتاغ عبود المستقيل تحت الضغوط الشعبية وبنصيحة من
المالكي، ينتمي لدولة القانون وهو السيد خلف عبد الصمد خلف الرئيس
السابق لمؤسسة الشهداء.
ماريا تٌنهي مقالتها في نقطة مركزية تؤكد فيها حقيقتين ربما تحملان
قليلا من التناقض..
الأولى: ان الصراع على القيادة السياسية في المحافظات، وعلى الاخص
في بغداد والبصرة
"سوف يحدد في نهاية المطاف شروط الارتباط والعلاقة بين المالكي
والصدريين في الحكومة المركزية".
الثانية :يتعين على المالكي والصدريين الاعتماد على بعضهما البعض،
فالمالكي لا يستطيع ان يعتبر الصدريين اعداء، خاصة في الوقت الذي تجري
فيه مناقشة تمديد بقاء القوات الامريكية في العراق.
وللمالكي في ذلك فوائد جلية اهمها ان بقاء التيار الى جنب المالكي
سوف " يمنع انفجار السخط الشعبي، وسيؤدي الى تقوية الدعم لحكومته،
وتتيح له مواصلة تشديد قضبته على مؤسسات الدولة".
[email protected] |