إذا كان العمر لا يقدر بثمن، فإن ليلة القدر لا تشترى بالذهب !، ولو
وضعناها في الميزان فإنها ستساوي: ((خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ)) كما
صرح الباري عز وجل بذلك، لم يغفل القرآن بتخصيص سورة كاملة لهذه الليلة
المباركة، فضلاً عن الإشارات العديدة لها في سور أخرى، فلولا هذه
الليلة العظيمة لما أصبح شهر رمضان "ربيع القرآن".
ففي هذه الليلة نزل الذكر الحكيم جملة واحدة ((إِنَّا أَنْزَلْنَاه
فِيْ لَيْلَةِ القَدْرِ))، ولو كشف لنا الغطاء في سواد هذه الليلة
لشاهدنا أفواج الملائكة لا تقف ((تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ
فِيهَا))، إنها ليلة يقدر الله فيها ما شاء من أمره إلى السنة القابلة،
ورد في الدعاء: ((اَللّـهُمَّ اِنّي اَساَلُكَ فيـما تَقْضي وَتُقَدِّرُ
مِنَ الاَمْرِ الَمحْتُومِ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ، مِنَ الْقَضاءِ
الَّذي لا يُرَدُّ وَلا يُبَدَّلُ...)).
إنها ليلة السلام فلا سبيل للشيطان فيها على أحد، فحري بنا أن نطوي
الفرش وننتزع النوم من المقل، لنقطف ثمار الرب الكريم، إلا إن العجب كل
العجب من تلكم الزرافات التي تتهجد حول الشاشة الحمراء، وتتحلق حول ما
لذ وطاب من أفيون الشيطان الرجيم، حتى في مثل هذه الليلة الخاصة،
فالشقي كل الشقي من فاته قطار هذه الليلة بالنوم والكسل، والأشقى منه
من ركب قطار إبليس ليسوقه إلى النار زمراً، العجيب حقيقة بعد كل ذلك
أنهم يلبسون الجديد مودعين شهر الصيام وليلة القيام، إلا أن العيد ليس
لمن لبس الجديد فوق أوساخ المعاصي وقاذوراتها، بل العيد لمن أمن الوعيد
بتقواه واغتنام مواسم الخير.
بل إنه لمن المعيب والمخجل أن نحث ونرغب في ليلة كهذه لأمة تعتقد
بأهميتها وضرورتها، وقبل أن يطلع فجر ليلة السلام علينا أن نضع الخارطة
ونتدارك بتثبيت برنامج عملي جاد، بل إن استحضار القدوة النبوية وهو
يطوي فراشه مشمراً عن ساعديه (صلى الله عليه وآله وسلم) في العشر
الأواخر لهي الملهمة لنا والمنيرة لنا في زمن الظلام، وهو العليم بتلك
الليلة وغني أن يتحراها، وكأن لسان حاله ((أفلا أكون عبداً شكورا ؟!))،
لقد ذكر أنه (صلى الله عليه وآله وسلم): (إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا
ليله وأيقظ أهله)، لقد ابتعدنا عن القربة من الله تبارك وتعالى طيلة
سنة كاملة، فآن الأوان أن نحاسب أنفسنا وأن نقف صادقين معها ونحن نتلوا
قوله تعالى: ((أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ
قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ))!!
بلى آن الأوان، وإحياء هذه الليلة هي القداحة التي تنير لنا الدرب
والطريق إن شاء الله، وإن كانت الذنوب بعدد نجوم السماء ومثاقيل الجبال
ومكاييل البحار، فما أيسر بلوغ هذه الليلة لمن أرادها..
وداعاً يا لليلة القدر.. وداعاً يا شهر الصيام.. وداعاً يا ليالي
البركة، وداعاً يا شهر القرآن، فماذا نقول لمن أضاع هذه الأيام ولم
يقرأ من كتاب الله شيئاً ؟!، أو جاء بزاد قليل لا يغني ولا يسمن من جوع
لرحلة طويلة السفر !! |