ليحفظ الله أمريكا... فهل يفعل؟

علي الأسدي

أثناء متابعتي للاتفاق الذي تم بين الجمهوريين والديمقراطيين، والمساومات التي سبقته، وحجم الديون المتراكمة التي يتوقع أن تكون المهمة رقم واحد في أولويات الرئيس أوباما في المدة المتبقية من ولايته الحالية في القصر الأبيض، اكتشفت أن تلك الديون أشبه بجبل جليدي عائم، لا تشكل قمته البلورية إلا الجزء الضئيل منه، لكن الجزء الضئيل هذا هو الأكثر اثارة للجدل بين السياسيين الأمريكيين من ذلك الجزء المخفي من الجبل الجليدي.

 فخصوم الرئيس أوباما قد جعلوا من موضوع سقف الدين قضية موت أو حياة بالنسبة لهم، ولولا الحملات الاعلامية الممولة من قبل اليمين المتطرف في الحزب الجمهوري لما شكل العجز المالي أزمة ثقة بالاقتصاد الأمريكي، ولكان موضوع زيادة سقف الدين مجرد قرار روتيني فحسب يتخذه الكونغرس دون ضجيج، مثله مثل عشرات القرارات التي يتخذها عبر اجتماعاته الروتينية.

 ردود الأفعال التي شهدتها البورصات المدارة من قبل شركات المضاربة الكبرى غير بعيدة عن سعى وسائل الاعلام اليمينية لاستخدامها كوسيلة لبث الرعب في نفوس الناخبين الأمريكيين بالدرجة الأولى.

فأين تكمن مشكلة العجز المالي في الميزانية الحكومية، وما مغزى أن تكون الدولة مدينة بتلك المبالغ الهائلة، وهي الأغنى والأقوى اقتصادا في العالم. الأزمة الحالية، والمصاعب التي يمر بها المجتمع الأمريكي ليست مناسبة للتشفي، لاظهار الولايات المتحدة بالدولة التي تواجه عقاب السماء لكثرة ذنوبها.

 انه العكس تماما، فهذا وقت التضامن مع الأمريكيين من دافعي الضرائب، فهم يواجهون أشد أزمة اقتصادية بعد تلك التي عانى منها آباءهم وأجدادهم إبان الركود العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي. واذا كان الدعاء مقبولا من ماركسي فاني أضم صوتي الى الأمريكيين الذين المتطلعين إلى المستقبل مرددين الدعاء " ليحفظ الله أمريكا ".

 تبدو صورة الدين العام الأمريكي كالآتي، مجموع موارد الميزانية التي تأني من الضرائب في الأغلب ومن مصادر أخرى، ينبغي أن تساوي مجموع النفقات في الأمد الطويل وليس العكس، كما يحدث الآن بالضبط، فالميزانية الفيدرالية غير متوازنة، حيث مواردها أقل كثيرا من مجموع النفقات الملزمة للحكومة الأمريكية. يمكن للنفقات أن تزيد عن الموارد خلال السنة المالية، لكن ينبغي تلافي ذلك في السنوات التالية، واذا ما استمر التوازن السالب على هذا الحال يتضخم العجز، ولابد حينها من البحث عن مصادر لايرادات مالية اضافية لتستطيع الحكومة تنفيذ مسئولياتها الادارية والمالية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية (مثل البرامج الاجتماعية والرعاية الصحية واعانات البطالة ونفقات الأمن والدفاع والشؤون الخارجية وغيرها كثير).

 ومع أن نفقات الحرب العراقية وأفغانستان وليبيا وغيرها لا ترد في حساب الميزانية المالية الفيدرالية، وانما تضمن في ميزانية منفصلة تدعى Supplement Approriations ,، لكنها في النهاية تضاف إلى حساب الدين العام اذا لم يكن هناك فائض في الميزانية يغطيها.(1)

 فلماذا تواجه الميزانية عجزا دائما في الايرادات الضريبية وهي أهم البنود في حساب الموارد المالية؟؟

للاجابة على هذا التساؤل يتطلب أولا تحديد الوعاء الضريبي، وهي المادة التي يقع عليها الفعل الضريبي، والمقصود هنا بشكل خاص الدخل بمختلف مصادره. ففي الوقت الذي يدفع أكثر الأمريكيين الضرائب على دخولهم دون تأخير يمتنع الأغنياء عن فعل الشيء نفسه، بل ويسعون بإلحاح للحصول على اعفاءات ضريبية جديدة. وقد وافق الرئيس الأمريكي أوباما أخيرا على الاستجابة لضغط الجمهوريين بمواصلة تنفيذ الاعفاءات الضريبية على دخول الشركات الكبرى والأثرياء التي كان سلفه الرئيس بوش قد أصدرها خلال فترة ولايته. وفي هذا تكمن أسباب العجز الدائم في الميزانية الفيدرالية السنوية، لأن هذا يحرم الميزانية من اهم ايراداتها. إن آخر التوقعات عن العجز المالي لميزانية 2011 هو (1,3) تريليون دولارا، كما توقعه مكتب ادارة الميزانية (OMB)، وهو اعلى من عجز ميزانية عام 2010 الذي بلغ (1,17) تريليون دولارا، وأقل من عجز عام 2009، الذي بلغ حينها (1,7) تريليون دولارا. وقد أثر هذا العجز على مبلغ الدين العام، فارتفعت نسبته الى 95 % الناتج القومي الاجمالي للولايات المتحدة لعام 2010، بزيادة بلغت 51 % عن مستواه في 1988.

المشكلة التي تواجه الاقتصاد الأمريكي لا تكمن فقط في مبلغ الدين نفسه، بل بعبئه الناتج عن تراكم الفوائد المترتبة عليه. فقد بلغت الفوائد (414) بليون دولارا في عام 2010 وحدها، و383 بليون دولارا عام 2009. ويعتبر بند الفوائد على الدين العام خامس أكبر بند في حسابات نفقات الميزانية الفيدرالية لعام 2010، حيث يأتي بعد نفقات الدفاع (890) بليون دولارا، ونفقات اعانة البطالة (730) بليون دولارا، ونفقات الرعاية الصحية (400) بليون دولارا.(2)

حسابات الدين العام الأمريكي معقدة جدا، فرقم الدين العام الفيدرالي الذي تم تداوله في وسائل الاعلام، لا يعكس واقع المديونية بكاملها، ولهذا ينبغي القاء نظرة من الداخل، والبحث في زوايا النظام المالي الامريكي للكشف عن واقع تلك الحسابات المعقدة التي يعمل في ظلها الكونغرس والرئيس الأمريكي والبنك الفيدرالي. الحكومة الأمريكية في الحالة التي هي الآن حيث حاجتها الماسة للمال للقيام بوظيفتها، تستفيد من أموال صناديق التقاعد، والضمان الاجتماعي، والتأمين الطبي والدوائي، والرعاية الصحية، وهي أموال يدفعها المواطنون خلال فترة حياتهم العملية كجزء من التزاماتهم تجاه تلك الصناديق التي تشارك في تمويلها الدولة وفق القانون، والتي تكون متاحة لهم بعد سن التقاعد (70) عاما، أو اثناء العجز والاعاقة والمرض والبطالة.

 ذوي الدخل العالي يدفعون التزاماتهم لكنهم نادرا ما يستعينون بالضمانات الاجتماعية، لهذا فمدفوعاتهم خلال فترة حياتهم العملية تبقى في تلك الصناديق متاحة للحكومة لتستخدمها عند الحاجة. الأموال المتجمعة في هذه الصناديق اما أن تكون في صورة نقد، أو بصورة سندات حكومية تدر عليها فوائد، وخلال السنين تصل مبالغها عشرات التريليونات من الدولارات، وخاصة بعد أن تضاف لها الفائدة السنوية باعتبارها مودعة في صناديق توفير.

 ما يحدث في الولايات المتحدة أن الحكومة تقترض جزء من هذه الأموال بدون فائدة، لتمويل نشاطاتها، وتبقى ملزمة وفق القانون باعادتها إلى الصناديق التي اقترضتها منها، لكنها لا تعتبر جزء من الدين العام. وتسعى الدولة لاعادة هذه الأموال إما عن طريق فرض ضرائب جديدة، أو الاستدانة عن طريق اصدار سندات مالية، واذا تعذر على الحكومة فرض ضرائب جديدة بسبب معارضة الجمهوريين فلن تتمكن أية حكومة أمريكية من ارجاع هذه الأموال ابدا، وبخاصة ليس لها قطاعا اقتصاديا يمدها بالمال من الأرباح التي يحققها. وتقدر مبالغ الأموال المقترضة من هذه الصناديق بحوالي (45.8) تريليون دولارا، منها، (7.7) تريليون من حساب اعانات البطالة والضمان الاجتماعي و (38.2) تريليون دولارا من حساب صناديق الرعاية الصحية العامة. واذا ما أضيفت هذه المبالغ إلى الدين العام الحالي البالغ حوالي (16) تريليون دولارا فسيرتفع مبلغ الدين العام إلى (62) تريليون دولارا. (3)

وخلال ما تم سرده يمكننا تمييز ثلاث مصادر للديون الفيدرالية :

أولا – دينا عاما تجاه الخارج، دولا وشركات وأفرادا ويبلغ حاليا حوالي(4.49) تريليون دولارا.

ثانيا – دينا حكوميا داخليا تجاه الشركات والمصارف والأفراد، ويبلغ حوالي (12) تريليون دولارا.

ثالثا – دينا داخليا مصدره الاحتياطيات المالية المحتفظ بها في الصناديق الاجتماعية لأغراض الضمان الطبي والتقاعد والبطالة وغيرها، وهذا لا يحتسب ضمن الدين العام الذي يجري الحديث عنه وهو (45.8) تريليون دولارا.

هناك أسبابا عديدة تدفع كلا من الأمة والحكومة الأمريكية والدائنين، وبشكل خاص الدائنين الأجانب للقلق وكتم الأنفاس، يتطلب الاحاطة بها عند تقييم الوضع الاقتصادي الأمريكي والدولي. خشية الدائنين من أن لا تتمكن الحكومة الأمريكية من دفع ما بذمتها من ديون (قيمة سندات الخزينة الأمريكية التي يحتفظون بها) هو قلق له ما يبرره لو أن الدولة المدينة هي غير الولايات المتحدة. مثل هذا الاحتمال بعيد الاحتمال تماما، لأن الولايات المتحدة آخر من يصل إلى هذه الحالة، لكونها أقدر اقتصاديا من أي دولة قائمة حاليا على ضمان حقوق الآخرين عليها.

 أما مصدر القلق الآخر الذي يسلب الدائنين راحة البال فهو هبوط قيمة الدولار الأمريكي الذي يعني بنفس الوقت تناقص قيمة السندات التي بحوزتهم، وهو قلق مشروع في ظل عدم اليقين والشائعات السائدة في أسواق المال. فهذه تغذيها شركات المضاربة الدولية التي ترى في الوضع الحالي فرصتها لحصد مليارات الدولارات أرباحا أسطورية على حساب الحكومة الأمريكية وحملة السندات وذوي الدخل المحدود من أبناء الشعب الأمريكي الذين سيكونون أول المتضررين من هبوط قيمة الدولار، وما يعنيه ذلك من تآكل القوة الشرائية لدخولهم دون أن يكون لهم ذنبا في ذلك.

بالنسبة للحكومة الأمريكية فان استمرار هبوط قيمة الدولار ينظر اليه من جانبين، الجانب الايجابي فيه أنه يساعد كثيرا في زيادة الصادرات الأمريكية، حيث سيحسن من وضع الميزان التجاري مع بعض دول العالم ربما مع الصين الشعبية. ومن غير المعلوم إلى أي حد سيتغير الرصيد السالب مع الصين إلى رصيد ايجابي لصالح الاقتصاد الأمريكي، فللصين الكثير من العوامل تجعلها قادرة على غزو الأسواق الأمريكية، ليس هنا مجال بحثها.

أما الأثر الضار لهبوط الدولار في أسواق المال فينعكس على امكانية الولايات المتحدة في الاقتراض من السوق الدولية في حالة اصدارها سندات جديدة، وفي هذه الحالة سيطلب الدائنون أسعار فائدة أعلى على قروضهم للحكومة الأمريكية لتعويض انخفاض قيمة الدولار أو ضعفه مقابل العملات الرئيسية الأخرى. ويتوقع أن ترتفع أسعار الفائدة على السندات بنسبة تزيد عن (0.37)، وربما إلى (0.50 %)، وسيعني هذا زيادة عبء الدين بمبلغ (7.5) بليون دولارا في العام، ليرتفع مبلغ العبء الكلي إلى (71) بليون دولارا سنويا. زيادة الدين العام وأسعار الفائدة سيقود إلى ارتفاع نسب التضخم، بنفس الوقت الذي لا توجد أية مؤشرات على زيادة الضرائب لتوفير زيادة في الموارد المالية تخفض من عجز الميزانية، وحتى لو حصلت زيادة في موارد الضرائب فانها ستتآكل بفعل الزيادة في التضخم. لجنة الشئون المالية في مجلس النواب الأمريكي CBO توقعت هبوط الناتج القومي الاجمالي خلال العشرة أعوام القادمة بنسبة 0.1 % بما يساوي 310 بليون دولار خلال الفترة نفسها. واذا ما زادت نسبة التضخم بنفس الفترة بنسبة 1 % فان ذلك سيسبب زيادة في العجز مقدارها (867) بليون دولار، وبذلك يكون المبلغ (917) بليون دولار الذي سيتم توفيره خلال العشرة أعوام القادمة بناء على الاتفاق الذي حصل يوم الثاني من أب الماضي قد تبخرت تماما. (4)

ما تحتاجه الولايات المتحدة في الوضع الراهن باختصار هو:

1- ترشيد الانفاق على العمليات العسكرية في الخارج تمهيدا لوقفها تماما، فهي أحد أهم بنود نفقات الميزانية وأحد أسباب تضخم الدين العام.

2- تحسين وضع الميزان التجاري الأمريكي، بمحاولة كبت الاستيراد من دول كالصين وبعض دول اسيا بهدف جعل الميزان التجاري أما متوازنا، أو موجبا معها. ومن جانب آخر اتخاذ ما يلزم لتشجيع التصدير لدول الاتحاد الأوربي الذي يشهد تراجعا.

3- دعم وزيادة الأموال للاستثمار في البنية التحتية بما فيها التعليم وتدريب وتعليم القوى العاملة على نطاق واسع لزيادة حظوظها في الحصول على عمل مما يساعد على تنشيط طلب المستهلكين.

4- الغاء الامتيازات الضريبية التي تتمتع بها قلة من الأمريكيين، وزيادة نسب الضرائب على أرباح الشركات الكبرى، والغاء حق الشركات والأفراد بالاحتفاظ بحسابات في الواحات الضريبية.

تلك هي اجراءات ينادي بها مختلف الاقتصاديين من شتى أرجاء الولايات المتحدة والعالم، بما فيهم أولئك الذين كانوا إلى فترة قصيرة ماضية من أنصار عدم التدخل الحكومي في الاقتصاد. أما انتظار قوى السوق الحرة لتفعل ما تعجز الحكومة عن فعله فسيؤدي بالاقتصاد الأمريكي والعالمي إلى اغراق احدهما الآخر، وسيعاني ما يقرب من ستة مليارات من البشر مزيدا من الحرمان والفقر والمجاعة

.....................

مراجع لمزيد من الاطلاع:

1-United States Government Accountability Office (GAO) , Website.1/2/2011

2-Treasury Report ,Foreign Holding of US Treasury Securities, April/2011

3- Marian Hutchinson, Don’t look Now But The National Debt Could Be 23 Trilion by 2021, moneymorning.com/4/8/2011

4-David Schultz, Lessons The Debt Deal- , Politics In The Age of American Decline, Hamline University , 5/8/2011

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 16/آب/2011 - 15/رمضان/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م